أخبار رئيسيةأخبار عاجلةمقالات

إسحاق فرحان … عين الكرم !

أسامة جمعة الأشقر

لم أستطع أن أغالب فكري المجهد بعد ساعات كتابة طويلة امتدت لعشر ساعات حين قرأت خبر وفاة الدكتور إسحاق أحمد فرحان صباح الجمعة 6/7/2018 فهرعتُ لأكتب لمسة وفاءٍ لهذا الرجل الفذ الباذخ الثقافة بالكتابة عنه لاسيما أنني عرفتُ الدكتور إسحاق عن قرب من خلال عملي مديراً تنفيذيا لاحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية عام 2009 وكان يشغل منصب رئيس الحملة آنذاك ، وأتيح لي التواصل معه مباشرةً ، والعمل تحت قيادته، والتقيتُه مراراً في دمشق وبيروت وزرته في منزله في العاصمة الأردنية عمّان، وأفخر أنني عملت معه في شأن عظيم مثل القدس التي نشأ فيها وجاهد في دروبها ، وله فيها سجل مستور حتى الآن نتمنى أن يرفَع عنه الستار.

وسمعته مرات عدة يتحدث عن طفولته في عين كارم في ضواحي القدس التي ولد فيها عام 1934م ، ويحكي بذاكرة طفولية غضة عن عبد القادر الحسيني شهيد القدس وقائد جهادها وإعجابه به أثناء حديث الناس عنه، ويروي قصة لجوء أهالي قرية دير ياسين بعد المجزرة الشهيرة التي ارتكبها الصهاينة فيها، وعن مجاهدات الرعيل الإسلامي الأول بقيادة عبد اللطيف أبو قورة في تلال القدس… ثم اضطر لمغادرتها مع أسرته إلى الأردن وعمره إذ ذاك 12 عاماً .

اختار الفرحان التيار الإسلامي لينضم إلى صفوفه في مرحلة مبكرة في الابتدائية بين زخم الأحزاب القومية والبعثية والشيوعية واليسارية حيث كان هذا التيار الأقرب إلى فطرته وتديّنِ عائلته وقريته، وشارك في فعالياتها ونشاطاتها الثقافية والتعبوية المناصرة للقضية الفلسطينية، وتعمقت صلته بالحركة الإسلامية أكثر عند زواجه بابنة أحد قادة الحركة في مدينة السلط عبد الحليم بدران.

ابتعثته وزارة المعارف الأردنية بعد تفوقه في التوجيهي ليدرس في الجامعة الأمريكية في بيروت، فحصل على شهادة في البكاريوس بتخصص الكيمياء ثم الماجستير منها في التخصص ذاته؛ ولم يشفع له تفوقه في الجامعة ونيله الأولية في التغاضي عن نشاطه الإسلامي داخلها حيث شارك في تأسيس النوادي الإسلامية والحراك الإسلامي فيها ففصل ستة أشهر من الجامعة لاسيما بعد أن عبّأ الطلاب المسلمين باتجاه عدم الالتزام بالمشاركة في دخول الكنيسة لمرتين في الأسبوع، وقد أثارت هذه القضية الرأي العام في حراك طويل أدى إلى تراجع الجامعة عن قرارها بالفصل والاكتفاء بالستة أشهر.

ثم حصل الفرحان على منحة لدراسة الدكتوراه في التربية من جامعة كولمبيا الأمريكية بعد فوزه في المسابقة الخاصة بالانضمام لها، وبعد عودته عمل في سلك التربية وصرف لها جهده الأكاديمي وبدأ فيها مديراً للمناهج والكتب المدرسية. وكان وصفي التل رئيس الحكومة الأردنية قد استمع للفرحان في محاضرة له في رام الله قبل حرب 1967 وأعجب به، فرشحه للعمل معه في وزارته فاشترط عليه الفرحان أن يمسك بملفي التربية والأوقاف ويجمع بينهما فوافق التل على ذلك، وكان الفرحان يرى أن التل لديه رؤية في التغيير، وفاته حس التقدير السياسي أن هذه الحكومة تورطت في أيلول الأسود التي تسببت في إغلاق جبهة مقاومة مهمة.

وقد تابعتُ أعماله في مربع الاستراتيجيات التربوية التي تتجاوز الأنماط التقليدية والأشكال الإشكالية إذ كان الرجل علماً رائداً من رواد التربية والتعليم ، لم يكتفِ بالتأليف والتدريس فيه إذ أصدر كتابه الشهير “التربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة ” مع عدد من زملائه أوائل الثمانينات رسم فيه مسارات الرؤية الإسلامي للعمل التربوي، من واقع خبرة عملية قيادية حيث تولى منصب وزير التربية والتعليم والأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردنية عام 1973م ، ورئاسة الجامعة الأردنية عام 1976 لسنتين… ، وكان هذا المنصب الذي شغله قد أتاح له تمكين رؤيته الاستراتيجية في التربية والتعليم على مستوى الأردن، وقد خالف فيه رأي قيادته التنظيمية بعدم تولي أي منصب ، ودفع ثمن موقفه بالخروج التنظيمي، وأثبت حينها أنه رجل مبادئ وقيم لا يمكن أن يغريه المنصب وينحرف به نحو مزالق مظنونة، وما تزال بصمته وأثره في ذلك المجال محفورة إلى يومنا هذا عبر الكثير من المبتعثين للدراسات العليا في الخارج، وعبر تغيير المناهج ، وتدريب المعلمين، وتأسيس مفاهيم تربوية تنسجم مع الرؤية الإسلامية وتبتعد عن مفاهيم العلمانية التجريدية، ووضع قواعد أخلاقية لمهنة التربية والتعليم، ولم يكن منحازاً في اختياراته بل كان يعمل وفق نظام الكفاءة بإنصاف الجميع، وهكذا كانت سياسته أثناء رئاسته للجامعة الأردنية؛ وله مبادرته في بناء نموذج للتعليم الأهلي من خلال تأسيسه لجامعة الزرقاء الأهلية التي تولى رئاستها، وإن كان الناس قد أخذوا عليه أنه لم يضع ما يكفي من الحماية لئلا تتسرب بعيدا عن مسارها كما حصل لاحقا.

كان مبدئياً في التزامه السياسي بالقضية الفلسطينية فاستقال من حكومة زيد الرفاعي بعد قرارها المشاركة في مؤتمر دولي يخص القضية الفلسطينية سيشارك فيه وفد صهيوني رسمي، وقد أوضح رؤيته المبدئية في كتابه ” البعد الإسلامي للقضية الفلسطينية” وله عشرات المواقع التي انتُدب لها أو شارك فيها في هذا المجال، ودافع بشدة عن جهاد أهل فلسطين ضد الاحتلال وحقهم في ذلك، وختم حياته برئاسته الطويلة لملتقى القدس الثقافي في الأردن والذي كان وما يزال شعلة مقدسية وهّاجة.

كانت مدرسته السياسية مرنة ولا تهتم بالأشكال، ويميل فيها إلى النمط الفكري في العمل السياسي ولا يمارس التدوير والالتفاف، وكان واضحاً في سلوكه السياسي ، وله طريقته في إدارة الخلاف والتنوع في المؤسسات السياسية وكانت له تجربة عملية في منصب الأمين العام لجبهة العمل الإسلامي مرتين .
كان الدكتور إسحاق ذا بسمة لطيفة، ووجه مستدير يكتنفه البياض المهيب يقوم على جسد ممتلئ فاخر الأركان يجذبك إلى شخصيته بمجرد رؤيته .

رحمه الله وتقبله في الصالحين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى