أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

معركة الوعي (91): ستُّ سنوات عجاف.. نظرة في المشهد من ثلاث زوايا

حامد اغبارية

لا ينتهي الحديث، ولا يمكن أن ينتهي، عن آثار وتبعات حظر الحركة الإسلامية وتأثيرها على مجمل المشهد في الداخل الفلسطيني. بل كلما مضت السنوات ازدادت تلك الآثار وضوحا وحِدّة، وتبين حجم وثقل ذلك التنظيم الذي لولا هذه الحقيقة لما أقدمت المؤسسة الإسرائيلية على حظره، ولما وضعته على رأس سلم أولوياتها، ولما فرّغت له الوقت والجهد والعقول والخطط والدراسات من أجل ضبطه وتحجيمه، بحيث يدخل، صاغرا، إلى ملعب المشروع الصهيوني.، ليلحق بقافلة التيارات التي اختارت، راغبة، ذلك الطريق المؤدي إلى لا شيء. ولما فشلت كل الجهود جاء قرار الحظر بتلك الفجاجة التي عايشناها.

وإننا حين نحاول أن نقرأ آثار وتأثيرات الحظر على الداخل الفلسطيني فإننا نصطدم بملفات لا تكاد تنتهي، يحتاج الواحد منها إلى فصول، بل إلى مؤلف ضخم. ولذلك سأكتفي في هذا المقال بنظرة سريعة على المشهد من خلال ثلاث زوايا رئيسية: البُعد السياسي، والبُعد الاجتماعي- الخدماتي، وملف القدس والمسجد الأقصى المبارك.

1- أستطيع أن أقول، دون تردد أو شاردة من شكّ، إن المشهد السياسي في الداخل فقد طرفا مهما في معادلة العمل السياسي، إن لم يكن الطرف الأهم، الذي ضبط طرفي المعادلة. فقد كانت الحركة الإسلامية، إلى ما قبل الحظر، هي الطرف المرجّح للكفّة المقابلة للنشاط السياسي الذي عمل في أغلبه داخل ملعب السياسة الإسرائيلية، برؤية سياسية مختلفة، مميزة، ذات استشراف صادق وحقيقي، وقراءة للمتغيّرات، وبصيرة تحكمها قواعد الحفاظ على الثوابت والهوية والانتماء، مع قوّة في الطرح، ووضوح في الموقف، وتمسك بالمفاهيم والسلوك والأداء دون الالتفات إلى الأثمان أو المآلات. فقد حملت الحركة مشروعا نقيا نثرت بذوره في كل مكان من الشمال إلى الجنوب، فأنبته الله نباتا حسنا رأى مجتمعُنا كلُّه قدرته على اجتراح الحياة الكريمة وسط أمواج متلاطمة من الظلم، وتذوّق طيب ثماره، واستوعب أهمية وجوده كما بدأ يستوعب الآن الخسارة الفادحة من تغييبه. ولم يكن ذلك المشروع مجرد أفكار على ورق، بل كان أفكارا نبضت بالحياة على أرض الواقع حتى أصبح أصحابه بلا منافس، في مقدمة القافلة المزدحمة بالمتنافسين.

أدت الحركة الإسلامية إلى ما قبل حظرها دورا سياسيا خارج الملعب الإسرائيلي، سواء خارج الكنيست أو خارج أدوات اللعبة الإسرائيلية، إذ أبدعت لنفسها أدوات خاصة بها استقتها من فهمها العميق لشمولية الإسلام وقدرته على بناء المجتمعات دون حاجة إلى أحد، وإمكاناته وإمكانياته الهائلة في النهوض بالمجتمعات وبالأفراد. فكان صوتها في فضاء النشاط السياسي ظاهرا في كل المواقع والمواقف والمحطات، حتى شكّل موقفها السياسي ضابطا ومقررا وموجّها ومسدّدا ومرجّحا، داخل لجنة المتابعة وخارجها، وعلى مستوى السياسة المحلية والفلسطينية على طرفي الخط، بل تجاوزت ذلك إلى دور مؤثر على المستويين العربي والإسلامي.

ومع تغييب التنظيم الذي حمل كلّ هذه الأثقال من أجل صلاح المجتمع وإصلاحه وتحقيق مصالحه دون التنازل عن الحقوق والثوابت ودون التراجع قيد أنملة عنها، نرى الوضع المأساوي الذي وصل إليه المشهد السياسي في الداخل، سواء على مستوى لجنة المتابعة والأداء المترهل، الذي بلغ حدّ الشلل شبه التام، جراء ما أفرزته نتائج الانتخابات الأخيرة للكنيست الصهيوني، وسواء أداء الأحزاب السياسية (أحزاب المشتركة والقائمة الموحدة/ الإسلامية الجنوبية) وما تبعه من غرق إرادي مثير للاستهجان والريبة في مستنقع السياسة الإسرائيلية حتى الأذنين بطريقة غير مسبوقة في هزالة الأداء وتنازل متتابع ومُريع عن مواقف كانت بالنسبة لمجتمعنا خطوطا حمراء لا يجوز تجاوزها ولا حتى مجرد الاقتراب منها!

هذا تماما ما أرادته المؤسسة الإسرائيلية من وراء حظر الحركة الإسلامية، أو بتعبير أكثر دقة؛ هذا بعض ما أرادته. فقد أرادت أن يكون هناك صوتٌ سياسي واحد تمثله أحزاب الكنيست؛ صوتٌ لا يرقى إلى مستوى الهمّ الجمعي، ولا يتجاوز الدائرة التي يسمح له باللعب داخلها، وهو إلى ذلك صوت على استعداد أن يخفُت ويضعُف حسب رغبة المؤسسة الإسرائيلية مقابل ثمن بخس دراهم معدودة.

2- في البُعد الاجتماعي – الخدماتي كان تأثير تغييب نشاطات الحركة الإسلامية بقرار الحظر كبيرا جدا. فقد سعت المؤسسة الإسرائيلية إلى تغييب المؤسسات والجمعيات الأهلية التي عملت طوال أكثر من عقدين ضمن مشروع المجتمع العصامي لتحقيق تفكيك مجتمع الداخل وإضعافه وإرباكه وإفقاره وإدخاله في صراعات داخلية وإشغاله بقضايا مصطنعة مثل قضية العنف التي تحوّلت (فجأة) ومباشرة بعد حظر الحركة الإسلامية وسائر المؤسسات الأهلية إلى الهمّ الأولى والملف الأكثر التهابا، بعد أن كانت العيون والجهود والأفكار والنشاطات مركّزة نحو القضايا الأهم، وعلى رأسها تقوية النسيج الاجتماعي والنهوض بالمجتمع والإعلاء من شأنه سلوكيا واجتماعيا واقتصاديا وتعليميا وفكريا وحضاريا، مع ربطه الوثيق بقضايا شعبه وأمته وعلى رأسها قضية القدس والمسجد الأقصى المبارك.

في الحقيقة كان هذا هو مشروع الحركة الإسلامية الذي حاربته المؤسسة الإسرائيلية بكل ما أوتيت من بطش وقمع ووسائل وقدرة على الظلم وإلحاق الضرر. وللأسف واجه هذا المشروع من داخل مجتمع الداخل أيضا من يحاربه ويشيطنه ويسعى إلى إفشاله، ليلتقي هؤلاء مع المؤسسة الإسرائيلية في هدم مشروع الحركة، ولكلّ منهما دوافعه وأسبابه. ولقد ألحق هذا الأذى الذي ألحقه هؤلاء بالحركة أذى أكبر بالأهل في مجتمع الداخل؛ أولئك الأهل الذين يزعم الطرفان (المؤسسة الإسرائيلية والأطراف من الداخل) أنهما يريدان خدمتهم ورفاهيتهم!!

لقد كان مشروع المجتمع العصامي علامة فارقة في مجتمع يسعى إلى العزة والعيش بكرامة، شعب أثبت أنه يستطيع أن يجترح المعجزات من وسط الآلام، وأثبت أن الكف يمكن أن يلاطم المخرز، وأثبت أنه يمكن تحقيق الكرامة بعزة نفس دون الاضطرار إلى الوقوف على أبواب لئام المؤسسة الإسرائيلية. شعب مُدّت له بالخير أيدٍ طاهرة نقية فبنتْ وأحيَتْ وعلّمتْ وربَّتْ ودافعتْ ونافحتْ وواجهتْ كلَّ العواصف والأمواج العاتية بصلابة وشمم ورسوخ كالجبال. شعب يخرُج من رحم معاناته جيلٌ قرآني يشق طريقَ المجدِ ليعيدَ للتاريخ روايتَه ويعيدَ للأمةِ عُنفوانها. شعب يخرجُ منهُ مَن يعيدُ للأُسرةِ الفلسطينية ميثاقَها ورابطتها، ويسدِّدُ سيرَها ويقوّي عُروتها ويرفع مكانتها. شعب يسعى إلى مجتمعٍ متماسك قويٍّ يعرفُ اتجاهَ البوصلة، أبناؤُه على قلبِ رجلٍ واحد همُّهم واحد وقضيتهم واحدة. شعب متكافل لا يقبل أن يبيت فيه جائع لا يجد ما يأكله أو مريض لا يجد ما يتداوى به، أو مظلوم لا يجد من ينصره، أو مكروب لا يجد من يفرج عنه كربته.

3- وأما ملف القدس والأقصى المبارك، فإنه هو الملف، وإنه هو القضية. فقد حوّلت الحركة الإسلامية –إلى يوم حظرها- هذه القضية إلى هاجس يرافق الصغير والكبير، والأفراد والمجتمعات والحكومات، حتى أعادت لها مكانتها على رأس سلم أولويات الأمة كلّها، بعد أن كادت تصبح في طي النسيان. بل أصبحت تلك القضية محكّا تُختبر به صدقية من يزعم أنه يدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني وحقوق الأمة الإسلامية، وذلك بفضل ما أحدثته الحركة الإسلامية، خاصة منذ 1996، من إحياء للقضية، بعد أن أدركت أن نهضة الأمة وشرفها متعلق بها، وبعد أن استوعبت أن مستقبل البشرية كلها منوط بها، ذلك أن كل الصراعات والأحداث التي تتفجر في جهات الأرض الأربع، إنما تلف وتدور لتعود إلى هنا، إلى بيت المقدس، إلى المسجد الأقصى المبارك.

وما الذي فعلته الحركة الإسلامية حتى لحظة حظرها لتحقيق هذا كله، بتوفيق من الله تعالى؟

لقد أنجزت من المشروعات وأبدعت من النشاطات ما عجزت عنه حكومات تملك أضخم الموارد والميزانيات، لكنها لا تملك الإرادة. فأحيت مصاطب العلم، وسيّرت حافلات البيارق بالآلاف سنويا، ورفدت الأقصى بمئات الآلاف من أهل الداخل، وبذلت الجهد والمال والوقت والخطط والبرامج من أجل الحفاظ على ثبات أهل القدس في بيوتهم التي يهددها النهب والإخلاء، وأحيت اقتصاد المدينة فحالت بذلك دون مخططات الاحتلال الساعية إلى إخلاء أسواق البلدة القديمة من تجارها ليسيطر عليها، وكشفت مخططات الاحتلال في استهداف أولى القبلتين من خلال المكشف عن الأنفاق تحت المسجد وتحت الأحياء المحيطة به سعيا إلى تحقيق وهم الهيكل الثالث المزعوم. ولقد نجحت الحركة في جعل أنظارُ أمة الإسلام كلِّها مصوّبةً نحو المسرى بفضل هذه الثُّلّةِ الصادقة، تلهجُ الألسُنُ باسمه، وتردد في كل الميادين ذلك الشعار الذي أصبح شعار أمة: “بالروح بالدم نفديك يا أقصى”…

لأجل هذا وغيره الكثير حُظرت الحركة الإسلامية، ولأجل ذلك فإن ما خسره مجتمعنا الذي لم يرتق إلى مستوى الحدث بفعالياته السياسية عام 2015، كثير ومؤلم. ولكن… هل هذه نهاية المطاف؟

لا… إطلاقا لا..

فنحن الآن على مشارفِ مرحلةٍ جديدة صنعتْها يد الله تعالى بما سبق به القدر…

مرحلةٍ يميز الله فيها الخبيثَ من الطيب لتبقى الصورةُ أشدَّ وضوحًا… وأكثرَ بهاءً..

ولترتفعَ الرايةُ من جديد، تتساقطُ حولها كل الخبائث وتهوي كل المخططات في وادٍ سحيق.. ولتمضيَ الرايةُ شامخة نحو مجد تليد…

وإنها ما بين طرفة عين وانتباهتها.. إنها ما بين عشية أو ضحاها… إنها ما بين بزوغِ فجرٍ وإشراقة شمسٍ لا تغيب.. ولن تغيب.. هي شمس الإسلام التي ستشرق على الدنيا تطهّرها من الظلم والاستبداد، وتنشر مع خيوط إشراقتها الدافئة العدل في كل مكان، وتعيد للإنسان إنسانيته وللبشرية حريّتها وتحقق لها انفكاكها من عبوديتها للنظام الدولي الذي يصب كل جهوده وإمكاناته خدمة للمشروع الصهيوني.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى