أخبار عاجلةمقالات

(ولا يزالون مختلفين)… عن أم الفحم المستهدفة ثقافيا وفكريا

حامد اغبارية
إن تعاطينا مع القضايا الصغيرة مثل تعاطينا مع القضايا الكبيرة، فكل شيء عندنا له قاعدة ننطلق منها في التعامل معه، وهذه القاعدة منطلقاتها ربانية سماوية، لا تتغير ولا تتبدل، رضي من رضي، وسخط من سخط. ولا يمنعنا ميلنا إلى توحيد الصفوف في مجتمعنا، مع ما فيه من مشارب وأفكار وإيديولوجيات، من أن نصدع بالحق ونرفع صوتنا به، كما لا يمنعنا خضوعنا للحق الذي نؤمن به من أن نتعامل بحسن الخطاب، ولين القول والدعوة إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن دون تذلل ودون خضوع أو خنوع، ودون تنازل عن ثابت، ودون مجاملات، تصل في أحيان كثيرة إلى نوع من النفاق والعياذ بالله. لا نقبل الدنيّة، ولكن أيضا لا نرضى بالأذية لأحد، ولا نسعى إليها. نمد كلتي يدينا لمن مد إلينا يدا واحدة بالمودة والتعاضد، ولكن لا نقف مكتوفي اليدين إذا جدّ الجد، وصار من واجبنا أن نبين فيه موقفا، ونكشف فيه خللا، ونصوّب فيه اعوجاجا، وندعو فيه إلى ما نراه صوابا. لا يردعنا عن ذلك قولُ قائلٍ: هذه فتنة، أو قولُ متشنجٍّ: هذه رجعية، أو قولُ مبغضٍ: هذه حرب على التقدم والتحضر والثقافة والفن…!
وإذا كان هناك من يظن أن الأمور “فالتة”، وأن “الميدان خلا لحميدان”، فهو مخطئٌ واهمٌ. فإنه لا يزال رجال رجال يقولون الحق، لا يحول بينهم وبينه ظلمٌ ولا عنجهية، ولا انفلات أخلاقي، ولا انتفاش الباطل، ولا علوّ صوته، ولا جعجعات المتخرّصين، الذين يشعلون الفتن ثم يتباكون على المجتمع، ويدْعون إلى حمايته من الفتنة! وهم- للحقيقة- “مبدعون” في أداء الدور وذرف الدموع “البريئة”، غير أن مشكلتهم (الصغيرة) أن طابقهم مكشوف للناس أجمعين.
عن أم الفحم أتحدث. وتحديدا عن الحفل الموسيقي الذي أعلن عن تنظيمه في قاعة سينماتيك هذا الشهر.
وكما في مرة سابقة، وقبل أن يعلن أهل العلم الشرعي الموقف في بيان، ولمجرد أنهم شمّوا رائحة موقف قادم، خاض الخائضون وألقوا بالتُّهم الباطلة جزافا، وراحوا يضربون يمينا ويسارا، وكأني بهم يتمثلون ذلك المثل الشعبي الذي يقول: “اللّي على راسه ريشة بحسّس عليها”.
قد تبدو قضية الحفل الموسيقي هامشية صغيرة إلى جانب ما يعانيه شعبنا ومجتمعنا جراء ملفات كبيرة، اجتماعية وأخلاقية وسياسية ووطنية وغيرها الكثير. ولهذا ترى الكثيرين يهوّنون من الموضوع، ليس لأنه هيّن، بل لأنها فرصة بالنسبة لهم يطعنون فيها بأهل العلم الشرعي وبالموقف الشرعي. وهذا دأبهم منذ وُجدوا، وأظنهم لن يرجعوا عنه، إلا أن يشاء الله تعالى لهم غير ذلك. غير أن قضية الحفل الموسيقي ليست بالمسألة الهامشية، ولو كانت كذلك لما جيشوا الجيوش، ولما جندوا (البروفيسورات) و (الجمعيات الثقافية) من خلف كل كثيب. بل هي في لب الموضوع. وحتى لو كانت هامشية، فلا بد من تبيان الموقف الشرعي منها، مثلها مثل أية قضية أخرى. وقد أحسنت “رابطة الأئمة والدعاة” في أم الفحم بإصدارها بيانا حول القضية، تبين فيه الموقف، دون أن تخشى في الله لومة لائم.
هي قضية في لبّ الموضوع، وليست هامشية، لأن أم الفحم – كمدينة وكعنوان وكرمز – هي أيضا في لب الموضوع، إن لم تكن لبّ الموضوع ذاته. فالمسألة إذًا ليست مسألة حفل غنائي مختلط (أو غير مختلط) فحسب، بل المسألة حرف بوصلة المدينة عن مركزيتها، وعن طابعها، وعن حالتها المغرقة في الخصوصية، وهي تغيير للأجندة والعودة بها إلى الوراء ثلاثين عاما؛ إلى أيام “السرمحة”. فبعد أن أعادها أهلها إلى مكانتها التي تستحق، يأتي اليوم من يريد (أو يريدون) سحقها تحت أنقاض التخلف والجهل، بعد أن أغرقوها بالدماء، وأشاعوا فيها الرعب والفوضى، حتى إذا ذُكرت “أم الفحم” اليوم جفل منها الناس واقشعرت أبدانهم، وتساءلوا: ما الذي أصابها وقد كانت كذا وكذا؟؟
نعم، كانت كذا وأكثر من كذا. كانت منارة ونموذجا يشع نورا وقوة ومنعة وصلابة وتديُّنا ووطنية. وكانت ملجأً وعنوانا. فمن ذا الذي يريد أن ينتهك هذا كله؟ من ذا الذي عمل على إفراغها من مضمونها، وإضعاف متانتها، وقوة حصانتها؟
يكفيني سببا أن ذاك الحفل الموسيقي ترعاه وزارة ميري ريغف، الغارقة حتى أذنيها في مستنقع العنصرية والكراهية لكل ما هو فلسطيني وعربي ومسلم. ذلك الكائن الذي لا يمكن أن يخطر في بال أحد منا أنه يريد بنا أو لنا خيرا أو تقدما أو نهضة أو تعلما أو ثقافة. أفلا يخجل أولئك الذين يصرّون على دفاعهم عن تنظيم الحفل من أنفسهم وهم يعزفون على وتر ريغف هذه؟! أم أن الغاية عندهم تبرر كل وسيلة؟! نعم، الأمر كذلك. وغايتهم محاربة كل وجه إسلامي للمدينة (ولمجتمعنا كله)، ذلك ديدنهم، وطريقهم الذي لا يعرفون غيره، مع ما فيه من قُبح وأوحال.
لست مفتيا، ولا عالما في شؤون الشرع، لكنني مسلم، أستطيع أن أميز الخبيث من الطيب، وأن أقرأ الحدث كما يجب أن يُقرأ. وهذا “الحدث الصغير” هو في الحقيقة كبير، لأن وراءه أجندات، تقف خلفها نفوس خبيثة، لا تريد بهذه المدينة القلعة خيرا. وقد خبرناهم لعقود، ونعرف نواياهم ومقاصدهم وأهدافهم ووسائلهم، كما نعرف أسماءنا.
يقولون لك: “إن الفن والثقافة هما أداة هامة لمحاربة العنف”. نعم، هذا صحيح، لكنه كلام حق يراد به باطل. فما هو الفن الذي يمكنه أن يحارب العنف؟ وأية ثقافة تلك التي تواجه ما يعاني منه مجتمعنا من انهيارات على كل المستويات؟ أهو الفن والثقافة التي قادت شعبنا وأمتنا إلى كل الهزائم التي نعرفها؟!
أيَّ فن نريد، وأية ثقافة نحتاج؟
أنا مع الفن، ومع المسرح، ومع السينما، ومع الثقافة. ولكن لماذا يريدون أن يفرضوا على مدينة كأم الفحم أسلوبا فنيا وثقافيا ذا طابع علماني بحت، ثبت فشله أصلا، في كل شيء، ولم يحقق أي هدف من الأهداف التي يتحدثون عنها؛ حتى إذا خرج من ينبّه وينصح ويبين موقف الشرع من مثل هذه النشاطات، رموه بالتخلف والجهل ومعاداة الفن والثقافة؟! إن كان من حق هؤلاء أن يدافعوا عما يرونه حقا ونراه باطلا، أليس من حق غيرهم أن يدافعوا عما يرونه حقا، وإن رآه الآخرون باطلا؟ عجبا لهم كيف يفكرون، وفوق أية أرض مائلة يرقصون!!
إن كان من حقهم أن يسيروا في هذا الطريق، فإن من واجبنا أن نبين للناس الطريق، وليس من حق أحد أن يحجر على عقول الناس، ولا أن يستخف بهم، ولا أن يهزأ بوعيهم. وغاية ما في الأمر بيان الحق كما أوجبه الشرع، فمن شاء قبل، ومن شاء رفض، وحسابه عند ربّه.
أما الكذبة الكبرى فقول قائلهم: “ولن نقبل أن تنعكس المعادلة بالتلويح بالعنف لمحاربة الفنون”. أيها الكذابون. من الذي لوّح بالعنف؟ وأين دليلكم؟ أم تظنون أن الناس لا يعون ما يدور من حولهم؟ إن كان عندكم دليل فاْتُونا به إن كنتم صادقين، أو كفُّوا ألسنتكم عن إلقاء الكلام على عواهنه، ورمي الناس بما ليس فيهم، وبما لم يقولوا ولم يفعلوا!
لقد فشلتم طوال الوقت، وأنتم اليوم أكثر فشلا من ذي قبل، ولهذا يغيظكم “الاستئثار” الذي تزعمون، وهو ليس كذلك، بل هو الخَيار. هو خيار الغالبية العظمى من أهل البلد. أم أنكم نسيتم؟ أم تراكم تتناسوْن؟! يغيظكم الطابع الإسلامي الرصين والمحافظ للمدينة، وتريدون “زحلقتها” (ومجتمعنا كلّه) إلى مستنقع العلمانية، وأنّى لكم هذا؟! أم الفحم لن تكون علمانية، وستبقى إسلامية، تجهر بالحق، حتى لو استهدفتها جهات فاسدة (خارجية وداخلية) بالعنف وسفك الدماء والتخلف الذي تسمونه فنا، والجهل الذي تسمونه ثقافة. ستنهض أم الفحم من جديد، وستنفض عن طرف ثوبها الناصع ما علق به من غبار “معارككم”.
ثم يقول قائلهم: “… إن من لا يعتبر نفسه جزءا من الحالة الثقافية فهذا حقه، ولكن ليس من حقه أن يمنع الناس أو يحرمهم من المشاركة فيها”. ولست أدري أأضحك أم أكفّ! هل منع أحدٌ أحدا من المشاركة؟ من أين لكم هذا؟ فليشارك من يشاء في ما يشاء. أم أن توضيح موقف الشرع من الموضوع يعتبر في نظركم منعًا وعُنفا؟! نعم… نعم… أنتم لا تحبون أن تسمعوا موقف الشرع، وتلوون عنق الكلام كي تحولوه إلى منع بالقوة وتهديد بالعنف. غير أن الذي غاب عنكم هو أن الناس أذكى بكثير مما تظنون، وأكثر وعيا مما تعتقدون.

بيان “البروفيسورات”:

أنا الآن أستطيع أن أجمع توقيعات 100 بروفيسور وحملة شهادة دكتوراه ومفكرين، (وليس عشرة فقط) على بيان يدعو رئيس البلدية الشيخ خالد حمدان إلى أخذ موقف حازم من موضوع الحفل الموسيقي هذا.
ولذلك فإن صدور تلك الرسالة، التي وجهها عشرة أساتذة أكاديميين إلى رئيس البلدية، لا تعني شيئا أكثر من أنها تكشف أن هناك أيد تلعب بالنار، ولا يرى إلا بعين واحدة، وإلا فما معنى أن تقول تلك الرسالة: “… ومن منطلق الحفاظ على الوحدة الفحماوية بجميع فئاتها وتوجهاتها، واحتراما للتعبير عن الرأي للجميع، نتوجه إليك (لرئيس البلدية)… بإيقاف جميع التدخلات والتهديدات من كافة الجهات التي تحاول عرقلة سيرورة البرامج الثقافية والفنية…. الخ”.
حسنا! إذا كنتم حريصين على الوحدة الفحماوية، أليست “الجهات” التي تزعمون أنها تحاول عرقلة البرامج الثقافية بالتهديدات والتدخلات جزءا من النسيج الفحماوي الذي تحرصون على وحدته؟! أهكذا تكون الوحدة، أم تريدونها وحدة “على الوحدة ونصّ”؟! وإن كنتم تعتبرون التيار الإسلامي (الغالب في أم الفحم) فئة من فئات المدينة ومن توجهاتها، أفلا يحق له أن يعبر عن رأيه؟ أم أن “احترام التعبير عن الرأي” مقصور على أناس دون أناس؟
كان عليكم ، وأنتم من أهل الثقافة والعلم، أن تدعوا الجميع إلى كلمة سواء، وإلى نقاش هادئ، وإلى حوار مسؤول، بدلا من رسالة كهذه أقل ما يقال فيها إنها إقصاء للرأي الآخر، خاصة وأنه رأي شرعي معتبر، ومحاولة لفرض أسلوب وسلوك ومظهر يميز فئة دون فئة.
إن من حق رابطة الأئمة في أم الفحم، ومن حق كل فحماوي أن يعبر عن رأيه في هذه القضية. لكن الأهم من ذلك أن من واجب رابطة الأئمة بيان الموقف الشرعي من الموضوع، وليس من حق أحد أن يحجر عليها. والرابطة في هذه الحالة ليس لها حرية الاختيار بين أن تعلن موقفها من عدمه، ذلك أن بيان الحق واجب شرعي لا مفر منه.
وأقولها بصراحة ودون مواربة: إنها معركة بين الحق الذي أنزله الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم، وبين الباطل بكل أصنافه وجيوشه وأوكاره.
إن التيار الإسلامي الذي يحارَبُ اليوم من جهات الدنيا الأربع، لا يمكن أن يلتقي فكريا ولا ثقافيا ولا عقائديا مع التيار العلماني (بكل مشاربه وتوجهاته). هو لم يلتق معه في السابق، ولا يلتقي معه اليوم، ولن يلتقي معه في المستقبل، فالأجندات مختلفة، والمسافات بين الطرفين بعيدة، وهما على طرفي نقيض. نعم، قد يلتقي الطرفان في مساحات معينة حول قضايا مشتركة، لكن هذا لا يعني أن نتنازل عن الثوابت، ولا أن نقبل الدنيّة من أجل مصلحة هنا، وظرف طارئ هناك.
وأخيرا: هذه دعوة أخوية صادقة إلى رئيس البلدية الشيخ خالد حمدان: أنت صاحب القرار الأخير. أيكفيك هذا؟! أيرضيك هذا؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى