أخبار رئيسيةمقالاتومضات

معركة الوعي (130) خديعة الشّعارات وتغييب الوعي

حامد اغبارية

لأن الشّعارات الانتخابية هي إحدى أهم وسائل الأحزاب ووكلاء الأصوات للوصول إلى الجمهور بهدف الحصول على صوته، فإنَّه من الضروري مناقشة هذه الشّعارات وتفكيكها، لنعرف إن كانت ذات مصداقيّة أم أنها مجرد محاولة مكرّرة للتأثير العاطفي على الجمهور. عندما تتربّع العاطفة فوق العقل وتلغيه تمامًا فإن الكلام المعسول، حتى لو بدا غير منطقي ولا علاقة له بالواقع، يتحوّل إلى عنصر مدمّر، خاصّة عندما يجد له جمهورًا يتبناه أو يصدّقه أو يسوّقه، إلى درجة اعتقاد بعض السُّذّج بأن واضع الشّعار قد أوحي إليه، وأنه لا قبله ولا بعده، فهو القائد الفذّ، وهو الحزب المؤيّد، وهو الطريق الموُصل إلى برّ الأمان، حتى إذا وضعت الانتخابات أوزارها وألقت أوساخها وانقشع غبار “أم المعارك” سقط الشعار وأصحاب الشعار وجمهور الشعار.

إن مشكلة مجتمعنا في الداخل الفلسطيني أنه يصدّق الشّعارات بعاطفيّة مفرطة، رغم علمه المسبق بأن الشّعارات الانتخابيّة مجرد وسيلة مؤقّتة للوصول إلى الكنيست، ورغم علمه من التجارب المكررة أنّ عليه أن ينتظر الجولة الانتخابية القادمة حتى تتذكّره الأحزاب بشعارات جديدة، فإنه بذلك يمنح أصحاب الشّعارات الفرصة تلو الفرصة لمواصلة خداعه دون أن يرفّ لها جفن، فهي تعرف أن الشّعارات الانتخابيّة ليست سوى وسيلة لتخدير الجمهور وتغييب وعيه ودفعه إلى إغماض عينيه عن الحقيقة. وهذه حقيقة يعرفها خبراء التسويق و”المستشارون الإعلاميون”.

في جولة الانتخابات الحاليّة “أبدعت” الأحزاب العربية المشاركة في انتخابات الكنيست الصهيوني شعارات انتخابيّة، ربّما تتبعُها لاحقا شعارات أخرى، بعد أن تستنفد هذه دورها وينتهي مفعول صلاحيتها. ولعلّ من يقرأ هذه الشعارات ويحاول سبر أغوار خلفيّتها سيكتشف سريعا أننا أمام أحزاب لم تعد تملك ما تقوله للجمهور، بعد أن استنزفت كل الشعارات الممكنة، خاصة منذ تشكيل القائمة المشتركة عام 2015، وما تبع ذلك من تفكك وانقسام، ثم عودة ووئام، ثم فسخ وانفصام، ثم حرب ضروس على الفتات حول مائدة اللئام. كان شعارهم “إرادة شعب” غير حقيقي إلى درجة السّماجة، لأن أحدًا منهم لم يسأل الشعب عن إرادته، وإنما استغلوا الشعب للتحقيق رغباتهم، وقد وجدوا في الشعب شرائح صدّقت الشعار الخادع وسارت خلفه كالقطيع. نعم، نحن أيضًا عندنا جمهور يؤدي بإتقان دور القطيع. هذا مؤسف، لكنها الحقيقة. فقد نجحت الأحزاب بالشعارات الخادعة، وبوسائل إعلاميّة مضللة أن توجد لها قطيعًا يصفّق لها، مثل الأطرش في الزفة.

وماذا تقول شعارات الأحزاب في هذه الجولة؟

أولا يُلاحظ أن هذه الشعارات تمثل كل حزب على حدة، وهذا مؤشر على أن هذه الأحزاب باتت على قناعة أن مستقبل الشراكة مهدد، خاصة بعد الموقف الأخير لحزب التجمع.

ثم يتبين لك أن بعض هذه الشّعارات يتحدّث عن شيء، ولكنّ أصحابها يمارسون عكسه تماما على أرض الواقع، وبعضها الآخر يمثّل ديماغوغيا انتخابيّة.

خذ مثلا شعار “مش طحن حكي” الصادر عن العربية للتغيير. وبغضّ النّظر عن كون هذه الحركة جزءًا من القائمة المشتركة (حاليا) وأنّ شعاراتها يجب أن تكون عاكسة للمشتركة وليس للحركة، إلا أنّ هذا الشعار بحدّ ذاته مجرد “طحن حكي”، لأن واقع حالهم ليس أكثر من استعراض للقدرات الخطابيّة النّاريّة من على منصّة الكنيست الصّهيوني. هم يعلمون ذلك تماما، وهناك من اعترف أكثر من مرة بأن أعضاء الكنيست العرب مجرد ظاهرة صوتية احتجاجيّة لا تتجاوز الحناجر الملتهبة. لذلك يبدو (لي) هذا الشعار من أكثر الشعارات غباءً، لأن طرحه هو اعتراف ضمني بأن المسألة كلّها طحن حكي. هم يسمعون هذا في الشارع ويقرأونه على منصات التواصل، لذلك أرادوا نفي التهمة باعتراف بها.

فما الذي قدّمه أصحاب الشعار على أرض الواقع؟ لا شيء، سوى إيهام الجمهور بأن نشاطهم في الكنيست يتصدر المراتب الأولى بشهادة الإعلام العبري الصّديق!! ثم يحدثونك عن سنّ قوانين تبدو للوهلة الأولى، في نظر السذّج، إنجازا، ولكنك عندما تضعها في الميزان لا تجد لها وزنا حقيقيا، لأن هذه القوانين في حقيقتها ثانوية جدا وليست ذات شأن يمكن أن ينعكس على الهمّ الجماعي للداخل الفلسطيني، هذا لو افترضنا أن الهمّ الجماعي يتمثل فقط بتحصيل الحقوق المدنية اليومية.

لم نجدهم مثلا نجحوا ليس في سن قانون يمنع هدم البيوت، بل إنهم لم ينجحوا في اتخاذ إجراءات عينية لمنع هدم بيت واحد أو حتى خربوش في النقب! ولم نجدهم مثلا نجحوا في تحقيق لمّ شمل عائلة واحدة تعاني العذاب منذ سنوات طويلة! ولم نجدهم مثلا نجحوا في إلغاء أو حتى إدخال تعديلات على قانون القومية…. والقائمة طويلة جدا لا يمكن حصرها. وفي المحصّلة فإن العربية للتغيير هي آخر من يحق له أن يوهم الجمهور بأن المسألة “مش طحن حكي”… بل هي أكثر من طحْن الحكي.. إنها لا تتجاوز ظاهرة صوتية تلفزيونية تتقن فن الرقص على جميع الحبال، وهذه صفة لصيقة منذ التأسيس عام 1996. فهل يمكن خداع الجمهور بشعار كهذا وهو يعلم أن الحقيقة عكس ذلك تمامًا؟ على الجمهور أن يقرر بنفسه إذا كان يمكن خداعه أم أنه حان الوقت فعلا لوضع حد لهذه المهازل.

وخذ مثلا شعار حزب التجمع الذي يقول “الوضع بدُّه تجمع” أو “شعبنا أقوى بالتجمّع”، وهو للتذكير شعار قديم، استخدمه التجمع سابقا لما خاض الانتخابات وحده. والشعار ثنائي المعنى، وهنا الإيهام والخداع. فالشعار يدعو للتصويت للتجمع كحزب، ولكنه يريدك أن تفهم منه أيضا أن المطلوب هو تجمّع مجتمع الداخل تحت عنوان واحد، وبذلك يكون أقوى! فكيف يمكن للجمهور أن يصدّق شعارا انتخابيا لحزب قرر الخروج من “التجمّع الانتخابي” المسمّى “القائمة المشتركة”؟ كيف يمكن للذي كان بالأمس يدعو للتصويت لذلك التجمّع الانتخابي الذي ضم ذات مرة أربعة أحزاب، ثم تقلص إلى ثلاثة أحزاب، أن يطلب ثقة الجمهور؟

وخذ مثلا شعار الجبهة الذي قول فيه إن “طريقنا واضح، ضد العنصريّة”. هذا شعار مستهلك مشروخ يكررون من خلاله نموذج شعار “إسقاط نتنياهو”، ذلك الشعار الذي أوهم الناس بأن نتنياهو هو العقبة وأن إسقاطه سيأتي بالفتح المبين. ولو عدت إلى فترة الثمانينات لوجدت أن شيئا لم يتغير في شعارات الجبهة. فبعد صعود الليكود للحكم في انتخابات 1977 جاءتهم الفرصة ليتبنوْا شعار “إسقاط اليمين” الذي يرافقهم حتى الآن بأشكال مختلفة، وهو شعار يوهم بأن هذه الدولة فيها فعلا يمين ويسار، وكأن قضية مجتمع الداخل أو قضية الشعب الفلسطيني تأزمت بسبب اليمين وليس بسبب المشروع الصهيوني فكرةً وتنفيذًا. وهذه في الحقيقة ديماغوغيا من النّوع الصّاخب الذي يصمّ الآذان، ويشل العقل عن التفكير ويحصره في لعبة اليمين واليمين واليسار.

إن مشكلة مجتمع الداخل ليست مع العنصرية فقط، تلك العنصريّة التي نجحت الجبهة في حصرها باليمين الإسرائيلي المتطرف، ما يعني أن هناك جهات إسرائيلية ليست عنصرية وغارقة في حب الفلسطينيين والعرب ولا يمكنها العيش بدونهم!! وعلى الجمهور أن يسأل أصحاب هذا الشعار: هل إذا نجح “طريقكم الواضح ضد العنصرية” وتمكنتم من اجتثاث العنصريين واقتلاعهم من جذورهم سيستيقظ الناس صباح اليوم التالي ليجدوا حياتهم الجرداء قد حالت خضرة وثمارا وفاضت أنهارّا من لبن عسل، وأخرجت من بطنها الذهب والفضّة؟

هل تريد اختبار هذا الشعار؟ بسهولة يمكنك أن تكتشف أن المجتمع الإسرائيلي كلّه يقطر عنصرية! كيف؟ عندما يتعلق الأمر بغزة أو جنين أو نابلس أو معتقل إداري مضرب عن الطعام احتجاجا على الظلم، مثل خليل عواودة، عندها يمكنك أن ترى “اليمين واليسار والوسط وما بينهم” على حقيقتهم.. ولا يبقى لأحزاب الكنيست العربية سوى التقاط الصور أو إصدار البيانات ونشر الفيديوهات على منصات التواصل أو الصمت المطبق.

وخذ شعارات الموحدة الذي تتحدث عن “خدمة مصالح مجتمعنا وتحسين حياته” و “التأثير من الداخل” و “الواقعي والمؤثر”. لقد سمع الناس جعجعة ولم يروا طحنًا. أغرقوهم بالشعارات والوعود والأرقام المليونية والملياريّة حتى ظنّ ابن النقب أن بيت الصفيح الذي يؤويه مع أسرته سيتحول مع شروق الشمس إلى قصر منيف، وأن الجرافات القادمة لهدم بيت الصّفيح إنما جاءت لتسوية الأرض تمهيدًا للبناء الجديد، فسوّت بهم الأرض وأصبحوا في العراء، لا يجدون حتى شجرة يستظلون بها، لأن جرافات التأثير من الداخل اقتلعت كل شيء.

شاركت الموحدة في ائتلاف حكومي كان فشله ظاهرا من لحظة تشكيله، ومع ذلك واصلت تضليل الجمهور حتى الدقائق الأخيرة قبل سقوط الحكومة. وإذا كانت قيادات الموحدة تقول إنها ليست ساذجة، وتعترف أن العنصري لن يتحول إلى محبّ للعرب، فكيف يمكن أن تكون الشراكة والاشتباك مع الآخر (الصهيوني) وسيلة لإحداث التغيير الإيجابي لدى ذلك الآخر؟ وأساسًا ما هو ذلك التغيير الإيجابي؟ هل هو تغيير في العقلية الصهيونية الاستعلائية القائمة على فكرة نفي الآخر ونفي وجوده ومصادرة مكانه؟ هل هو تغيير في مخطط استهداف المسجد الأقصى المبارك والتراجع عن مشروع الهيكل الثالث؟ هل هو تغيير يوقف سياسة هدم البيوت؟ هل هو تغيير نحو وقف الاستيطان ونهب الأراضي؟ الجمهور أيضا ليس ساذجا حتى يقع مرة أخرى في فخ الشعارات الطنانة الفارغة من أي مضمون، شعارات بلا رصيد.

وليس أكثر سذاجة من الّذي يتوهّم أن المشاركة في ائتلاف حكومي صهيوني يمكن أن تأتي بخير على جمهور ومجتمع تعمل نفس الحكومة على تفكيكه وتدميره، لأنها تعتبره خطرًا أمنيًا وديمغرافيًّا، وترميه بالإرهاب ودعم الإرهاب مع كل إشراقة شمس. وتمارس ضدّه القمع على أبواب الأقصى وفي المدن الساحلية وغيرها، وتشن ضدّه حملات تحريض إعلامية ورسمية كلّما رفع صوته بالرفض والاحتجاج.

إن على الجمهور أن يعي أن هذه الأحزاب مجتمعة ومتفرقة تستخدمه من أجل مصلحتها، ولا تسعى إلا إلى هدف واحد: الوصول إلى الكنيست على أكتافه ومن خلال استغلال معاناته.

لذلك على الجمهور أن ينظر إلى المسألة ليس من خلال الشعار، بل من خلال الأداء والبرامج والنتائج. أما الأداء فقد عاينه الجمهور وذاق “لذّة” آثاره على جلده. وأما البرامج فإنها تدور كلّها في أضيق نطاق داخل مساحة المناورة التي يتيحها لهم ملعب السياسة الإسرائيلي، علمًا أن هناك أحزابا وحركات ليس عندها برامج، وبرنامجها الوحيد هو الشعار الانتخابي. وأما النتائج فهي ماثلة أمام الجميع، ويستطيع كل واحد من أبناء مجتمع الداخل أن يضع هذه “النتائج” في الميزان، ثم يقرر خياراته.

خلاصة القول: شعارات أشبه ما تكون بشعار المقاومة والممانعة الذي صدّعوا رؤوس الأمة به، دون أثر على أرض الواقع. شعارات تشبه شعارات جماعة “أوسلو” التي تحدثت عن “السلام العادل والشامل” الذي أثمر تنسيقا أمنيًّا وتطبيعًا، و”الدولة المستقلة” التي تقلصت وانكمشت حتى أصبحت وهْمًا يجلس القرفصاء على رأس خازوق. هي شعارات تشبه إعلانات الشركات التجارية التي تسوّق بضائعها لجمهورٍ استهلاكي عقلُه معطّل، فتحصد هي المليارات، بينما يحصد الجمهور الخيبة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى