أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (3).. فلسطين في العهد العثماني (2)

حامد اغبارية
عملت قوى الاستعمار الغربية، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا، ومن خلفهما روسيا، على تفتيت الدولة العثمانية من الداخل، من خلال شراء ذمم عدد من الباشوات المقربين من السلطان العثماني، وتأسيس جمعية الاتحاد والترقي التي بدأت الإعداد للثورة ضد السلطان والانقلاب عليه، في الوقت الذي بذلت تلك القوى الاستعمارية كل وسيلة لإضعاف الاقتصاد في الدولة العثمانية، من خلال خلق أزمات، كوسيلة أخرى للضغط على السلطان عبد الحميد لتقديم تنازلات، ولما لم تُجْدِ كل هذه المحاولات والخطط والمؤامرات، وظل السلطان واقفا بصلابة وبذكاء وبحنكة في مواجهة تفتيت الدولة وتغيير الولاءات، راحت تلك القوى تشعل نار الفتنة العصبية العرقية، وبدأت تعد العدّة لتأجيج النزعة القومية لدى العرب. وقبل ذلك، في عهد السلاطين الذين سبقوا عبد الحميد الثاني، عمدوا إلى تشجيع عائلات ذات سطوة في مناطق مختلفة على الخروج من تحت سيطرة الدولة والمطالبة بالانفصال، فوقفت خلف محمد علي باشا في مصر، وفخر الدين المعني الثاني في لبنان، وخلف الحسين بن علي في الجزيرة العربية، وخلف ظاهر العمر الزيداني في فلسطين، وقدمت لهم كل الإمكانات المادية والعسكرية ليثوروا ضد الحكم العثماني.
ولعل النموذج الأقرب الذي يمكن من خلاله فهم حجم المؤامرة التي تعرضت لها الدولة العثمانية، تحريض الحسين بن علي على إعلان الثورة ضد العثمانيين، وذلك عام 1916، عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، التي استنزفت قوة الدولة العثمانية استنزافا شديدا. وكانت وسيلة بريطانيا في إقناع الحسين بن علي تقديم الوعود له بأن يصبح ملكا على أرض العرب وفي مركزها جزيرة العرب، مقابل أن يعلن الثورة على السلطان عبد الحميد، من منطلق أن الخلافة أساسا ليست من حق الأتراك، بل هي من حق العرب وحدهم، ولا بد لهم من استرجاعها!!
وقد عرفت صفحات التاريخ ما يعرف باسم مكاتبات مكماهون – حسين، التي يمكن من خلالها – وبسهولة شديدة- اكتشاف حجم الغباء الذي ميز الحسين بن علي (وأمثاله)، وكذلك حجم المؤامرة التي نسجت بريطانيا خيوطها عبر سنوات طويلة، والتي كانت تلك العائلات وَقوداً لها، ووسيلتها لتحقيق مآربها، وكل ذلك لتحقيق ثلاثة أهداف: الأول، السيطرة على الثروات الطبيعية في المنطقة، وعلى رأسها البترول، والثاني، تمكين اليهود من بناء وطن قومي لهم في فلسطين، وهي الفكرة التي انطلقت شرارتها الأولى أثناء حملة نابليون بونابرت على مصر ثم فلسطين أواخر القرن الثامن عشر، ولاحقا نشوء الحركة الصهيونية التي كانت وسيلة دول الاستعمار لتحقيق هذه الأهداف. والثالث الثأر التاريخي من العثمانيين الذين دكوا حصون أوروبا وفتحوا القسطنطينية التي كانت بوابة أوروبا للسيطرة على الشرق. فكانت بريطانيا تقدم وعودها الكاذبة للحسين بن علي، وفي ذات الوقت تنسج خيوط اتفاقية سايكس- بيكو لتقسيم المنطقة بين قوى الاستعمار، وخاصة بريطانيا وفرنسا وبتشجيع وحضور قوي لروسيا القيصرية.
وفي فلسطين وجدت تلك القوى نموذجا آخر لنموذج فخر الدين المعني (الثاني)، الذي كان واليا في لبنان، وهو ظاهر العمر الزيداني، الذي لا تزال كتب تشويه التاريخ تمجدّه وتقدمه على أنه شخصية وطنية فذة، تتميز بالعدل!! ثارت ضد الظلم العثماني. وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، ودون أن تشرح معنى الوطنية هذه، ودون أن تفسر كيف أصبح التحالف مع أعداء الأمة بطولة ووطنية؟ وكأن همَّ ظاهر العمر كان تحقيق التطور في فلسطين من منطلقات وطنية!!ويكأنه لم يكن طامعا في السلطة، ساعيا إلى حب الزعامة والهيمنة!! فقد سلم الزيداني رقبته للاستعمار مقابل أمجاد زائلة وعدوه بها من خلال السيطرة على أجزاء من بلاد فلسطين، فلقي الدعم المالي والعسكري من الروس مقابل تمكين النصارى الأرثوذكس وحمايتهم، خاصة في منطقة الناصرة، كما لقي ذات الدعم من فرنسا مقابل تمكين النصارى الفرنسيسكان، ومنحهم أراضيَ وأملاكا لبناء الكنائس والأديرة والمدارس التبشيرية. وقد كان لهم ذلك. وكان أول عصيان لظاهر العمر رفضه دفع الضرائب لخزينة الدولة العثمانية، ثم تحالف مع المملوكي علي بيك الكبير، الذي كان يسيطر على القطر المصري في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بتحريض من دول الاستعمار، ولكن علي بيك الكبير أطيح به على يد محمد بيك أبو الذهب الذي كان مواليا للسلطان، ففر هاربا إلى ظاهر العمر. وقد توجه الاثنان إلى روسيا القيصرية يطلبان مساعدتها في حربهما ضد الدولة العثمانية، فاستجابت لطلبهما وأرسلت أسطولها إلى ميناء عكا، لمساندتهما. ورغم ما فعله ظاهر العمر فقد صدر قرار بالعفو عنه من السلطان، إلا أنه عاد إلى سابق عهده، وواصل طريقه في التحالف مع دول الاستعمار، حتى انتهت مرحلته بقتله على يد أحد المقربين منه، بتحريض من أبنائه الذين أرادوا التخلص منه بعد تقدمه في العمر، وطمعهم في ملكه.
وفي المقابل فإنك تجد المؤرخين الذي سعوْا إلى تشويه الحكم العثماني، عمدوا إلى تشويه صورة أحمد باشا، الذي أطلقوا عليه لقب الجزار، فوصفوه بالقسوة والظلم والدموية، وبين هذا وبين الحقيقة كما بين الثرى والثريا. فقد كان أحمد باشا الجزار واليا على صيدا، قبل أن يعينه الدولة واليا على عكا بعد ظاهر العمر، ليواجه بكل قوة حملة نابليون بونابرت إمبراطور فرنسا الذي احتل مصر في أيام قليلة، لكنه عجز عن دخول عكا أمام صلابة الجزار وجنوده. هذا هو الجزار الذي ارتبط اسمه باسم واحد من أكبر مساجد فلسطين، فبماذا ارتبط اسم ظاهر العمر والشريف حسين وفخر الدين المعني وأمثالهم؟ أحمد باشا الجزار الذي لما بعث إليه نابليون يطالبه بتسليم المدينة لأنه لا يريد أن يقتل رجلا هرما مثله، رد عليه بأنفة وكبرياء يقول: “نحمد الله تعالى لكوننا قادرين على حمل السلاح، وقادرين على الدفاع… إنني أنوي أن أقضي الأيام القليلة الباقية من عمري في الجهاد ضد الكفار”. فما كان من نابليون المتعجرف إلا أن قال لقادة جيشه: “لقد أصبح من الواضح الآن أن هذا الشيخ الهرم سيكون سبباً في ضياع بضعة أيام منا… ولكن لا بأس… لا تقلقوا… سنكون بعد يومين في وسط هذه المدينة… سنلقنهم درساً لن ينسوه”. لكن الجزار هو الذي لقنهم درسا لم ينسوْهُ. ودارت معركة شرسة توقع من خلالها نابليون أن تدكَّ مدافعه أسوار المدينة فيدخلها بلا عناء، ولكن خاب ظنه، فأرسل وفدا إلى الجزار يفاوضه على التسليم، مقابل أن يخرج من المدينة سالما، فما كان من الجزار إلا أن قال لوفد نابليون: “لم تعيِّني الدولة العلية العثمانية وزيراً وقائداً لكي أسلّم هذه المدينة إليكم… إنني أحمد باشا الجزار، لن أسلم لكم شبراً من هذه المدينة حتى أبلغ مرتبة الشهادة”. وجراء ذلك ضرب نابليون حصارا على المدينة استمر أكثر من شهرين، تكبد خلاله خسائر فادحة اضطرته في نهاية الأمر إلى الرجوع خائبا خالي الوفاض. وكانت هذه أولى هزائم نابليون منذ أن اعتلى عرش فرنسا. ولعلنا نختم بشهادة من مؤرخ مسيحي لبناني، هو عبد الله بن طراد البيروتي، والتي أوردها في كتابه “مختصر تاريخ الأساقفة” حيث يقول: “أجرى الجزار عدالة بليغة في جميع آياته…. أما فخر الدين المعني فكان انفصاليا منذ اللحظة الأولى التي أصبح فيها واليا على بيروت”.. ومثله ظاهر العمر الزيداني..
فانظر كيف عمل أعداء وحدة الأمة تحت راية واحدة على تزوير حقائق التاريخ، وزينوا للناس أوهاما ليس لها علاقة بما كان في الواقع، واسأل نفسك سؤالا: هل كانت سايكس – بيكو ثمرة لتلك “البطولات الوطنية” الوهمية التي ينسبها مؤرخون باعوا أقلامهم لأعداء الأمة إلى أمثال أولئك الذين نقضوا العهود مع دولة الإسلام، التي مثلتها الخلافة العثمانية، وبايعوا الاستعمار، وباعوا دينهم بدنياهم وآخرتهم بدنيا غيرهم؟ (يتبع).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى