لن ننسى.. يوم الأرض في الذاكرة
تعتبر ذكرى “يوم الأرض” رمزًا للتشبث بالأرض والهوية والوطن، وعنوانًا لرفض كل سياسات المؤسسة الإسرائيلية، الساعية إلى سلخ الشعب الفلسطيني من هويته الوطنية والقومية، فبالرغم من أنها الذكرى الـ 42 إلا أن الشعب الفلسطيني لايزال يعتبر “يوم الأرض” حدثًا مهمًا في تاريخ النضال الفلسطيني.
يوم الأرض الفلسطيني هو يوم يحييه العالم أجمع والفلسطينيون بشكل خاص في 30 مارس من كل عام، وتعود أحداث هذا اليوم لعام 1976 بعد أن قامت السّلطات الاسرائيلية بمصادرة آلاف الدّونمات من الأراضي ذات الملكيّة الخاصّة أو المشاع في نطاق حدود مناطق ذو أغلبيّة سكانيّة فلسطينيّة، وقد عم إضراب عام ومسيرات من الجليل إلى النقب، واندلعت مواجهات أسفرت عن استشهاد ستة فلسطينيين وإصابة واعتقال المئات.
قبل قيام المؤسسة الإسرائيلية كان عرب فلسطين شعبًا مزارعاً إلى حد كبير، حيث أن 75٪ كانوا يحصلون على قوت يومهم من الأرض، وبعد تهجير الفلسطينيين القسري، نتيجة نكبة عام 1948، بقيت الأرض تلعب دوراً هاماً في حياة 156 ألف من العرب الفلسطينيين الذين بقوا في الداخل الفلسطيني، وبقيت الأرض مصدراً هاماً لانتماء الفلسطينيين العرب وارتباطهم بها.
تبنت الحكومة الإسرائيلية في عام 1950 ما يسمى بـ “قانون العودة” لتسهيل الهجرة اليهودية واستيعاب اللاجئين اليهود، وفي المقابل سنت قانون أملاك الغائبين والذي بموجبه تم مصادرة الأراضي التابعة للاجئين الفلسطينيين الذين فروا أو طردوا منها، وكان هذا القانون يستخدم أيضا لمصادرة أراضي المواطنين العرب بعد تصنيفها في القانون على أنها “أملاك غائبة”، وكان يبلغ نسبتها نحو 20٪ من مجموع السكان العرب الفلسطينيين في الداخل.
صادرت السلطات الاسرائيلية نحو 21 ألف دونم من أراضي “عرابة” و”سخنين” و”دير حنا” و”عرب السواعد” وغيرها في منطقة الجليل، تحت غطاء مرسوم جديد صدر رسميًا في منتصف السبعينات، أطلق عليه اسم مشروع “تطوير الجليل” والذي كان في جوهره الأساسي هو “تهويد الجليل”، فقد صادرت إسرائيل أراضي القرى التي تعرف اليوم بـ “مثلث الأرض”، وتم تخصيصها للمستوطنات الاسرائيلية.
رافق قرار الحكومة بمصادرة الأراضي إعلان حظر التجول على قرى: “سخنين” و”عرابة” و”دير حنا” و”طرعان” و”طمرة” و”كابول” من الساعة 5 مساء، وعقب ذلك دعا القادة العرب ليوم من الاضرابات العامة والاحتجاجات ضد مصادرة الأراضي وقررت لجنة الدفاع عن الأراضي في فبراير عام 1976، عقد اجتماع لها في الناصرة بالاشتراك مع اللجنة القطرية لرؤساء المجالس العربية، وفيه تم إعلان الإضراب العام الشامل في 30 مارس.
في 18 مارس اجتمع رؤساء المجالس المحلية العربية، وأعضاء من حزب العمل وصوتوا ضد دعم خروج المظاهرات، وعندما أصبح الخبر منتشراً خرجت مظاهرة خارج مبنى البلدية، وقد تم تفريقها بالغاز المسيل للدموع، وأعلنت الحكومة أن جميع المظاهرات غير قانونية وهددت بإطلاق النار على المنظمين، مثل معلمي المدارس الذين شجعوا الطلاب على المشاركة، لكن التهديدات لم تستطيع إيقاف حماس المشاركين، فقد خرج الطلاب من الفصول الدراسية وانضموا إلى الإضراب وكذلك شاركوا في المسيرات العامة التي جرت في جميع أنحاء البلدات العربية المحتلة، من الجليل في الشمال إلى النقب في الجنوب، وقد جرت إضرابات تضامنية أيضا في وقت واحد تقريبًا في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي معظم مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
وكالعادة كان الرد الإسرائيلي عسكري دموي إذ اجتاحت قواتها مدعومة بالدبابات والمجنزرات القرى الفلسطينية والبلدات العربية وأخذت بإطلاق النار عشوائياً، فسقط الشهيد “خير ياسين” من قرية عرابة، وبعد انتشار الخبر صبيحة اليوم التالي انطلقت الجماهير في تظاهرات عارمة فسقط خمسة شهداء آخرين، وهم: “خضر خلايلة” و”خديجة شواهنة” و”رجا أبو ريا” من قرية “سخنين”، و”محسن طه” من قرية “كفر كنا” و”رأفت الزهيري”، إضافة إلى عشرات الجرحى والمصابين.
أصبح “يوم الأرض” يومًا وطنيًا فلسطينيًا بامتياز، حيث يحيي الشعب الفلسطيني على امتداد فلسطين التاريخية هذ اليوم بوقفات احتجاجية على العدوان الإسرائيلي مع ترديد الأناشيد الفلسطينية التي تدل على الصمود والتحدي رافعين شعارات تطالب بوقف الاستيطان الإسرائيلي ونشاطات مصادرة الأراضي.
“جمعونا بالسيارة ورموا علينا قنابل غاز”
يروي المعتقل في أحداث يوم الأرض، عبد الجبار حاج يحيى، من مدينة الطيبة، ما جرى معه خلال مظاهرات يوم الأرض، وقد اندلعت المواجهات في مدينة الطيبة، واتسعت رقعة الاحتجاج مما أسفر عن استشهاد الشاب رأفت زهيري من مخيم نور شمس في مدينة طولكرم القريبة، وإصابة واعتقال العشرات من أبناء مدينة الطيبة والمنطقة.
وتحدث عبد الجبار حاج يحيى (أبو ثائر) من مدينة الطيبة، عن تفاصيل اعتقاله، ووحشية التعامل التي رافقته خلال فترة الاعتقال حتى أصيب بجروح خطيرة نتيجة للتعذيب.
وأوضح أنه “قبيل يوم الأرض، أي قبل أن تنطلق التظاهرات في شوارع المدينة، كان هنالك توتر شديد من قبل السلطات والشرطة والجيش، لكن هذا لم يمنع الشباب في الطيبة من الخروج عن بكرة أبيهم لمواجهة حتمية مع قوات الشرطة”.
وحول تفاصيل الاعتقال، يروي أبو ثائر أنه “في يوم الأرض ذاته، كان الجيش والشرطة يطاردان شباب المدينة خلال المظاهرات، مشهرين سلاحهم مطلقين الرصاص الحي دون أن يأبهوا لأحد، أنا بدوري اختبأت مع اشتداد المواجهات في إحدى البيوت في الحارة القديمة أمام مسجد عمر بن الخطاب، إلا أن ضابط الشرطة أصر على ملاحقتي حتى أني لم أعد قادرًا على الهروب، علمًا بأن الضابط كان قد أصدر أمرا يتيح لعناصره قتل من يهرب من المتظاهرين خلال عملية اعتقاله”.
واستطرد حاج يحيى “تم اعتقالي واقتيادي أنا وعدد من الشباب من الطيبة إلى القسم في الشرطة، في هذه الأثناء استشهد رأفت الزهيري. طيلة الطريق ونحن نتلقى الضرب المبرح بالهراوات والسلاح والأرجل، لم يتركوا أي وسيلة وأداة أو آلة إلا وضربونا بها، حتى أنهم أدخلونا إلى سيارة الشرطة الكبيرة، وهاجمونا بقنابل الغاز، في ذلك الوقت شعرت أنني ألفظ أنفاسي الأخيرة، في اللحظة الأخيرة، قبل أن ينقط بنا السبيل والاختناق، فتحوا لنا الشبابيك”.
وتابع “حين مرت دورية الشرطة من أمام مجموعة من شباب الطيبة، وفيها المعتقلين من ضمنهم أنا، كانت الحجارة تنهال على زجاج السيارة كالمطر حتى تكسرت جميع زجاجات السيارة، وبدأت شظايا الزجاج تتطاير على وجوهنا، وبالرغم من ذلك إلا أننا كنا فرحين بهذا العمل، الذي مثّل جليًا، وحدة ولحمة أبناء البلدة دون خوف من المحتل ولا وجل”.
وأضاف أنه “بعد أن قضينا فترة في المعتقل تم اقتيادنا إلى السجن، في “بردس حنا” المقامة على أراضي الروحة، حيث استأنفت القوات الضرب والتنكيل بنا، أدخلني الضابط بعد أن تعرضت لضرب مبرح، وكنت على وشك الإغماء، إلى غرفته للتحقيق، شعرت وكأنه حاقد عليّ، وملامح وجهي مخبأة خلف الدماء التي سالت من كل مكن إثر الضرب، ضربني على صدري بقطعة حديدية كانت بيده، أغمي علي، أعادوني إلى المعتقل مرة أخرى”.
“في هذه الأثناء، راودني من جديد شعور بأنني اتلفظ بأنفاسي الأخيرة وعلى وشك الموت، كتبت وصيتي وأوصلتها إلى صديقي عبد القادر ظاهر، وكتبت بالوصية أن تكون جنازتي مظاهرة، لكن في اليوم التالي استعدت قواي شيئا فشيئا”، قال أبو الثائر واصفًا إجراءات الاعتقال الوحشية.
وعن إصرار الشباب في تلك الفترة قال إنه “رغم الضرب الذي تلقيناه والتعذيب الذي تعرضنا له، والتهديد والوعيد الذي مورس بحقنا، إلا أننا لم نيأس للحظة، وكنا مصرين على أن نستمر في النضال حتى ينتهي الاحتلال من مصادرة الأرض، وهذا ما حصل”.
وعن دور النساء أوضح أن “النساء هن النضال والمرأة الفلسطينية لها دور أساسي في النضال، لولا زوجتي التي ساندتني في تلك الأيام لما استطعت الاستمرار في النضال، تربت هي الأخرى على حب الوطن، والنضال من أجل حرية شعبنا الفلسطيني، النساء هن الحياة ولا يوجد نضال ينجح دون أن تكون النساء في المقدمة، جنبا إلى جنب كتفا بكتف مع الرجل”.
ووجه حاج يجيى رسالة إلى الشباب، ودعاهم إلى “الكف عن المهاترات والمماحكات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هذا يخون هذا وهذا يشتم ذاك، يكفينا أن نكبّر الهوة بيننا، ونزيد من حجم الفجوة الموجودة، مخجل أحيانا ما نراه من مناكفات تخدم السلطة فقط”.
وأضاف أنه “يجب علينا نحن السياسيون والقياديون وأبناء الشعب الواحد، أن نكون يدا واحدة مهما اختلفنا في الآراء، وألا نتفرق وأن نضع نصب أعيننا الهدف الأسمى، وهو تحرير شعبنا من الاحتلال، وما يمارس علينا من قمع هو بسبب عدم وحدتنا، لذلك أيضا فإن السلاح والجريمة ينتشران، من أجل الاقتتال الداخلي، ما يتيح للسلطات الاستمرار في مصادرة الأرض وهم المسكن وأسرلة الشباب”.
وختم بالقول إنه “في هذه الأيام يجب علينا أن نذوت بداخل أبنائنا روح الانتماء والوطنية، وتربيتهم على حب الوطن، وتعليمهم القيم الوطنية من الصغر، عبر إقامة الندوات والمهرجانات الوطنية، لنحرر شعبنا من الاحتلال الذي هو فيه، وأن يأخذ الشباب دوره في هذه المهمة”.