أخبار عاجلةمقالاتومضات

فلسفة الواقعية في النظام الإسلامي

د. محمود مصالحة

الكندي هو الفيلسوف العلامة الإسلامي أبي عمر محمد بن يوسف، وقد عَرَّفَ مفهوم الفلسفة فقال: هي “علم الأشياء الكلية بحقائقها”، ونستدل من ذلك أن الفلسفة الواقعية هي: ثبوت حقيقة الأشياء. ولقد كَثُرت مفاهيم الواقعية وتعريفاتها، فهناك عشرات الواقعيات، منها: الواقعية الروحية، والواقعية النقدية، والواقعية المثالية، والواقعية الطبيعية، والواقعية الموضوعية، والواقعية القومية، والواقعية الاشتراكية، والواقعية الصهيونية، والواقعية الشكلية، والواقعية الذاتية وفق الذات، وواقعية الأنا، والواقعية الإسلامية، فلا بد أن نكون شديدي الحذر من السقوط في هذه التعريفات القديمة أو الحديثة لفلسفة الواقعية، أما الواقعية بالمفهوم الإسلامي فهي تختلف اختلافًا جذريًا عن الواقعية بالمفهوم الغربي، فالثانية هي مذهب فلسفي أدبي تأثّر بالنظريات العلمية التجريبية المادية، والواقعية في المذهب الفكري الاشتراكي تُجسد النظرة المادية الماركسية الانجيلية من خلال فلسفة الديلكتيكية الجدلية الإلحادية، أما الواقعية في الفكر الشيوعي تتحدث عن النشاط الاقتصادي المادي في الصراع الطبقي بينها وبين الرأسمالية البرجوازية، حيث تربط الإنسان بغرائزه وشهواته المادية، وهي فلسفة إلحادية تنكر عالم ما وراء الطبيعة، وترفض كل ما هو غَيْبي، وفلسفات الواقعية الإلحادية مرَدُها إلى فلسفة أرسطو الاغريقي الذي قال: “إن المبدأ الحق في الأشياء إنما يعود إلى الواقع”.

وهذا مخالف للمفهوم الإسلامي للواقعية: فالفكر الإسلامي يفوق الواقع الأرضي للواقعية المادية بكل أشكالها، وإن كانت الواقعية الإسلامية تلتقي مع الواقعية المادية أحيانًا، إلا أنها تختلف معها في الجذور، إذ أن الواقعية المادية الماركسية والاشتراكية مثلًا تنفصلان عند الأساس الروحي لحركة المادة، ولا يعترفان به، في حين أن الإسلام يعتبر العقل المادي قاصرًا عن الوصول إلى الكثير من الحقائق في الآفاق الإنسانية، كعالم الروح” لقوله تعالى: ” وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ” فالقوى العقلية الإسلامية المتفوقة، قادرة على الوصول إلى الآفاق البعيدة خارج إطار العالم الترابي الأرضي، الذي انغلقت فيه العقول المادية، وبقصورها وضعفها ألَّهَت المادة والتصقت بعناصرها الأرضية، ولكن العقلية الإسلامية التي استخدمت عالم المادة المُسخر لها، الذي تقوقع به الماديون، فاخترقته وأخذت تُحلِّق بروحانيتها في العالم الآخر، إلى ما وراء المادة، فتكون الواقعية الإسلامية قد تجاوزت البصر إلى البصيرة، فترى بنورها الثاقب بنور الله، ما لم يمكن للعلم بقوانينه أن يراه، وقد حطّم قانون السببية نظريات مادية كثيرة، فتجاوزها إلى عالم الحقيقة الأزلي، إلى ما وراء عالم الظواهر الطبيعية، إلى عالم الغيب، وتراجعت ما يسمى بحتمية ماركس وانجلز “الجدلية المادية”، وعلت مكانها نظرية “الاحتمالية” التي ألغت ثلاث أرباع البديهيات العلمية في القرن العشرين، فجاءت حقيقة الواقعية الإسلامية لتربط الرباط السليم المتوازن الذي يجمع بين الأرض ذو البعد الواحد وبين بعد السماء، وبين الطبيعة المحسوسة والطبيعة غير المحسوسة.

وهكذا يتحول الواقع الأرضي في الإسلام إلى واقع مثالي، مادام هو متصل بالمنبع الصافي النوراني القدسي. (الواقعية في الإسلام د. أحمد ساعي) بتصرف.

“والواقعية” في الإسلام تتلخص في عدة محاور:

أولا: محور الوجود: في العقيدة الإسلامية والفكر الإسلامي القائم على قانون السببية، أي أن الوجود حادث وكل حادث له مُحدِث، وكل حادث له ابتداء وله انتهاء، ووجود الوجود هو حادث أحدثه خالق الوجود الله جلَّ جلاله مسبب الأسباب، الذي كان ولا مكان، وهو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، والظاهر لا شيء فوقه، والباطن لا شيء دونه، المحيط بكل شيء.

أما الحقيقة العلمية لنشأة الوجود تتلخص في نظرية الانفجار العظيم، الذي تحدث عنه القرآن الكريم في الاعجاز العلمي قبل أـكثر من ألف وأربعمائة، لقوله تعالى: ” أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ” “كنتا رتقًا” أي ملتصقتان كتلة واحدة ذات كثافة عظيمة جدًا، وذات حرارة عالية تفوق الخيال عند الانفجار العظيم، وأخذ الكون بالتمدد، قال تعالى: “ففتقناهما” والفتق: هو الشق والفصل والتفريق بينهما، فتلك الكتلة المادية بانفجارها العظيم، هي علة وجودية كونية ليست عاقلة حتى تكون فاعلة بذاتها، بل هي خاضعة لقانون السببية. لذلك لا يمكن حصر وقصر حقيقة الكون إلا في الكون المادي المشهود،

ومن الخطأ الموضوعي الجسيم الذي وقع فيه الماديون الملحدون القول بعدميته العالم الروحي اعتمادًا على محدودية القدرة الحسية البشرية.

ثانيا: محور الإنسان: فالواقعية الإسلامية المستوحاة من القرآن الكريم، لتؤكد أن الإنسان مخلوق من جوهرين، الأول: الجوهر المادي وهو الجسد المخلوق من الطين، والجوهر الثاني: جوهر الروح التي تمثل الجانب الحي والمحرك للجوهر الأول، وهو الجسد، وحياة الإنسان مرهونة بتلازم الجوهرين الروح والجسد، الجوهر المادي والجوهر الروحي، والنظرة الإسلامية تُحقق التوازن بين السمو الروحي والطبيعة الجسدية للإنسان في علاقته الواقعية مع خالقه ومع مجتمعه ومع الكون، وجوهر الروح هي الفاعلة في الجوهر المادي، وبخروجها وانفصالها عنه يسكن جوهر الجسد، ويرجع إلى الحقيقة الواقعية الترابية وهو “الموت”، بانتظار نفخة بعث، ِلبعث من في القبور للحياة الآخرة.

ثالثًا: محور الحياة: فإنها واقعية في الإسلام لتؤكد أن حياة الأنسان بعد خروجه إلى عالم الدنيا، لا تنتهي حياته عند الموت، إنما ينتقل إلى حقيقة حياة الآخرة، لقوله تعالى:” لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)

خصائص الواقعية في الإسلام:

أولا: لقد راعت الشريعة الإسلامية فطرة الإنسان في غرائزه الفطرية، فنظمتها للحفاظ على طهارة والأنساب والأعراض والأسر والمجتمعات، فشرّعت الأحكام الشخصية، الزواج والطلاق مراعاةً للدافع الجنسي والرضاع والميراث.

ومن الواقعية الإسلامية: الاستخلاف في الأرض لعمارتها بمنهج العدالة السماوية للمًسْتَخلِف الله الخالق جلّ جلاله، والخروج عن هذه الوظيفة الموكلة إليه. سيفضي به اتباع الهوى والإفساد في الأرض، والانحراف نحو الضلال والظلم والشذوذ الجنسي، واختلاط في الأنساب، وهو انحراف عن الواقعية الإسلامية، نحو واقعية الفوضى والتفكك المجتمعي.

ثانيا: راعت الشريعة الإسلامية: ضعفه فكلفته بما يطيقه من تكليف العبادات بما يطيق، ويسَّرت على من لا يطيق ذلك لمشقة ما، وفق القاعدة الفقهية ” المشقة تجلب التيسير” استنادًا لقوله تعالى: رِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ”.

يقول الإمام الشاطبي في الموافقات: “إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع”.

ثالثا: الواقعية الإسلامية في جانب المعاملات، فالأصل في الأشياء الحِلّ، وما حُرِّم شيء إلا لدفع ضرر، فحُرِّمت الخمرة لما تسببه من إضرار بالعقل والبدن، وحُرِّم الربا لأنه يوقع الظلم الاجتماعي والضرر الاقتصادي على المجتمع على الدولة.

رابعا: الواقعية الإسلامية في الجانب الاجتماعي: راعت الشريعة الإسلامية مسألة الفوارق الطبقية الاجتماعية فشرَّعت فريضة الزكاة والتكافل والصدقات، للقضاء على حالة الفقر ابتداء، وتعليمهم ومعاونتهم على تكوين مصادر اقتصادية حتى على الصعيد الفردي.

لذلك فإن فلسفة الواقعية الإسلامية تتلخص بشمولية التصور، ومثالية الواقع، ومنهجية الاستخلاف في الأرض، وربانية المصدر، تَنْبُع من التصور العقدي لحقيقة توحيد الربوبية والألوهية، وتتمحور في بيان علاقة الإنسان بالخالق، وعلاقته بأخيه الإنسان، وعلاقته بالكون في الحياة الدنيا، وما بعد الموت في عالم الآخرة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى