أخبار رئيسيةأخبار عاجلةعرب ودوليومضات

«فورين بوليسي»: 3 عوامل تنبئ بالحرب الأهلية.. أمريكا تعاني منها جميعًا

نشرت مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية مقالًا مفصلًا للكاتبة مونيكا دافي توفت، أستاذة السياسة الدولية ومديرة مركز الدراسات الإستراتيجية في مدرسة فليتشر لبرامج الدراسات العليا في العلاقات الدولية بجامعة تافتس الأمريكية والزميلة غير المقيمة في معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول ومعهد أبحاث السلام في أوسلو، تناولت فيه كيف تبدأ الحروب الأهلية في العالم، واحتمالات أن تنزلق الولايات المتحدة الأمريكية إلى حرب أهلية مجددًا في ضوء حالة الانقسام التي أصابت المجتمع الأمريكي نتيجةً لسياسات الحزب الجمهوري ورئيسه دونالد ترامب الذي أخفق في الانتخابات الرئاسية الأخيرة أمام منافسه الديمقراطي جون بايدن.

أجراس إنذار تدقُّ بشدة
تستهل الكاتبة تقريرها قائلة إنه حتى وقت قريب، بدَت الحرب الأهلية شبه مستحيلة في الولايات المتحدة – وبعبارة أخرى، بدَت وكأنها شيء من الماضي بالنسبة لمعظم المواطنين، وأمرًا غير وارد الحدوث في المستقبل. لكن التمرد الذي تعرَّض له مبنى الكونجرس الأمريكي (الكابيتول) في السادس من شهر يناير (كانون الثاني) الماضي وتصاعد التطرف الداخلي العنيف أطلقا أجراس الإنذار بشأن احتمال حدوث انزلاق آخر إلى حرب داخلية.
وقد يبدو هذا مستبعدًا للغاية، لكن حرفيًّا كانت هناك مئات من النزاعات الداخلية المشابهة حول العالم – في بلدان مختلفة بدءًا من أفغانستان وانتهاءً بزيمبابوي. والأكثر إحباطًا، من نواحٍ عديدة، في هذا المشهد أن الحرب الأهلية الأمريكية لم تنتهِ فعليًّا، وربما تزداد فرصة عودتها بالفعل. وترى الكاتبة أنه حتى مع سيطرة الرئيس الأمريكي جو بايدن الصارمة على مقاليد الأمور، فإن الأحداث الأخيرة تجعل خطر اندلاع أعمال عنف سياسي على نطاق أوسع واضحة على نحو مؤلم.

السمات المشتركة للحروب الأهلية
تشير الكاتبة إلى أن الحروب الأهلية فريدة من نوعها في أسبابها، وفي الطرق التي تتصاعد بها من تضارب المصالح إلى العنف، وفي الطرق التي تخفف من حدَّة تصاعدها، لكن جميع الحروب الأهلية تشترك في ثلاث سِمَات مشتركة على الأقل. أول هذه السمات أن معظم الحروب الأهلية تأتي في أعقاب صراع سابق (غالبًا حرب أهلية سابقة أو، على نحو أكثر دقة، ذكرى مشوهة ومُسيَّسة للغاية لحرب أهلية سابقة). ولا يلزم أن يكون المتحاربون الجدد ولا القضايا هي نفسها تمامًا كالتي جرت في الماضي. وفي أغلب الأحيان، ينشر زعيم ذو شخصية كاريزمية آسرة روايةً عن مجد أو إذلال جرى في الماضي على نحو يناسب أيديولوجية مؤيديه أو طموحاتهم السياسية، أو ينبع حتى من جهل بسيط بالتاريخ.
وثاني السمات المشتركة للحروب الأهلية يتمثل في انقسام الهوية الوطنية على أساس بعض المحاور الحساسة، مثل العِرق، أو الدين، أو الطبقة. وفي هذا الشأن، نذكر أن جميع البلدان يوجد فيها ما يثير الانقسامات والشقاقات، لكن بعض الانقسامات تكون أعمق من غيرها. حتى الانقسامات أو الشقاقات البسيطة في البداية ربما تُستَغل من جانب جهات فاعلة محلية أو أجنبية تستهدف إعادة توزيع الثروة أو السلطة. على سبيل المثال، كرَّس الاتحاد السوفيتي (وروسيا الآن) بنجاح موارد خطيرة لزعزعة استقرار الولايات المتحدة والديمقراطيات المتحالفة معها من خلال تعميق الانقسامات القائمة.
وتلفت الكاتبة إلى أنه على الرغم من ضرورة هاتين السِّمتين الأوليين وأهميتهما – حرب سابقة وانقسامات عميقة – إلا أنهما غير كافيتين لإشعال فتيل حرب أهلية. لذلك هناك حاجة إلى عنصر ثالث: وهو التحول من القبَليَّة إلى الطائفيَّة. ففي ظل القبَليَّة، يبدأ الناس في الشك بجدية فيما إذا كانت الجماعات الأخرى في بلدهم تضع مصالح المجتمع الأكبر في صميم اهتماماتهم. لكن في البيئات الطائفيَّة، تعتقد النخب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ومَنْ يمثلونها أن أي شخص يختلف معهم هو شرير ويعمل بمنتهى الجدية على تدمير المجتمع.
ويأتي أعداء الدولة لإزاحة المعارضة الوطنية الموالية للدولة من المشهد وأخْذ مكانها، وهنا يُنظر إلى أولئك الذين كانوا داخل قبيلة أخرى داخل الدولة على أنهم الأكثر خيانة للوطن ويُنظر إلى الأعداء على أنهم أصدقاء أو ما شابه. إن هذا السلوك يشبه الطريقة التي تتعامل بها بعض الأديان مع المرتدين والكفار؛ ففي كثير من الأحيان، يكون المرتدون، أو الأتباع السابقون لعقيدة ما، عرضة للاستهداف على نحو أكثر من الكافرين بتلك العقيدة، وهم الذين لم يعتنِقوا تلك العقيدة يومًا ما. ولذلك، من الصعب تجاهل أصداء هذه الآلية والدور الذي تلعبه إلى حد أن النواب الجمهوريين أصبحوا يُدينون جمهوريين آخرين مثلهم بسبب ولائهم (أو عدم ولائهم) للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

تقول الكاتبة: في الواقع، تتَّسِم الولايات المتحدة الآن بهذه العناصر الأساسية الثلاثة التي يمكن أن تؤدي إلى الانهيار المدني. وإذا وصف أحدهم هذه العناصر الثلاثة – النخب الممزقة ذات الروايات المتنافسة، وانقسامات الهوية العميقة الجذور، وأولئك المواطنين المستقطبين سياسيًّا – دون تحديد الولايات المتحدة بالاسم، فسيقول معظم علماء الحرب الأهلية: «مهلًا هذا البلد أصبح على شفا حرب أهلية». فكيف وصلنا إلى هذا الوضع؟

إستراتيجية الحزب الجمهوري بعد انتهاء الحرب الباردة
تشير الكاتبة إلى أن القصة الكاملة لانزلاق الولايات المتحدة الطويل في حرب أهلية طويلة جدًّا بحيث لا يمكن سردها هنا، ولكن تبْرُز عدة أسباب رئيسة لاندلعها. وللبدء في الحديث عنها نقول: بعد فشل سياسة الاقتصاد المتدرج التي انتهجها الرئيس السابق رونالد ريجان وانتهاء الحرب الباردة (التي أبطلت سِحْر جبهة الدفاع الوطني التي تبنَّاها الحزب الجمهوري)، أصبح على الجمهوريين الاختيار. وكان أمامهم إما التنافس من خلال أفكار جيدة أو اللجوء إلى التأكيد على احترام السلطة على حساب التفكير النقدي، وتقييد حق التصويت، وتعبيد الطريق أمام تحويل الثروات إلى أصوات.
واختار الحزب الجمهوري الطريق الأسهل. وظل الحزب الجمهوري حزب أقلية على المستوى الوطني وعلى مستوى عديد من الولايات المُسمَّاة بالولايات الحمراء (التي تصوِّت للحزب الجمهوري) لأكثر من عقدين من الزمن، لكن تمثيله في الكونجرس والبيت الأبيض ظل ثابتًا عند حوالي 50 بالمئة أو يزيد. وبمجرد أن تبدأ في اتِّخاذ طرق مختصرة للفوز، لا يمكنك التوقف حقًا عن هذا النهج. ويدرك الحزب الجمهوري أنه يمكن أن يخسر كل شيء إذا ما خاض معركة عادلة (تقوم على أساس أن كل شخص يتمتع بصوت واحد وليس على أساس تصويت المجمع الانتخابي)، لذلك وضع الحزب الأساس لبنية تحتية قوية لاستمالة مراكز التأثير على المستوى المحلي وعلى مستوى الولاية وعلى مستوى المجمع الانتخابي.
ولجعل الأمور أسوأ، وبصفته رئيس مجلس النواب في المدة من 1995 حتى 1999، ابتكر النائب الجمهوري نيوت جينجريتش إستراتيجية رائعة ومدمرة في الوقت نفسه للديمقراطية لتمكين حزبه من الاستمرار في الفوز بأكثر من ثِقَله الشعبي الحقيقي بين جمهور الناخبين: وكان الشعار قل لا فحسب. وفي حين رأى ريجان أن أي شخص يتفق معه بنسبة 80 في المائة طوال الوقت يُعد صديقًا وحليفًا (وليس خائنًا)، حظرت إستراتيجية جينجريتش ما يُعرف بالتسوية أو الحل الوسط، وهو أمر ضروري لأي ديمقراطية ناجزة. وكان مبدأ جينجريتش إما أن يحصل على كل ما يريد أو يرفض التعاون. وبصفته زعيم الأغلبية السابق في مجلس الشيوخ، أتقن السيناتور الجمهوري، عن ولاية كنتاكي، ميتش ماكونيل كتاب قواعد اللعبة الذي سطَّره جينجريتش.
وبمرور الوقت، بدأت القبَليَّة التي قسَّمت الحزبين على نحو طبيعي في التصاعد حتى وصلت إلى الطائفيَّة. وأصبح الجمود في جميع أرجاء الحكومة الفيدرالية حجة أخرى لتحويل السلطة إلى ولايات أكثر تحفظًا. كما أقنعت هذه الحجة عديدًا من المواطنين الأمريكيين بأن حل الجمود يتمثل في زعيم استبدادي قوي. ووقع الديمقراطيون أيضًا في فخ هذه العملية الشريرة، وأصبحوا غير قادرين على المناورة والتوصُّل إلى حلول وسط للمضي قدمًا.
ومع تفريغ السلطة التشريعية من مضمونها (تتكون السلطة التشريعية من مجلس النواب ومجلس الشيوخ، ويشكلان معًا كونجرس الولايات المتحدة)، أصبحت الأوامر التنفيذية التي يصدرها الرئيس الدعامة الأساسية لصنع السياسات. وطوال مدة وجوده في منصبه، أصدر الرئيس ترامب 220 أمرًا في غضون أربع سنوات فقط؛ في الوقت الذي أصدر الرؤساء السابقون باراك أوباما، وجورج دبليو بوش، وبيل كلينتون 276، و291، و254 أمرًا على الترتيب خلال تولي كل واحد منهم لمنصبه طوال ثماني سنوات.

هل الولايات المتحدة على شفا حرب أهلية؟
في هذا الإطار نبهت الكاتبة إلى أنه لم يكن ممكنًا التصعيد وصولًا إلى الطائفية أو ظهور المزيد من المسؤولين التنفيذيين القوميين الاستبداديين من دون أن تتضرر مساحة المعلومات بشدة. وشهدت تسعينيات القرن العشرين أيضًا ظهور الأخبار على شاشات قنوات الكابل والتحول المستمر من البث العام إلى البث المحدود. ونذكر هنا أنه في العالم القديم، دعمت الصحافة المهنية المفهوم المشترك في عرض الواقع.
أما في العالم الجديد المفكك، هناك عديد من النسخ المتنافسة التي تعرض الواقع في صورة «حقائق بديلة»، وأصبح الصحافيون والصحافة – وهم الركائز الأساسية لأية عملية ديمقراطية فعالة – يُنظر إليهم ظلمًا على أنهم منحازون إلى جانب أو آخر. وكانت قناة «فوكس نيوز» التي يمتلكها رجل الأعمال وملياردير الإعلام الأسترالي الأمريكي روبرت مردوخ رائدة في اختيار واجهة صحافية لدعم أجندة سياسية محددة، مما يساعد في توسيع سلطة الأقليات المحافظة.
ومع ذلك، فإن البث المحدود وقناة فوكس نيوز ليسا نهاية الأمر. إنها البداية فقط. إذ اخْتُرِقت مساحة المعلومات على نحو أكبر من جانب الخصوم الأجانب الأقوياء وشركات التكنولوجيا المنتشرة في كل مكان. ولنضع في الاعتبار أنه خلال الحرب الباردة، كان أكبر نجاح حققته حملة التضليل التي أطلقها جهاز المخابرات الروسية المعروف باسم «كيه جي بي» هو إقناع حلفاء الولايات المتحدة وخصومها على حد سواء بأن فيروس نقص المناعة المكتسبة، الإيدز، صُنِع في الولايات المتحدة لقتل أفراد من السود والمثليين وثنائيي الجنس والمتحولين جنسيًّا. (اعترف الزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف بذلك واعتذر عنه لاحقًا).
واستغرقت هذه الكذبة، وتأثيرها المدمر، ست سنوات لتؤتي ثمارها. ولكن منذ نهاية الحرب الباردة، ساعدت الإجراءات الفعالة التي اتَّخَذتها روسيا في تمكين وصول رئيس أمريكي مناهض لـ«حلف شمال الأطلسي (الناتو)» إلى السلطة، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتشار فضيحة «بيتزاجيت» (نظرية مؤامرة كُشف زيفها، انتشرت خلال دورة الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، وأكدت كثير من الهيئات عدم مصداقيتها وتأسست على اختراق البريد الإلكتروني للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون)، وانتشار نظرية «كيو أنون» (نظرية مؤامرة من ابتداع اليمين الأمريكي المتطرف تتناول بالتفصيل خطة سرية مزعومة لما يُسمَّى بإجراءات الدولة العميقة في الولايات المتحدة ضد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأنصاره). لكن سرعة حملات التضليل الروسية ونجاحها لم تكن لتتحقق من دون شبكة الإنترنت، وعلى وجه التحديد من خلال محرك البحث جوجل ومنصة التواصل الاجتماعي فيسبوك.
وتتسائل الكاتبة قائلةً: هل الولايات المتحدة على شفا حرب أهلية؟ وتجيب قائلة إن مساحة المعلومات المتضررة وغير الديمقراطية تُحدِث الفارق الحقيقي لأن النخب تتسابق على البث وامتلاك الفضاء الإعلامي لزيادة الانقسام بين الناخبين على أمل ضمان تأمين قوة انتخابية ضد المنافسين. وفي كل مجال، أصبحت المعرفة غير مرتبطة على نحو متزايد بالواقع أو التاريخ.
وتخلُص الكاتبة في ختام مقالها إلى أنه في صراع مثل هذا، لا يربح أحد. وعلينا أخذ العبرة من الحالة المأساوية لدولة يوغوسلافيا سابقًا، والتي بدأت في الانحدار في أواخر ثمانينات القرن العشرين، واستسلمت للعنف السياسي على نطاق واسع في التسعينات من القرن نفسه. أما الطريقة الحقيقية لـ«جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، فتتمثل في تطهير مساحة المعلومات وجعلها مشتركة (ما يعني العودة إلى البث العام وتفضيله على البث المحدود). وبمجرد أن يتفق الجميع مرة أخرى على الحقائق، سندرك أن الخلافات السياسية لن تدمر الولايات المتحدة، لكنها ستجعل ديمقراطيتها أقوى. لكن إذا استمرت الطائفية، فلا مفر من وقوع مزيد من العنف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى