أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

جناية الحكم العسكريّ على العرب والمسلمين

أحمد هاني محاميد
تمهيد حتميّ
في الأسابيع الأخيرة نشرنا حلقات متسلسلة عن عبد النّاصر، وبيّنا الوجه الحقيقيّ للناصريّة والحكم الناصريّ.
ولا بدّ من التّأكيد أنّ الفكر الناصريّ كان هو البوّابة المقيتة التي جعلت من الحكم العسكريّ فريضة وسنّة في العالم العربيّ والإسلامي؛ الأمر الذي يضعنا نؤكّد جناية هذا الفكر على هذه الأمّة، وما حمله من طامّات ونوائب ومصائب حلّت على هذه الأمّة التي ما زالت ترزح تحت أغلال هذا الحكم المقيت.
وقد سألني الكثير عن كتاباتي حول عبد النّاصر مستهجنين متعلّلين متذرّعين بحجج واهية لا أساس لها؛ وهي أنّ الرّجلَ قد مات منذ عشرات السّنين؛ فلا حاجة بنا أن ننبش الماضي وصفحاته.
وللحقيقة والتّاريخ؛ فإنّني أؤكّد قائلًا: إنّنا لا نناقش شخص عبد النّاصر، فهو بين يديّ ربّه الذي يغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء؛ وإنّما نحن نناقش الفكر النّاصريّ وتأثيره على هذه الأمّة إلى يومنا هذا؛ فالكثير من العرب ما زالوا يرون بهذا الفكر منارًا وفنارًا من شأنه أن يقود الأمّة إلى برّ الأمان؛ فكان لا بدّ لنا وأن نتصدّى ونناقش هذا الفكر، وما جلبه من كوارث وهزائم ومصائب على هذه الأمّة.
إنّ عبد النّاصر مات منذ تسعٍ وأربعين سنة، ولكنّ فكره ما زال حيًّا، ينهش جسد الأمّة ويمزّقها؛ ولهذا فإنّ مناقشة هذا الفكر تصبح حتميّة لا نزوع عنها.

عند بوّابة الانقلاب
في يوم من أيّام الربيع، حلّت كارثة على الأمّة العربيّة والإسلاميّة لا يمكن أن نصف إرهاصاتها ببعض الكلمات، أو بشذرات من التعابير اللغويّة، والتي تقف عاجزة أمام سيل السموم الذي أفرزته هذه الحادثة المشؤومة البغيضة الكريهة.
قام حسني الزعيم عام 1949 بأوّل انقلاب عسكريّ على السلطة الحاكمة في بلاد الشام؛ بحيث يمكننا القول إنّ هذه الحادثة تعدّ أعظم كارثة حلّت بالبلاد العربيّة والإسلاميّة منذ سقوط طُلَــيْــطِــلَـة الأندلسيّة؛ الأمر الذي جعلها بوّابة وسابقة فتحت أبواب الانقلابات في العالم العربيّ، فتوالت الانقلابات العسكريّة ناهرة متدفّقة في مصر عام 1954، وانقلاب الثورة البيضاء في العراق عام 1968، وانقلاب القذافي عام 1969، وانقلاب البعثيّ النصيريّ حافظ الأسد عام 1970. وغيرها من الانقلابات في السودان والجزائر.

الحكم النّاصريّ
لقد كان انقلاب الزعيم في نهاية سنوات الأربعين فاتحة الشرّ على بلاد العرب والمسلمين-كما أشرنا-؛ إلّا أنّ أخطر الانقلابات وأشرّها قاطبة كان انقلاب الضباط المصريّين على الرئيس محمد نجيب عام 1954؛ فمنذ ذلك اليوم أصبحت الانقلابات سنّة مؤكّدة، ودستورًا ممنهجًا، وفرمانًا سلطانيًّا يلهج وراءه صغار الضباط في الجيش، وأصحاب النّفوس الضعيفة، والشهوات غير المحدودة، كي يستولوا على السلطة، وموارد الدولة من أوّلها إلى آخرها.
والقارئ للتاريخ وصفحاته، لا بدّ وأن يجد ضالّته التي يبحث عنها في دهاليز المؤامرات الشيطانيّة، والخطط الإبليسيّة التي انتهجها هؤلاء الضباط المغمورين الذين ارتكبوا أعظم جناية شهدها العصر الحديث؛ لا لشيء سوى الاستيلاء على مقاليد الحكم، صافعين مصالح الشعب والدولة، مقدّمين مصالحهم الشخصيّة التي أصبحت فرضًا ودستورًا ربّانيًّا، بحيث يتحتّم على العامّة أن تركع أمام أحذيتهم الملمّعة، ونياشينهم المغموسة بالذلّ والهزائم والخيانة.
جاءت حركة الضباط الأشرار في الثالث والعشرين من شهر يوليو عام 1952، والتي أصبحت مثارًا للتّغنّي والمحاكاة في كلّ أرجاء الوطن العربيّ، على يديّ صغار الضبّاط في القوات المسلّحة المصريّة، فطار نجم البكباشيّ عبد الناصر، وغيره من الضباط المغمورين الذين تكالبوا على السلطة في مصر.
وفي هذا السياق، لا بدّ لنا وأن نسجّل ما كتبه محمّد نجيب؛ أوّل رئيس لمصر في مذكّراته: “كنتُ رئيسًا لمصر”، حيث يصوّر لنا ما قام به هؤلاء “الأبطال” في ليلة الاستيلاء على الحكم والتخلّص من حكم الملكيّة، فيقول:
“وللتاريخ أذكر أنّ يوسف صدّيق كان أشجع الرجال في تلك الليلة، وكان هو الذي نفّذ عمليّة الاقتحام والسيطرة على مقرّ القيادة؛ رغم أنّ دوره كان حسب الخطّة حماية قوّات الهجوم والوقوف كصفّ ثانٍ وراءها. وللتاريخ أيضًا، أذكر أنّ جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر لم يقتربا من القيادة إلّا بعد الاستيلاء عليها. كانا يقفان في مكان جانبيّ قريب، أمام سيّارة عبد الناصر الأوستن السوداء، وقد ارتديا الملابس المدنيّة، ووضعا ملابسهما العسكريّة وطبنجتينِ داخل السيّارة… وبمجرّد أن أحسّا بنجاح الاقتحام، ارتديا الملابس العسكريّة ودخلا القيادة. أمّا أنور السادات فكان أكثر منهما ذكاء؛ إذ دخل ليلتها السينما، وتشاجر مشاجرة مفتعلة، وحرّر محضرًا بالواقعة، حتّى إذا فشلت الحركة؛ نجح في الخروج منها كالشعرة من العجين” {محمد نجيب، كنت رئيسًا لمصر، ص 115-116}.
كان لا بدّ لنا وأن نسجّل ما ذكره التاريخ عن هؤلاء أصحاب الرتب العسكريّة الصغيرة، والذين أصبحوا فيما بعد سلاطين البلاد وزعماءها الملهمين، وأبطالها الشجعان المطلقين.
وجاء الانقلاب على الشرعيّة عام 1954، إذ أراد الرئيس محمد نجيب تنحّي الجيش وابتعاده عن حكم البلاد، والعودة إلى ثكناته العسكريّة وحماية الحدود؛ بينما أصرّ عبد الناصر على دكتاتوريّة الحكم العسكريّ.
وكان ما أراده البكباشي الملهم عبد الناصر، وأُقِــيلَ محمد نجيب، ووُضِـعَ تحت الحراسة العسكريّة إلى يوم وفاته في بداية الثمانينات من القرن المنصرم.
ومنذ ذلك اليوم؛ ومصر وسائر البلاد العربيّة ترزح تحت أغلال هذه الطبقة المستبدّة المجرمة التي ضيّعت البلاد، واستعبدت العباد على مدى عقود متتالية.
أصبح هذا الضابط الصغير المغمور، محلّ تقديس وتقدير الأمّة العربيّة؛ وذلك لما وُهِبَ من مقدرة خطابيّة آسرة، ومظهر خارجيّ يبعث على الثقة، وحماسة كلاميّة ونبرة لغويّة، جعلته زعيمًا ملهمًا للشعوب في سنوات الخمسين والستين من القرن المنصرم، فكان أن أخذ الأمّة وشعوبها إلى مستنقع الاشتراكيّة والشيوعيّة التي أوغلت وتغوّلت في اضطهاد المسلمين على مدى عقود طويلة، فلاحق الإخوان المسلمين واعتقلهم، وأعدم الكثير منهم، وعادى الدول الرجعيّة، كما كان يحبّ أن يطلق عليها مفتخرًا مشرئبًّا، فحارب اليمن والإمام، وأدخل البلاد في مستنقع لا يمكنه الخروج منه.
وجاء العسكريّ السادات مدخلًا سياسة الانفتاح، موجّها البوصلة المصريّة إلى الغرب الأمريكيّ، صافعًا المعسكر الشرقيّ صفعة قاسية، فأنزل فرمانه المقدّس الذي يقول: إنّ أوراق الحل واللعبة في يد أمريكا، فكان كامب ديفيد، وكان قتل القضيّة الفلسطينيّة.
وتوالى العسكريّون على حكم البلاد العربيّة، فجاء القذّافيّ المجرم متربّعًا على عرش ليبيا ناهبًا أموالها، مستبيحًا نساءها، وحلّ المجرم النصيريّ حاكمًا بلاد الشام مُـــوَرِّثًــا ابنه الأبله الألثغ النصيريّ الحاقد، مقاليد الحكم إلى يومنا هذا.

جناية الفكر النّاصريّ
أصبح عبد الناصر بما يحمله من فكر سياسيّ وعسكريّ، هو الشرارة الملهبة لشهوات العسكريّين كي يحتلوا بلادهم، ويستبيحوا كلّ ما فيها؛ الأمر الذي أوصل الأمّة إلى ما تعانيه اليوم من تدهور وانحطاط؛ وما وجود هؤلاء المجرمين اليوم على سدّة الحكم؛ إلّا نتاج هذا التأثير الناصري الذي طوّق البلاد، وقهر العباد، وأشاع الرذيلة والفساد، فكانت التجربة الجزائريّة التي أوغلت في قتل التيار الإسلاميّ، بمساعدة الغرب الفرنسيّ، وجاء البعثيّون على الدبابة حاكمين أهل الشام منذ أكثر من خمسين عامًا، مسبغين الدمار والهلاك والخيانة على وجه هذه الأمّة، وأقبل السيسي العميل، الذي انقلب على الحكم الديموقراطيّ في مصر، مستبيحًا كلّ الحرمات، محتضنًا كلّ الموبقات التي من شأنها أن تجعل من مصر شبه دولة، أو عزبة للجنرالات الذين استولوا على اقتصاد مصر وثرواتها، جاعلين الشعب يرزح تحت نير الظلم والقهر والاستعباد، والفقر والهوان والمذلّة.
والناظر إلى البلاد العربيّة، يرى بوضوح جريرة العسكر على هذه الأمّة؛ بالإضافة إلى طامّة الحكم الملكيّ، والأميريّ الذي يسوّد وجه التاريخ؛ هذا التاريخ الذي يحنّ إلى عزّ هذه الأمّة، وإعادة مجدها وتلادها، وقيام نهضتها.

الموسم الثّاني للربيع العربيّ
جاء عام 2011 ناضحًا بالثّورات العربيّة التي رامت تقويض الحكم العسكريّ، والملكي المطلق في العالم العربيّ.
ورأينا تكالب الثورات المضادّة التي قادتها منابع الشرّ الإماراتيّة والسعوديّة والإسرائيليّة، فكان هذا الثالوث المجرم منافحًا عن العبوديّة والظلم والطغيان، فأجهضت الثورة المصريّة من خلال انقلاب وتنصيب الخائن السيسي، وجاء سفّاح الشّام بخيله وجنده الشياطين، مقتّلين ومهجّرين الشعب السوريّ، مستعينًا بذريّة إبليس من أجل الحفاظ على عرشه، ونجم الانقلابيّ حفتر مدعومًا بدولة الإمارات والمؤامرات السعوديّة، والخيانات السيسيّة، وبزغ الحوثيّون في بلاد اليمن السعيد، والذي حوّلوه إلى منبع اليمن الكئيب.
حلّ عام 2019 حاملًا بشائره التي من خلالها شممنا رياح الحريّة والتغيير في عالمنا العربيّ، والتي ستكون بعون الله شعلة تضيء ظلمات ما تبقّى من خارطة العالم الإسلامي والعربيّ، فرأينا ثورة السودان والجزائر، وشممنا الحريّة التونسيّة التي أنجبت قيس سعيد، رئيسًا منتخبًا نلمس من بين حناياه نسائم الحريّة والعزّة، وما أروع ما قاله محمد قطب مؤكّدًا: “ما أروع هذا الدّين، لو أنّ فيه رجال”.
ونحن على يقين، أنّ العزّة، كلّ العزّة ستكون لهذه الأمّة، ولهذا الدّين بعون الله وحوله.
” وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ “.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى