أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (1)…العرب والأتراك

حامد اغبارية
على خلفية الحملة العسكرية التركية الجارية هذه الأيام في شمال سوريا، عاد الحديث مجددا يتردد حول “الاحتلال العثماني”، و “ظلم العثمانيين للعرب” وما شابه ذلك من مقولات ابتدعتها عقول خربة وأقلام لم تعرف الحق يوما، بل حادث عنه وانحرفت عن جادته.
وبعيدا عن مناكفات تسطيحية لا ترقى إلى مستوى النقاش الجدي والمنطقي المبني على الحقائق التاريخية والقائم على الدليل، فإننا نسأل: هل كان هناك احتلال عثماني لبلادنا (بلاد الشام) كما يزعم ذلك النفر من الناس الذي يلقي الكلام على عواهنه، وهم يساوون بين الحكم العثماني وبين الاحتلال الصليبي والبريطاني والإسرائيلي، ويضعونها كلها في سلة واحدة، دون وعي ودون تمحيص، مرددين مقولات أعداء الحكم الإسلامي ترديد الببغاوات.
والسؤال: إذا كان هناك احتلال لبلادنا من قبل العثمانيين، فممن احتل العثمانيون بلادنا؟! وقد وجهت هذا السؤال إلى أصحاب تلك المقولة أكثر من مرة، فلم أتلقّ جوابا، لأنه ببساطة ليس هناك جواب، لأنه ليس هناك احتلال، ولا وجه شبه بين الحكم العثماني الشرعي لبلاد المسلمين، بما فيها بلاد الشام، وبين احتلال المغول أو الصليبيين أو الإنجليز أو الإسرائيليين.
وملخص القول إن العثمانيين لم يحتلوا فلسطين من أيدي منظمة التحرير ولا من أيدي السلطة الفلسطينية ولا من أيدي الداخل الفلسطيني!! ففكر جيدا قبل أن تتسرع في إطلاق العنان وتصدّق أفكارا ومقولات حشوها في رأسك حشواً مستبيحين ذكاءك مشككين في فطنتك.
ولعلي أخاطب في هذا المقال على وجه الخصوص ذلك الجمع من مسلمي بلاد الشام، وفلسطين خاصة، من الذين يحبون دينهم ويلتزمون به، لكنهم يقعون في ذلك الخطأ حين يرددون مع القائلين إن العثمانيين كانوا محتلين لبلادنا. ولعلهم تأثروا بما تضمنته كتب التاريخ التي وضع أغلبها علمانيون من القوميين العرب الذين كانوا إحدى الأدوات التي استخدمها أعداء الأمة لهدم الخلافة وإنهاء حكم الإسلام في بلاد المسلمين، ومنها في الأساس كتب التاريخ التي تتضمنها مناهج التعليم في المدارس، سواء في بلادنا أو في غيرها من بلاد العرب، إضافة إلى ما كتبه المستشرقون الغربيون والصهاينة، الذي كانوا أقلاما مسمومة عملت على تزوير التاريخ وتشويه كل ما له علاقة بالإسلام عقيدة ودينا وتاريخا وشخصيات، وما حملته وتحمله وسائل الإعلام من معلومات مضللة سيطرت على العقول ووجَّهتها وجهة غير صحيحة، حتى تمكنت منها تماما، وأصابتها بالشلل، فلم تعد قادرة على التفكير السليم والتمييز بين الحق وبين الباطل، بل إن بعض الناس أصبح مأخوذا بالرواية الغربية ومعها المطبلون العلمانيون من العرب، للتاريخ إلى درجة الإعجاب، وراح يرددها ويدافع عنها وكأنها روايته هو!! وتراه يقول ما يقول وكأنه كان شاهدا شخصيا على الأحداث! وهذا من أعجب وأغرب ما أصيبت به عقولنا جراء ذلك، حتى مُسحت مسحا ومسخت مسخا.
أخاطب المسلمين خاصة وأذكرهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي فيه أن الجراد غزا مدينة رسول الله فلى الله عليه وسلم ذات سنة، فدعا النبي الله تعالى أن يصرفه إلى بيت المقدس، فقال من حضر من الصحابة: إذاً يؤذيهم… أي يؤذي أهل بيت المقدس، فقال: لا يعمر فيها ظالم. والحديث إن كان ضعيفا، إلا أنه يُستأنسُ به، وله على أرض الواقع وفي التاريخ شواهد تؤكد معناه. ما معنى هذا الحديث؟ إنه يعني أن بلاد بيت المقدس وأكناف بيت المقدس لا يمكن أن يحكمها ظالمٌ لفترة طويلة يعمّر فيها. وقد حدد أهل الدراية التعمير بأنه لا يتجاوز تسعين سنة، وإن زاد فمئة، ولكن ليس أكثر من هذا. وقد احتل الصليبيون بلادنا إحدى وتسعين سنة ثم اقتلعت جذورهم منها وطردوا من شر طردة. وفي المحصلة فإن العثمانيين حكوا بلاد الشام وبيت المقدس نحوا من 400 سنة. وهذا يعني أن صفة الظلم لا تنسحب على العثمانيين. فقد عمّروا في بلادنا التي لا يعمر فيها ظالم!! ثم إن العثمانيين كانوا مسلمين، رفعوا راية الإسلام، وحكموا البلاد بالإسلام، وجاهدوا تحت راية الإسلام، وفتحوا البلاد باسم الإسلام، فكيف يكون ظالما من حكم المسلمين بالإسلام؟
لقد انتقل حكم بلاد المسلمين من أيدي الخلفاء العباسيين إلى أيدي العثمانيين انتقالا شرعيا صحيحا، وكان ذلك سنة 1517 ميلادية، زمن السلطان العثماني سليم الأول، وكان الخليفة العباسي في ذلك الوقت هو المتوكل على الله، وكان ضعيفا، لا يكاد يحكم شيئا، بل إن الحكم الحقيقي كان للمماليك الذي كان مقر حكمهم في مصر. وقد انتقل المتوكل من بغداد بعد سقوطها في أيدي المغول إلى مصر حتى مات فيها، ثم إن السلطان سليم الأول استخلص مصر من أيدي المماليك، فلما استقر له الأمر ومات المتوكل، انتقل حكم بلاد المسلمين إلى العثمانيين، بقبول علماء الأمة وشعوبها في كافة أقطار المسلمين (باستثناء السعديين في المغرب). وقد كان سلاطين العثمانيين مهتمين في الأساس بحيازة شرف خدمة الحرمين الشريفين، ولم يفكروا بداية بالخلافة. ولما أنهم تمكنوا من حيازة ذلك الشرف فإنه من الحري بهم أن تنتقل الخلافة إليهم انتقالا شرعيا، إذ من الذي يخدم الحرمين ويحميهما إلا خليفة المسلمين؟! ولعله من المفيد أن نذكُر ونذكِّر بأن اهتمام السلطان سليم الأول بالسيطرة على بلاد الشام، كان من أهدافه منع سيطرة الصفويين عليها، فقد كان الصراع بين أهل السنة ممثلين بالعثمانيين وبين الصفويين في بلاد فارس (إيران) في أوجه.
أما الحديث عن ظلم العثمانيين للعرب فهذا كلام باطل لا أصل له، بل إن الخلفاء العثمانيين اجتهدوا أن يحكموا بين الناس بالعدل، ولما سيطروا على فلسطين وبلاد الشام، لم يظلموا أحدا في دينه وعقيدته، وقسموا الوظائف الإدارية بين العرب وبين الأتراك، بمن فيهم المسلمين وغير المسلمين من نصارى بلاد الشام. وإنه من الضروري أن نذكر أنفسنا بأن القوم بشرٌ يخطئون ويصيبون، فهم ليسوا معصومين، وإن ما وقع من مظالم في أواخر العهد العثماني؛ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقع بالذات من أعداء الخلافة الذين تآمروا عليها من بعض الباشوات العثمانيين الذي تولوا إدارة بلاد العرب ومنها فلسطين، وباعوا أوطانهم وشرف انتمائهم للغرب المتآمر على الخلافة، ومن هؤلاء مثلا لا حصرا جمال باشا الذي كان واليا على بلاد الشام ثم على العراق، وكان فاسدا، بعيدا عن الدين، إضافة إلى أنه كان منتميا إلى جمعية الاتحاد والترقي التي ناهضت السلطان عبد الحميد وعملت على إسقاطه بتحالفها مع الغرب خاصة بريطانيا وفرنسا، إضافة إلى روسيا القيصرية والحركة الصهيونية. وقد شارك شخصيا في الانقلاب العسكري على الخليفة عام 1913. ومثل جمال باشا كان أنور باشا، الذي كان قائدا للحربية وعضوا في الاتحاد والترقي، وقد شارك في المؤامرة على الخليفة عام 1908، وطلعت باشا الذي كان عضوا في الاتحاد والترقي كذلك، وعضوا في المحفل الماسوني في مقدونيا (الجبل الأسود) وغيرهما من الباشوات الذين أساءوا إلى سمعة الخلافة بتخطيط من أعداء الإسلام الذين كان هدفهم ليس فقط إسقاط الخلافة بل اجتثاث حكم الإسلام نهائيا. ولعلنا نتذكر جميعا كيف أن البريطانيين والفرنسيين لعبوا لعبتهم على العرب، واستخرجوا من بينهم (خاصة في سوريا ولبنان) من دعوا إلى الانفصال عن الدولة العثمانية والعزف على وتر القومية العربية بقواعدها المبنية على أفكار القومية الغربية، وكيف أن التاج البريطاني لعب بعقول العرب في جزيرة العرب موهما إياهم بأن الخلافة من حق العرب وليست من حق العثمانيين الأتراك السلاجقة، وحرضوهم على خيانة الخلافة مقابل مطامع حكم لم يحصلوا منه على شيء حقيقي. ومن ثم جاءت مؤامرة سايكس- بيكو التي قسَّمت بلاد المسلمين وجعلتها شذرا مذرا، عبارة عن فتات دويلات يحكمها من اختارهم الاحتلال الغربي لحكمها من أجل تحقيق مصالحه، وهو ما نعيش آثاره المدمرة إلى هذه اللحظة.
(يتبع)…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى