النفوذ للداخلية والجيش في الهامش.. الأجهزة الأمنية التونسية منذ عهد الحبيب بورقيبة حتى الثورة

في نهايات القرن التاسع عشر، وفي عام 1881، استطاعت فرنسا إلحاق تونس لمستعمراتها في شمال أفريقيا وانتزعتها من الدولة العثمانية، بشكل متأخر نسبيًّا وبعد 52 سنة من غزوها لجارتها الجزائر، بعد تمكنها من إرغام باي تونس على توقيع «اتفاقية باردو»، القاضية بوضع تونس تحت الحماية الفرنسية وتمكين فرنسا من السيطرة على بعض المناطق في تونس بحجة استرجاع النظام والاستقرار وحماية مصالح الباي ومصالح تونس في الخارج.
إلا أن اتفاقية أخرى وقِّعت بعد عامين في 1883 بمدينة مرسى، سمحت للفرنسيين رسميًّا بالتدخل في السياسات الداخلية في تونس، وتعيين حاكم فرنسي بصفة جنرال مقيم، هو المخول الوحيد بتمثيل هذه الدولة خارجيًّا بالإضافة إلى سلطته المطلقة في الداخل، مع وجود شكل من أشكال الحكم المحلي لباي تونس.
واستمر الاستعمار الفرنسي لتونس حتى عام 1956، وجلبت فرنسا حينها الكثير من المستوطنين الفرنسيين لتونس، كما كان الحال في غيرها من المستعمرات، مع الإبقاء على منح التونسيين نوعًا من الاستقلالية في الحكم، والبدء بعملية تحديث للبلاد وإنشاء للمؤسسات والقوانين، مع كون كل ذلك يصبُّ في مصلحة الهدف الفرنسي الحقيقي، وهو شرعنة وجود المستوطنين الفرنسيين في تونس، وحماية مصالحهم ضمن القوانين والمؤسسات المنبثقة عن الاستعمار، والمدارة – ولو شكليًّا- على يد تونسيين دربهم واختارهم الفرنسيُّون، ليتولوا زمام الأمور في مؤسسات الدولة لاحقًا عند خروج الاستعمار.
ثم انتهت الحقبة الاستعمارية في تونس بالتزامن مع انتهاء الحقبة الاستعمارية في العالم منتصف القرن العشرين، بسبب تضافر مجموعة من العوامل والظروف، المتمثلة بالمقاومة الشعبية التي كبدت الدول الاستعمارية خسائر كبيرة، وجعلت استمرار الاستعمار عبئًا عليها وعلى اقتصاداتها، وبسبب الظرف العالمي الجديد بمعارضة القوتين الأعظم في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، لاستمرار المستعمرات.
كيف شكل الحبيب بورقيبة الأجهزة العسكرية والأمنية بما يخدم نظامه؟
في نهايات عهد الاستعمار اندلع خلافٌ بين قيادات الحركة الوطنية في تونس، وتحديدًا بين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، فبينما وافق الأول وتياره على توقيع اتفاقيات الاستقلال الداخلي مع فرنسا، عارضها بن يوسف ووصفها بالاستقلال الناقص، داعيًا إلى استمرار الكفاح المسلح ضد المحتل الفرنسي حتى استقلال كامل دول المغرب العربي، بينما طالب بورقيبة المقاومين بالنزول من الجبال وتسليم أسلحتهم، تمهيدًا لنيل الاستقلال الذي تحقق في السنة التي تلتها.
وتطوَّر الخلاف حتى تقرر فصل بن يوسف في مؤتمر الحزب الحر الدستوري الجديد، الذي تسلم مقاليد الحكم في تونس، ورجحت كفة الحزب لصالح بورقيبة ففُصل بن يوسف وأنصاره من الحزب وحوكموا ولُوحقوا حتى اغتيال زعيمهم عام 1961 في ألمانيا، بعد فشل محاولات المصالحة بينه وبين بورقيبة، ومحاولة مجموعته ترتيب صفوفهم وزعزعة حكم بورقيبة في تونس.
شهدَ الحبيب بورقيبة فترة الانقلابات العسكرية ما بعد الاستعمار، وفترات عدم الاستقرار وتبدل الأنظمة الحاكمة في العالم العربي، وسعى جاهدًا لتوطيد حكمه في تونس تحسبًا لتكرار ما حصل في دول عربية أخرى معه، والتي حكم كثير منها أنظمة عسكرية بعد انقلابات عسكرية، مثل انقلابات كل من مصر وسوريا والعراق، ولمنع وقوعه في مصير مشابه، حافظَ بورقيبة على ضعف الجيش التونسي، الذي لم يشارك في أي حرب حقيقية حتى اليوم، واستدام بورقيبة صغر حجم الجيش وقلة تسليحه وتمويله، وعمل على ضمان ولائه الكامل للنظام، وطوَّر سياسة موازنة الجيش بقوات الحرس الوطني وهي قوات شبه عسكرية تقوم على حفظ الأمن في المناطق الريفية والساحلية، وظلَّ الجيش بدون شبكة تمويل مدنية من شركات تتبع للجيش وشبكات وعلاقات أعمال في القطاعات المختلفة، كما هو الحال في غيره من الجيوش في المنطقة، الجيش المصري مثالًا، مانعًا الجيش من الوصول لأي قوة تمكنه من القيام بانقلاب على حكمه.
الجيش: تاريخ من التهميش وسياسة الموازنة
لم يُشكِّل الاستعمار الفرنسي مؤسسة الجيش في تونس قبل خروجه منها، وهذا ما سهَّل مهمة بورقيبة، بخلاف مؤسسة الجيش المصري التي أثَّر في تكوينها الحديث الاستعمار الإنجليزي ومن قبله الفرنسي. ولم تكن حالة تونس مشابهةً لحالة الجزائر التي قامت فيها حركة مسلحة ومنظمة أدَّت دورًا مهمًّا في حركة الاستقلال، لتكتسب شرعية كبيرة نظرًا إلى دورها في طرد المُستعمر؛ ما سمح لها بحكم البلاد حتى اليوم، ولكن لم يلعب الجنود التونسيون إلا دورًا صغيرًا في حركة التحرر التونسية.
وفي هذا السياق، شكَّل بورقيبة الجيش التونسي بضمِّ 850 جنديًّا من قوات الباي التونسي الذي انتهى عهده، و1500 جندي كانوا يخدمون في الجيش الفرنسي، وجنَّد 3 آلاف جندي آخرين، محافظًا بذلك على صغر حجم الجيش وضعف قوته، ومصعبًا بالتالي على الجيش حيازة أي قوة سياسية داخلية، وباستثناء محاولة فاشلة واحدة للانقلاب على الحكم في تونس، بقيادة صالح بن يوسف، غريم بورقيبة، عام 1961، ظلَّ الجيش التونسي في ثكناته، وفضَّل بورقيبة المحافظة على أمن تونس الخارجي عن طريق التحالفات والدبلوماسية بدلًا من المخاطرة بتقوية الجيش، موجهًا 40-50% من ميزانية الحكومة للتعليم، تاركًا بذلك مصادر قليلة جدًّا لتمويل الجيش.
ولم تكن هذه الإجراءات كافية لبورقيبة لكبح تنامي قوة الجيش، فمعَ اتباعه لسياسة موازنة الجيش بالحرس الوطني، كان لزامًا عليه خفضُ إمكانية التعاون بين الحرس الوطني والجيش، ففصلَ الحرس عن الجيش، ونقلهم إلى وزارة الداخلية بدلًا من وزارة الدفاع، ومنعَ الجيش من التصويت والمشاركة السياسية، وعيَّن ضباط الجيش بعد تدقيق حثيث من قبل حزبه عن الضباط الأكثر ولاءً ممن أرسلوا للدراسة في فرنسا ليصبحوا قادة الجيش.
إلا أن فترة نهاية السبعينيات والثمانينيات غيرت المعادلة في تونس، مجبرة بورقيبة على تغيير سياسته تجاه الجيش، ففي عام 1978 نظَّم الاتحاد العام التونسي للشغل إضرابًا عامًّا في البلاد، رافقته مظاهرات نقابية ضخمة اضطرت النظام لإنزال الجيش والشرطة لمواجهة الإضرابات وقمعها، فقتلت ما لا يقل عن 200 من المحتجين، فيما بات يعرف باسم «الخميس الأسود» في تونس، والذي كان سابقةً في تاريخ تونس، إلا أنَّ النظام كان قادرًا في النهاية على احتواء الأزمة وسجن المسؤولين عن الإضراب، وتغيير قيادة الاتحاد العام للشغل.
وبعد عامين من الإضراب وفي عام 1980، اضطرَ الجيش التونسي للقيام بعملية عسكرية لدحر قوة عسكرية مكونة من 300 جندي مدعومين من ليبيا سيطروا على مدينة قفصة، البعيدة 400 كيلومتر جنوب شرق العاصمة تونس، والمحتوية على مناجم استخراج الفوسفات، وسبقها تخوفٌ تونسي من تدريب ليبيا لعدد من التونسيين في معسكرات ليبية بحجة تجهيزهم للتطوع للقتال في فلسطين، ليلحقها بعد سنوات قليلة انتفاضة خبز كبيرة استدعت إنزال الجيش لقمعها مرة أخرى عام 1984، وأقنعت تلك الأحداث النظام بتغيير سياسة إضعاف الجيش، بحسب تقرير معهد كارنيجي الصادر عام 2016 بعنوان «الثورة الهادئة: الجيش التونسي بعد بن علي».
فبحسب تقرير المعهد، تضاعفت ميزانية الجيش أربع مرات على إثر كل تلك الأزمات، وقفزت مستوردات السلاح، وخصوصًا من الولايات المتحدة الأمريكية، وارتفعت أسهم الجيش وضباطه داخل النظام، وكان الضابط زين العابدين بن علي أحد الذين انتفعوا من اعتماد النظام على الجيش وتقويته في تلك الفترة.
أسّس بن علي وكالة استخبارات الجيش في تونس عامَ 1964، بعد ثماني سنوات فقط من دخوله للجيش التونسي، ويُشار إلى زواجه من نعيمة محمد الكافي، بنت القائد الأعلى للجيش التونسي آنذاك، بوصفه المفتاح لصعوده السريع داخل الجيش. وبعد ذلك نُقل بن علي لوزارة الداخلية، ليرتقي في المراتب المدنية حتى أصبح وزيرًا للداخلية عام 1986، ورئيسًا للوزراء في العام التالي، ومع تعيين بن علي رئيسا للوزراء عيِّن صديقه حبيب العمار مسؤولًا عن الحرس الوطني، وبتحالف الاثنين استطاع بن علي عام 1987 حصار القصر الرئاسي وإعلان تنحية بورقيبة لعدم أهليته لمنصب رئيس الوزراء، واستلم بن علي الحكم بعد ذلك وظل فيه حتى خلعه بالثورة التونسية عام 2011.
بن علي في الحكم: مرحلة الصعود المطلق للأجهزة الأمنية
في بداية رئاسة بن علي، وهو ضابط جيش سابق، استمرَّ على الطريق ذاتها التي اعتمدها بورقيبة من تقوية الجيش ورفع رجاله، خصوصًا الذين دعموه في إنجاح الانقلاب، إلا أنه ولأسباب سلفه في الحكم نفسها، خَشي من تنامي قوة الجيش وطموح ضباطه بالانقلاب واستلام الحكم، ورافق ذلك حسد السياسيين المدنيين وقوات الشرطة للجيش، وتنامي قوة حزب النهضة الإسلامي مُعقدًا المشهد.
إلا أن ديكتاتور تونس قرَّر ضرب عصفورين بحجر واحد؛ إذ فُبرك انقلاب عسكري مزعوم عام 1991، ونسبت التهمة لضباط في الجيش اتُهموا بالتعاون مع حزب النهضة، واستغلَّ الحدث لتبرير تصفية الطرفين، فتم اعتقال بعض قيادات الجيش المتهمين مع قيادات في حزب النهضة، وسحبت القوة من أيدي جنرالات الجيش المعينين وزراءً، أو أُخرجوا من المشهد الداخلي بإحالتهم إلى التقاعد أو إرسالهم إلى الخارج سفراءً، وأُجبر الباقون على مغادرة تونس للمنفى، وبهذا الانقلاب المُفبرك نجحَ بن علي في منع أي احتمالية لقيام انقلاب مستقبليٍّ على يد الجيش، وعادَ من جديد لسياسة إضعافه وتهميشه لصالح الأجهزة الأمنية التي ضمن بن علي على مر سنوات حكمه بقاءها موالية له.
تضخَّم الجهاز الأمني في عهد بن علي بالتوازي مع إضعاف الجيش وتهميشه، ومع تضخُّم قوة الأجهزة الأمنية وضمان ولائها للنظام، حكمَ بن علي بقبضة حديدية وبنظام بوليسي، حتى أصبح التونسيون يخافون ذكر اسم بن علي. أما على المستوى الخارجي اتبع بن علي، كما سلفه بورقيبة، سياسةَ «صفر أعداء»، مع تنويع التحالفات في المنطقة وفي أوروبا، الشريك التجاري الأول لتونس، مستخدمة هذا التوجه سياسيةً مكملة لإضعاف الجيش وإخراجه من المشهد.
جهاز أمن ضخم وجيش مهمش.. هيكلية الجيش والشرطة في عهد بن علي
ليس من السهل معرفة القوة والعدد الحقيقي لأجهزة الأمن والجيش في البلدان المحكومة بأنظمة ديكتاتورية، كما كان الحال في تونس قبل الثورة، كما أن النظام التونسي اعتمد تضخيم القوة الحقيقية لأحهزة الأمن، ولا تتوفر بيانات رسمية من الحكومة عن عدد قواتها وكوادرها، إلا أن التقارير الإعلامية الرسمية قبل الثورة قدَّرت عددها بـ150-200 ألف، إلا أنَّ الثورة كشفت كذب تلك التقديرات التي كان يصدّقها العامة، فالتقارير التي ظهرت بعد الثورة، مثل تقرير لـ«معهد الولايات المتحدة للسلام»، تكشف عن أنَّ العدد الفعلي يقع بين بين 40-80 ألفًا، نصفهم يعملون بشكل جزئي أو مخبرون مدفوعو الأجر، بينما يقدر عدد جنود الجيش التونسي بـ40 ألف وخمسمائة جنديٍّ، ليكون بذلك أصغر جيش عربي.
الجيش التونسي
ويذكر موقع «جلوبال فاير بور – Global Fire Power»، المختص بتقييم الجيوش وقوتها العسكرية، أنّ الجيش التونسي يضمُّ 36 ألف جندي نظامي، و12 ألف جندي شبه نظامي، وينقسم الجيش لسلاح الجو، وقوات برية وبحرية. وعدد طائرات الجيش التونسي 156، 64% منها طائرات عمودية، 29 طائرة تدريب، و14 طائرة نقل، و12 طائرة حربية فقط.
أما القوات البرية فتضم 170 دبابة، وألفًا و200 عربة مصفحة، و239 قطعة مدفعية، بينما تملك القوات البحرية 55 قطعة بالمجمل، ويعد الجيش التونسي من الأقل تمويلًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ويتبعُ الجيش لوزارة الدفاع الوطني، ويتولى رئيس الجمهورية منصب القيادة العليا للقوات المسلحة التونسية بحسب الدستور التونسي لعام 2014، بالإضافة لكون «الفصل 77» من الدستور يُعطي للرئيس صلاحية تعيين القائد العام، وترؤسه مجلس الأمن القومي، المعني بمناقشة المسائل الأمنية في البلاد، ويحقُّ له إعلان الحرب وإبرام السلم بموافقة مجلس النواب، وإرسال القوات المسلحة للخارج بعد مشاورة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب وموافقتهما، بالإضافة لإعلان حالة التدابير الاستثنائية.
الأجهزة الأمنية
تُعرف الأجهزة الأمنية في تونس باسم «قوات الأمن الداخلي»، وتتبع لوزارة الداخلية ضمن الحكومة التونسية، وتنقسم إلى كلٍّ من: الأمن الوطني والشرطة الوطنية، والحرس الوطني الذي يقدر عددهم بـ12 ألف عنصر، والوحدة المختصة التابعة للحرس الوطني، الشرطة القضائية والأمن الرئاسي التونسي، ولا تنشر وزارة الداخلية أرقامًا تفصيلية أو إجمالية عن عدد عناصر هذه الأجهزة.
وبعكس دول أخرى مثل مصر، لم يكن هناك جهاز للأمن المعنيِّ بالشؤون السياسية في الداخل؛ إذ تولّى جهاز الشرطة كلا الوظيفتين العادية والسياسية معًا، ويعمل الجهاز في المناطق المدنية، وينشط جهاز الحرس الوطني في السواحل والمناطق الريفية، ويعمل جهاز الشرطة القضائية في التحقيقات الجنائية، ويتبعُ لوزارة الداخلية بصفه جزءًا من قوات الأمن الداخلي، إلا أنه يعمل ضمن السلطة القضائية، بينما يتولى الأمن الرئاسي مهمة حماية رئيس الجمهورية، أما عن أعداد كل فرع من هذه الأجهزة الأمنية وقوتها الحقيقية، فمن الصعب تقدير ذلك لطبيعة نظام بن علي، إلا أن الممكن قوله إن أجهزة الأمن حظيت بتمويل واهتمام وتسليح وتفضيل أكبر من نظام بن علي، على حساب الجيش.
ومع أن تونس لم تملك جهاز أمن معنيًّا بالشأن السياسي بهيكلية منفصلة وواضحة، فإنه وحسب تقرير لمركز أبحاث أمريكي، المجلس الأطلنطي، نُشر عام 2014 بعنوان «إصلاح قطاع الأمن المضطرب في تونس»، يمكن القول بوجود هذا الجهاز على شكل شبكة من العلاقات بين أفراد ومنظمات داخل الحكومة وخارجها، تعمل على جمع المعلومات عن أي شخص أو جهة من الممكن أن تهدد النظام، كما عمل الحزب الحاكم وكوادره على تخويف المعارضة السياسية ومراقبتها، وإيصال التقارير لوزارة الداخلية.
ويذكر التقرير نفسه للمجلس الأطلنطي أن بداخل جهاز الاستخبارات قسمين أساسيَّين: جهاز يجمع المعلومات بالشكل التقليدي، وجهاز يعمل على جمع المعلومات باستخدام التكنولوجيا، مثل مراقبة الإنترنت والهواتف المحمولة.
الثورة التونسية والأجهزة الأمنية
اندلعت الثورة في تونس بعد حرق محمد البوعزيزي نفسه في 17 ديسمبر (كانون الأول) عام 2010، محتجًا على قطع رزقه على يد مسؤولين حكوميين منعوه من البيع، لتشتعل من ناره الاحتجاجات في ولاية سيدي بوزيد التي كان يقطنها، وتواجهها قوات الأمن شانَّة حملة اعتقالات بين صفوف المحتجين، فتوسعت الاحتجاجات وعمَّت ولايات أخرى في تونس، وفرض حظر التجول ونشر الجيش في العاصمة.
إلا أن الجيش وقوات الأمن اتخذت موقفين مختلفين من احتجاجات الشعب التونسي، فبينما عمدت قوات الأمن إلى قمع الاحتجاجات ومواجهتها بالرصاص الحي قاتلة ما حصيلته 129 قتيلًا، وموقعةً 634 مصابًا خلال الأسابيع الأربعة الأولى للثورة، فإن الجيش رفضَ إطلاق النار على المحتجين.
وبعدما غادر بن علي البلاد وأعلن شغور منصب رئيس الجمهورية، استمرَّت قوات الأمن بأعمال عنفٍ وحرق في تونس، حتى وصل الأمر لوقوع اشتباكات بين الجيش ووحدات من قوات الأمن الداخلي، أهمها الأمن الرئاسي حول قصر الرئاسة في آخر أيام الثورة، لتظهر الاشتباكات الخلاف الكبير بين قوات الجيش والأمن الداخلي، وتمسك الأجهزة الأمنية بالنظام وبقائه، ومحاولته ترهيب الشعب التونسي.
ولم تكن هذه السابقة الأولى للأجهزة الأمنية في قتل التونسيين، فحتى بعد سنوات الثورة، ارتكبت الأجهزة الأمنية انتهاكات فادحة ذكَّرت التونسيين بعهد دولة بن علي البوليسية، مثل الاعتقالات التعسفية ومنع السفر والتعذيب، بحسب «منظمة العفو الدولية»، أثناء معالجة الأجهزة الأمنية لملفات حساسة، مثل الجماعات الإرهابية المسلحة مثل «تنظيم الدولة الإسلامية»، أو في أحداث أقل خطورة، مثل محاولة احتواء تظاهرات حصلت قبل شهرين، وسُحل فيها شابٌ تونسي وجرِّد من ملابسه على يد أجهزة الأمن.
وفي الأسابيع اللاحقة للثورة، قتلت أجهزة الأمن خمسة أضعاف عدد شهداء الثورة، ومع تزايد المخاطر الأمنية في البلاد اضطرت الحكومة لتجنيد 10 آلاف عنصرٍ جديد من قوات الأمن، مع تخفيض مدد تدريبهم لمواجهة المخاطر الأمنية، وشهدت تونس «هجمات إرهابية» أودت بحياة 300 عنصر من الجيش والأجهزة الأمنية، على يد «مجموعات إرهابية» مسلحة، مثل هجوم متحف باردو الذي خلَّف 20 قتيلًا عام 2015، والذي تبنى «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» المسؤولية عنه، وتبنى التنظيم أيضًا هجوم سوسة في العام نفسه، مُخلفًا 38 قتيلًا.
ومع التغير السياسي في البلاد بدأت دفة التمويل والاهتمام السياسي بالتحرك في اتجاه جديد، فالجيش المهمش في الفترات السابقة بدأ يحظى بدعم وتمويل كبيرين لمواجهة المخاطر الداخلية، على اعتبار الجيش أحد مؤسسات الدولة التي لم تنحز للنظام ولم تسع لمكاسب سياسية، عدا عن رفضها لقتل المتظاهرين ومواجهة الثورة في البلاد، فارتفع الإنفاق العسكري من 571 مليون دولار عام 2010 إلى مليار دولار عام 2019، بزيادةٍ بنسبة 175% في أقل من 10 سنوات.
وفي خلال الأعوام الأولى للثورة وحتى الآن، تتحدَّث جهات عدة داخل تونس وخارجها عن أهمية إصلاح الأجهزة الأمنية وإعادة هيكلتها بما يتناسب مع التغيير السياسي الذي حققته الثورة، ولاستكمال مهماتها عمليًّا وتثبيت نتائج الثورة ووأد احتمالات الثورة المضادة، مع أهمية تشكيل جهاز أمن محترف بأهداف واضحة تخدم الشعب التونسي ومصالح دولته.
ما قامت به الأنظمة الديكتاتورية قبل الثورة هو، بشكل أساسي، عدمُ إطلاع الشعب على عمل وزارة الداخلية وأجهزتها المختلفة، وبالضرورة عدم إشراك الشعب بأي آلية ديمقراطية في تشكيل مؤسسات الأمن وتطويرها وتحديد أهدافها، مع غياب كامل لمحاسبة قادة الأجهزة والمسؤولين فيها عند الضرورة.
ومع ضرورة قيام المختصين من هذه الأجهزة الأمنية بإدارتها لخبرتهم ومعرفتهم في ذلك، فإنه من الضروري لإنجاح واستكمال أهداف الثورة إرساء قواعد ديمقراطية في رقابة الجهات المدنية المنتخبة على هذه الأجهزة؛ لضمان تحقيقها لمصالح الدولة ضمن الأطر الديمقراطية، وبطبيعة الحال لن تكون تلك المهمة سهلةً على الإطلاق؛ إذ وصف ناشطو حقوق الإنسان في تونس العلاقة بين وزير الداخلية بعد عام من الثورة، وبين أجهزة الأمن، بأنها «حالة حرب فعلية» بين الطرفين، فعندما حاول وزير الداخلية التونسي، علي العريض، إقالةَ منصف العجيمي، أحد قادة أجهزة الأمن، واعتقاله بتهمة إطلاق النار على محتجين خلال الثورة، اجتمع موالوه من الشرطة وعددهم 12 ألف عنصر، ومنعوا محاولات الوصول إلى مقر قائدهم، وأضربوا عن العمل احتجاجًا على إقالته؛ ما أجبر الحكومة المدنية على نقله إلى موقع استشاري في الوزارة، في علامة واضحة على محدودية سلطة المدنيين على الأجهزة الأمنية.
مصالح أجهزة الأمن العميقة التي رسختها الأنظمة السابقة، والتي لم تكن الأجهزة مستعدة للتخلي عنها، كانت سببًا في استشراس الأجهزة الأمنية في الدفاع عن مصالحها، فقامت اتحادات ونقابات الشرطة بمعارضة الإصلاح الذي طالبت به السلطات المدنية في البلاد، ومع الوضع الأمني الهش في تونس وفي جوارها، وخصوصًا ليبيا، التي ظلَّت في حالة اقتتال حتى وقت قريب، كلُّ هذا عزَّز الظروف المانعة لقيام حملات كبيرة لإصلاح أجهزة الأمن التونسية.
هل يعيد قيس سعيد والظرف الإقليمي تونس إلى ما قبل الربيع؟
مع اعتبار تونس البلد العربي الوحيد الذي نجحَ في الوصول إلى انتخابات ديمقراطية، وتداول سلمي للسلطة على مدى عقد كامل من الربيع العربي، فإن موجة الثورة المضادة وصلت أخيرًا.
فبعد 10 سنوات من الثورة والحكم المدني في تونس، تمكَّن رئيس الجمهورية المنتخب، قيس سعيد، من إقالة رئيس الوزراء، وتعطيل البرلمان، ومحاصرته بقوى الجيش التي تدخلت في سابقة تاريخية في السياسة التونسية، وتلا هذا الانقلاب الدستوري حملة إقالات لمسؤولين في الدولة، وبدأ كل ذلك بتاريخ 26 يوليو (تموز) 2021، بعد اجتماع رئيس الجمهورية مع قادة الجيش والأجهزة الأمنية، وعلى إثر احتجاجات وتوترات سياسية في تونس، وبرَّر رئيس الجمهورية قراراته بأنها إنقاذ للدولة لا انقلاب عليها، وأن كل تلك القرارات كانت بالاستناد إلى الفصل 80 من الدستور الذي ينصُّ على أنَّ «لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب».
إلا أن طبيعة المرحلة الانتقالية للديمقراطية تعني بالضرورة هشاشتها الكبيرة وقابلية الطرف صاحب القوة الأكبر والظرف المناسب لقلب الطاولة على الأطراف الأخرى في الدولة، ومع كون قيس سعيد من خارج المؤسسات التقليدية في الدولة، ولعدم ارتباطه بالنظام السابق، فإن مثل هذا الانقلاب ليُكتب له النجاح محكومٌ بأن يتحالف مع مؤسسات أخرى لديها القدرة على إنجاح الانقلاب وتثبيته، والظاهر حتى الآن اصطفاف الجيش والمؤسسة الأمنية مع قرارات رئيس الجمهورية الموصوفة بالانقلاب من قبل معارضيه.
ونظرًا لكون رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة، فإن هذا يعطي رئيس الجمهورية الصلاحية فقط لضبط السياسة العامة في مجال الدفاع بحسب الدستور التونسي في «الفصل 77»، ولا يسمح الدستور باتخاذ الرئيس لأي تدابير استثنائية إلا بما ينص عليه «الفصل 80» من الدستور، والذي يضمن مشاركة جميع مفاصل السلطة باتخاذ مثل هذه القرارات لمنع استفراد طرف واحد من السلطة بها.
ومع كون الأجهزة الأمنية تتبع فعليًّا للحكومة ووزارة داخليتها تحديدا، فإن فراغ موقع الحكومة حاليًا، وتنصيب رئيس الجمهورية نفسه رأسًا للسلطة التنفيذية في تونس، يعني – حال شرعيته- أنه هو المُقرر النهائي لعمل هذه الأجهزة التي حاولت تنفيذ اعتقالات بحق برلمانيين وناشطين، وحاولت منع مسؤولين من السفر إلى خارج تونس.
وما زالت الأحداث في تونس تتوالى، ومع الفراغ الدستوري لمنصب الحكومة، وإمكانية تمديد الرئيس لقراراته لمدة أطول، يظلُّ موقف مراكز القوى داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية مهمًّا وفاصلًا في تحديد مستقبل الانقلاب.