أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

إنها أزمة فرنسا

توفيق محمد
لم تتخل فرنسا الاستعمارية، ولا فرنسا اللائكية (العَلمانية الفرنسية) عن صليبيتها في يوم من الأيام، فهي كانت شريكة ومبادرة في الحملات الصليبية، وعندما أصبحت جمهورية لم تتوقف حروبها المغلفة بالكذب والتدليس عن مهاجمة الإسلام والمسلمين، ولذلك فإن الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت عندما احتل مصر، قال للمصريين بأنه جاء لتحريرهم من تخلف وهيمنة المماليك الذين خانوا الإسلام الصحيح، واليوم ها هو الرئيس الفرنسي ماكرون يقول إن الإسلام بحاجة الى إعادة هيكلة وإنه يعيش أزمة، ويبدو أن الفرنسيين بقدر ما أنهم عنجهيين ومتعالين يسوقون أنفسهم بأنهم أخبر منّا بالإسلام لتبرير احتلالهم وعدوانهم وعنجهبتهم، ويستغلون فترات الضعف والانضباع لدى قطاعات واسعة من المسلمين للهجوم علينا من خلال الإيهام باهتمامهم بمصالحنا مرة، والهجوم على أعز ما نملك أخرى، فهذا نابليون يبرر احتلاله لمصر بأنه يسعى ليعلّم المصريين الإسلام الصحيح، وهذا ماكرون يستغل حالة وهن المسلمين ليهاجم الإسلام.
في الواقع فإن الإسلام لا يعيش ولم يعش أزمة بتاتا، وهو ليس بحاجة لإعادة هيكلة بقدر ما أن العقلية الفرنسية بحاجة لإعادة هيكلة، لأنها مأزومة ومهزومة، فالإسلام هو هو منذ بعث الله الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى أن تقوم الساعة، ولكن الذين يعيشون أزمة هم المسلمون، وليس لأنهم مسلمون بل لأنهم ليس لهم من إسلامهم سوى الاسم، وهو ما جعلَ ماكرون يتجرأ أن يقول ما قال.
صحيح أن فرنسا تعيش أزمات عدة، وتبحث لها عن مكان تحت الشمس في “كابينة” القيادة سواء الإقليمية الأوروبية التي خسرتها لصالح ألمانيا، أو على المستوى الدولي، وهي تبدو في ظل الهيمنة الأمريكية طفلا يتلمس طريقه في الظل، وصحيح أن لماكرون حساباته الانتخابية الداخلية حيث يريد أن ينافس اليمين الفرنسي بقيادة ماري لوبان، وأقصر الطرق لذلك هي مهاجمة الإسلام، لكن رغم ذلك كله فإن الكلام الذي صدر عن ماكرون والذي وصفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (وهو الرئيس المسلم الوحيد الذي رد بالعملة ذاتها لماكرون) بأنه وقاحة وقلة أدب لا يمثل ماكرون نفسه، فحسب، إنما يمثل اللائكية الفرنسية الإستعلائية التي رغم تغنيها بالتعددية والديموقراطية، لكنها في الواقع لا تحتمل التعددية ولا تحتمل الآخر، وهي مسكونة بالأنا الإستعلائية، وبالموروث الصليبي، والحاضر العَلماني المعادي للدين عموما، وللإسلام خصوصا، فالإسلام لا يشكل تهديدا للمجتمع الفرنسي أو لأي من المجتمعات البشرية بقدر ما أنه يشكل تهديدا لقيم الانحلال والعلمانية التي تقدسها اللائكية الفرنسية، ويلاحظ المتابع للجالية الفرنسية إقدام أعداد كبيرة من الفرنسيين على اعتناق الإسلام، وإن كانوا نسبيا لعدد السكان قلة، لكنهم في المجموع العددي يشكّلون حتى مائتي ألف فرنسي من أصل 5-6 ملايين مسلم يعيشون في فرنسا يضاف إليهم 4000 معتنق جديد للإسلام سنويا من أصول فرنسية طاهرة حسب دراسة للمعهد الوطني للدراسات الديموغرافية INED، وهذا هو في الواقع الذي يقلق ماكرون، ويقلق اللائكية الفرنسية المنسحبة والمهزومة أمام نور الإسلام، إذ الإسلام رغم حملات التشويه والشيطنة الغربية الأوروبية منها، والأمريكية والعالمية ورغم “شارلي ايبدو” وزميلاتها يبقى يحمل في داخله بذور القابلية والجاذبية لكل باحث عن الحقيقة، وهو اذا ما أتيح له المجال بشفافية مطلقة ودون الحرب المُعلنة عليه يبقى عنصر الجذب الأول للناس، ومن هنا يعتبر ماكرون ولائكيته الفرنسية الإسلام تهديدا مباشرة لقيم الإنحلال والعَلمانية الفرنسية.
أشبعنا الغرب ومبهوروه من العربان مدّعو الثقافة والتنور حديثا عن قيم التعددية والديموقراطية والعيش المشترك وقبول الآخر وتقارب الشعوب والمجتمعات إلى حد التخمة، لكن يبدو أن هذه التعددية يجب أن تكون تعددية اللون الواحد، ذات نفس المنطلقات والمبادئ والقيم، فإذا امتازت هذه التعددية بغير ما هي عليه قيم العَلمانية فإنها تصبح تعددية رجعية ومرفوضة، وليس لها مكان في جمهورية العَلمنة، وليس هناك فرق في ذلك بين لائكية (علمانية) فرنسا ولا عَلمانية بريطانيا، وعموم أوروبا وأمريكا، ولا عَلمانية العربان سواء تلك المبدئية التي تعرف أصول معاداتها للدين أصلا، أو تلك الساذجة المضبوعة التي تَعَلْمَنَت تقليدا للغرب، تعتقد أن هذا هو باب التنور والتطور والتقدم، فغُرِّرَ بها وأضاعت الطريق، فلا هي كسبت دينا يحمل كل بذور ما أرادت من تنور وتطور وتقدم، ولا هي قُبلت في المجتمعات الاوروبية “المتنورة” وأكبر دليل على ذلك هو تصريح ماكرون الموجه للإسلام عموما ولمسلمي فرنسا خصوصا الذين يشكلون كما قلنا 5-6 ملايين يعتبر 33% فقط منهم ممن يؤدون الشعائر الدينية من صلاة وصيام وزكاة، إضافة إلى أن التصريح كان في مدينة ذات غالبية مسلمة، وهو ما يؤكد الرفض الفرنسي لهم حتى وإن كانوا لا يؤدون الشعائر الإسلامية التعبدية، وبمعنى آخر حتى لو كان هذا المسلم (والمسلمون في العقلية الفرنسية يعرفون كجالية واحدة) يتبنى العلمانية فإنه غير مرغوب به فرنسيا، فما بال علمانيو العرب المتنورين يتساقطون حول تصريح ماكرون كما يتساقط الذباب حول المصباح يظنون أنهم وجدوا ضالة ضاعت منهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى