أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

أدب النقد واجب الوقت (2)

الشيخ رائد صلاح يكتب:

لا زلت أؤكد ناصحًا أن النقد لأجل النقد عقيم، وأن النقد المنفلت العاري عن أدب النقد لا يقود إلى خير، وأن النقد القائم على الغمز واللمز والهمز الحامل للتجريح وإن كان ظاهره صافيًا هو نقد ملغوم، ولذلك لا بد لنا من الانضباط بأدب النقد الذي هو واجب الوقت الآن، مع الحذر كل الحذر من الميل أو الانزلاق إلى التكفير أو التخوين أو التجريح، ولأهمية هذا الموضوع وحساسيته أضيف ما يلي:

1- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يوصي صحابيا، كان في كثير من الأحيان يقول لذاك الصحابي قبل أن يوصيه: (يا فلان إني أحبك..) ثم يوصيه، وهو أدب رفيع يُستفاد منه الشيء الكثير، ومن أهم ما يُستفاد من هذا الأدب الرفيع أن الناقد يجب أن ينطلق من حبه للذي يريد أن ينتقده وليس من منطلق الحقد أو الكراهية أو النفور، لأن النقد القائم على الحقد والكراهية أو النفور يهدم ولا يبني، ويفرّق ولا يجمع، ويشتت ولا يجمع، وقد يزيد من ينتقده عنادًا على عثراته وتمسكًا بها ودفاعًا عنها، حتى لو كانت تُصادم ثوابتنا الإسلامية العروبية الفلسطينية.

2- ومما يُستفاد من هذا الأدب الرفيع أن الناقد يجب أن ينطلق من منطلق الحرص على تحقيق الخير للذي يريد أن ينتقده! ولذلك ما أجمل أن يسأل نفسه هذا السؤال: لماذا أنتقد فلان؟ فإن كان الجواب لأنه يحرص على تحقيق الخير للذي ينتقده، فهو النقد الرفيع الذي يندرج في قائمة أساليب النصيحة، وما أدراك ما النصيحة؟ فهي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم (الدين النصيحة).

3- ومما يُستفاد من هذا الأدب الرفيع أن الناقد يجب أن يقرن نقده بالدعاء الخالص للذي يريد أن ينتقده أن يعود عن خطأه، وأن ينهض من عثرته، وأن يستقيم بعد كبوته، وهكذا يصبح النقد أداة تصحيح لا أداة تجريح، ولغة تناصح لا لغة تناطح، وخطاب توجيه لا خطاب تسفيه.

4- ومما يلفت الانتباه في (منهج التغيير) في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء لتغيير مجتمع كافر ونقله من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال المبين إلى الهدى المبين، ومن الظلمات إلى النور، ولكن لغة النداء التي خاطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك المجتمع لم تكن بلهجة: (يا أيها الكفار) مع أنهم كانوا كافرين، ولم تكن بلهجة: (يا أيها الضالون) أو (يا أيها الفاسقون) أو (يا أيها الظالمون) مع أنهم كانوا ضالين وفاسقين وظالمين، بل خاطبهم باللهجات الأحب إليهم، فكان ينادي قبيلة قريش بلهجة يا (قومي)، أو كان ينادي بلهجة: (يا بني عبد المطلب، يا بني ذيبان، يا بني فزارة، يا بني تميم، يا بني عبس..)، وكان ينادي الفرد فيهم بأرفع لهجة عرفتها العرب في تلك الأيام، فلم يكن ينادي الفرد باسمه بل بكنيته حيث كان يقول: (يا أبا الوليد) أو (يا أبا سفيان)، بهدف أن يكسب قلوبهم على قاعدة (كسب القلوب أولى من كسب المواقف)، وبهدف أن تلين هذه القلوب بعد أن غرقت في حمأة الجاهلية قرونا من الزمان، فقست كالحجارة، وأظلمت كالليل البهيم، وماتت كجسد بلا روح، ولذلك كان لا بد من اختراق هذه القلوب وبعث الحياة فيها، وكان لا بدّ من تخطي الأغلفة التي أحاطت بها، لأن أزمة تعثر الإنسان تبدأ من القلب لا من لسانه ولا من قلمه ولا من مواقفه، بل إن عثرات لسانه وقلمه ومواقفه هي انعكاس لعثرات قلبه، وفي ذلك يقول الله تعالى: (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)، مما يؤكد لنا أن (منهج النقد) ليس مجرد (مزاج فردي)، وليس مجرد (لحظات انفعال) أو (رد فعل مستعجل) أو (شهوة نفس خفية)، فكل ذلك لن يغير خطأ، ولن يصحح مسارًا، ولن يقيل عاثرًا، بل لا بدّ من فقه (منهج التغيير) في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثر المنهج شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، بهدف أن نضبط إيقاع النقد الذي تجود به ألسنتنا أو أقلامنا وفق هذا المنهج النبوي الرفيع.

5- ووفق هذا المنهج، تعامل الإمام حسن البنا مع الأستاذ سيد قطب، يوم أن كان الأستاذ سيد قطب في ريعان شبابه، وفي بدايات انتاجه الأدبي والفكري حيث كتب مقالة دعا فيها إلى إقامة شواطئ للعراة في مصر، فهَمّ بعض أبناء المشروع الاسلامي أن يرد على الأستاذ سيد قطب، وأن يكيل له الصاع صاعين، فنصح الإمام حسن البنا أولئك الإخوة من أبناء المشروع الإسلامي أن يتلطفوا مع الأستاذ سيد قطب، ولا يغلظوا في الرد عليه، ثم قال لهم: أسأل الله تعالى أن يشرح صدره ويسخر قلمه لنصرة المشروع الإسلامي!! فأخذ أولئك الإخوة بنصيحة الإمام حسن البنا، وتلطفوا مع الأستاذ سيد قطب، ثم دارت الأيام وشرح الله تعالى صدره فطوّع قلمه وموهبته الأدبية والفكرية والفنية لنصرة المشروع الإسلامي، وأكرمه الله تعالى بكتابة تفسيره المعروف باسم (في ظلال القرآن) وكتاب (خصائص التصور الإسلامي ومقوماته) وكتاب (معالم في الطريق) وكتاب (المستقبل لهذا الدين)، وقد أهله هذا الإنتاج الغزير أن ينال وبحق منزلة (عملاق الفكر الإسلامي).

6- ولو نظر الكثير من أبناء المشروع الإسلامي اليوم في الداخل الفلسطيني إلى أنفسهم، لوقفوا على عظيم نعمة الله تعالى عليهم حيث كانوا ذات يوم في خانة الغافلين أو حتى المكبين على وجوههم، ولو خوطبوا في تلك الأيام بخطاب القسوة وغلظة القلب، لدفعهم ذلك أن يصرّوا على ما كانوا عليه بدافع التعصب لنفوسهم، ولكن هي نعمة الله تعالى عليهم، التي أوجدت من يخاطبهم بالحكمة والموعظة الحسنة وأن يجادلهم بالتي هي أحسن، حتى لانت قلوبهم وانشرحت صدورهم، و نقلهم الله تعالى برحمته من خانة الغافلين والمكبين على وجوههم إلى رحابة الهداية والاطمئنان وأنوار الإيمان، ثم راحوا يجودون بكل مواهبهم لنصرة المشروع الإسلامي.

7- ويبقى المطلوب الآن كما كان بالأمس، وغدا كما هو اليوم أن نحافظ على أدب النقد الرفيق بمن ننتقده داعين الله تعالى أن يبصره بعثراته، وأن يجدد العهد مع ثوابتنا الإسلامية العروبية الفلسطينية.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى