أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

رواء القلوب

ليلى غليون

 

كل شيء في هذا الوجود بحاجة إلى رواء حتى يعيش وتكتب له الحياة، وإلا فإن حالة من التصحر تداهمه وتجعله شبه ميت ليس له طعم ولا لون، فإذا كان الماء أساس الحياة، لقوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، فانَّ المحبة والألفة بين الناس والتي أصبحت في هذا الزمان الأغبر عملة نادرة، هي رواء القلوب والاكسجين الذي يمدُّها بعناصر البقاء التي إن جفَّت منها أصبحت صحار قاحلة، وانعدمت فيها كل معالم الحياة والاستمرار.

عجبا لنا وبيوتنا في هذا الزمان قد شيدناها على أحدث طراز، أقمناها على قواعد صلبة من الاسمنت والحديد لنضمن قوتها وتماسكها، ملأناها بأجمل الأثاث وأروع الديكورات، حتى يبدو للناظر لأول وهلة أنَّ ما يراه ما هو إلا متحف وليس بيتا، ولكن نسينا في خضم هذا التهافت، بل التنافس على المظاهر والشكليات أن نوصل هذه البيوت بأسلاك الدفء ونزودها بشحنات الألفة التي تبث من القلوب الصافية النابضة بالحب والتسامح.

فلا نجانب الحقيقة لو قلنا إنَّ معظم بيوتنا ليست إلا بيوت ثلج، اكتست فيه القلوب بالثلوج فحوَّلتها إلى لوحة من الصقيع يسهل التزلج عليها ولكن لا يمكن سكناها، لبست على مشاعرنا الكثير من برودتها وزمهريرها، وباعدت بيننا وبين الآخرين، في زمن رفعت فيه المصلحة والأنانية لواءها ولوحت به عاليا.

يجلس الواحد منّا في برجه العاجي، لا يرى ولا يسمع ولا يشعر بمن حوله، وأنَّى له ذلك ومسافات وجدانية شاسعة تفصله عن الناس، وجدران شاهقة بناها تحول بينه وبينهم؟!

يظن الكثيرون أنَّ مجرد رسالة في الهاتف الخليوي تكفي للتواصل فيما بينهم ويؤدون ما عليهم من حقوق تجاه بعضهم من واجب تهنئة، أو واجب عزاء، أو السؤال عن الأحوال، بل حتى هذه الرسالة العقيمة تكاد تصبح من منسيات هذه المرحلة إلا من رحم الله.

أصبح همُّ الفرد كيف يحقق أكبر نجاح في عمله، في مهنته، في زيادة أمواله في السيارة الفارهة التي يمتلكها، أمَّا عن علاقاته الاجتماعية، فذاك مرهون ومتوقف على الظروف إذا سمحت، وعلى الوقت إذا بقي فيه متسع، وعلى الفرص إذا سنحت. حياة وكأنها سباق محموم مع الزمن فلا يكاد ينتهي من سباق حتى تبدأ فصول سباق جديد وهكذا.

تجد طعم الحياة ممزوج بالمرارة رغم ما تفرزه من نعم لا تعد ولا تحصى. الفكر دائما مشغول وكأنَّ هموم الدنيا كلها اجتمعت فيه مع كل مظاهر الترف والبذخ التي تبدو واضحة للعيان.

يغضب الواحد على أتفه الأسباب فتندلع ثورة عصبيته مع اندلاع ثورة من علامات السؤال والاستغراب حول لماذا كل هذه العصبية وهل الأمر يستحق كل هذا؟ ولماذا يقذف بهذه الحمم من الكلمات النابية والجارحة؟ بينما في حالة الرضا نجده عاجزا مشلولا بخيلا يستكثر الكلمة الطيبة والمشاعر الجميلة على من حوله سواء كانت زوجة أو ابن أو صديق أو…

أرأيت وأنت تشارك زوجتك أو صديقك أو جارك أو.. مشاعره، ألا ترى بأنك تشاركه حسه ونبضه وفكره؟! ألا ترى بأنك تتألم لألمه وتفرح لفرحه؟! ألا ترى أنَّ قلبك ينبض بنبضات قلبه؟! ألا ترى أنك أصبحت هو في الإحساس والشعور؟! وتلك السعادة بعينها. فكيف تدبُّ الحياة في هذه الحياة بهذا الجدب وهذه الهوة السحيقة الكؤود التي تفصل بين الأفراد ويدفعون الثمن باهظا بابتعادهم وتقوقعهم على ذواتهم وتفرقهم في عوالمهم الخاصة؟

وكيف تكون البيوت بيوتا تسري فيها الروح إلا بالمحبة والألفة ولو كانت كقصر رغدان أو متحف اللوفر، ولو ملك أصحابها ملء الأرض ذهبًا وفضة؟ فالمحبة مياه القلوب وروحها وريحانها، بل هي ارتباط روحي بينها ينعكس على السلوك والمعاملات، إنها شعور يتغلغل في أعماق الوجدان ويبث في النفس طاقة وحيوية تدفعها إلى السلوك الحسن، والمعاملة الطيبة الراقية البعيدة عن الأنا والمصلحة الذاتية الضيقة، كما تدفع نحو الإحسان والعفو والتسامح وكل القيم الانسانية الراقية.

نحن بحاجة ماسة لعودة شلال المحبة الصادقة تصب فينا خاصة في هذا الزمن الرديء الذي انفصلت فيه عرى التلاحم والترابط، وانفرط فيه عقد الأخوة وطغت فيه المادة وتقطعت الأنفاس جراء اللهاث المحموم خلف المصالح والأنا.

نحن بحاجة لعودة ينابيع التسامح والتغافر تتفجر فينا، فليس المشلول من ابتلاه الله تعالى بالعجز في قدميه، ولكن المشلول الذي فقد القدرة على الإحساس بالآخرين، الذي تعطلت عنده لغة التواصل معهم، الذي ذبلت فيه أزهار الخير لتصبح أشواكا واخزة.

فإياك أخي/ أختي أن تكون مشلول المشاعر، اجعل من مشاعرك وأحاسيسك لوحة مشرقة مضيئة ملونة بألوان الأمل والربيع.  ترجم مشاعرك بابتسامة تلقى بها أخًا أو صديقًا أو مهمومًا تزيل عنه ما علق في قلبه من غبار الهم والحزن.

ترجمها زهرة جميلة تهديها لزوجتك فتشم مع عبيرها عطر محبتك الذي ينساب إلى قلبها وروحها فتعيش في جنة على الأرض أنت من شيدها لها. ترجمها لمسة حانية تربت بها على كتف طفلك أو طفلتك تشعره بأن الدنيا كلها أصبحت ملك يديه ليحيا في واحة من الاطمئنان والسكينة. ترجمها بزيارة لقريب أو جار أو مريض وتشعره أن الدنيا لا زالت بخير لأن فيها أمثالك. ترجمها بإطلاق سهام الليل تدعو فيها لإخوانك لعل دعوة منك يتقبلها الله تعالى. وقبل كل ذلك، ترجمها بعودة صادقة إلى الله عز وجل وبصلح معه سبحانه.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى