أخبار رئيسيةعرب ودوليمقالات

الشيخ رائد صلاح: ثوابتنا ومخطط تفكيك الجغرافيا

معركة الثوابت (17)
ثوابتنا ومخطط تفكيك الجغرافيا
إنتصارا لثوابتنا الإسلامية العروبية الفلسطينية، ومتابعة لما كتبته في الحلقات السابقة أواصل وأقول: إن من أخطر الأسلحة التي كانت ولا تزال تحارب بها ثوابتنا هي “تفكيك الجغرافيا” التي كانت ولا تزال تجسد الإطار الحافظ لهذه الثوابت ، وكان ولا يزال واضحا ان الذي تبنى مخطط “تفكيك الجغرافيا” كان ولا يزال يهدف الى فرض واقع جغرافي مفكك يؤدي تلقائيا وفق حساباته الى تفكيك كيان هذه الثوابت والى شطبها تدريجيا أو على الأقل الى تعطيل مفعولها وفرض بديل عنها، وكأنها لم تكن في يوم من الأيام ، وقد شهدت حركة تاريخ هذه الثوابت الإسلامية العروبية الفلسطينية محاولات محمومة من قبل أعدائها لتفكيك الجغرافيا التي قامت عليها بهدف تفكيكها وإجهاض وجودها وإلغاء سيادتها ودفعها للتراجع الى الوراء دون ان تجد فرصة لالتقاط أنفاسها ، وإن من النماذج الصارخة التي وقعت على هذه الثوابت حيث تم تفكيك الجغرافيا التي كانت تجسد الإطار الحافظ لهذه الثوابت ، والذي أدى الى إجهاض كيان هذه الثوابت وإلغاء سيادتها ودفعها للتراجع الى الوراء هو ما وقع على الحضارة الزاهرة التي بلورتها هذه الثوابت في الأندلس ، فبعد أن أسست هذه الثوابت حضارة شامخة استمرت على مدار تسع مائة عام تقريبا ، وبعد أن كانت تلك الحضارة في الأندلس منارة علم ورقي اقتصادي وتقدم في الخدمات الطبية، وبعد أن أقامت المستشفيات والجامعات ومكتبات المعرفة العامة، وبعد أن أنجبت عشرات آلاف العلماء والباحثين والمخترعين في كافة الإختصاصات، وبعد أن تألق فيها من تألق من أدباء وشعراء وفلاسفة ومؤرخين ، وبعد أن كانت محج كل أهل أوروبا في كل شؤون حياتهم لدرجة أن الواحد منهم كان يفتخر بين أقرانه الأوروبيين أنه يتكلم اللغة العربية، وبعد ان أيقن دهاقنة أوروبا أن أوروبا بكل عددها وعتادها لا تستطيع الصمود في وجه حضارة الأندلس أو التصدي لها أو وقف حركة سيرها التي بدأت تقترب في تلك الأيام من قلب أوروبا ، بعد كل ذلك لجأ دهاقنة أوروبا الى مخطط تفكيك الجغرافيا التي قامت عليها حضارة الأندلس ، وبعيدا عن الخوض في الأساليب التي تبناها دهاقنة أوروبا لتفكيك تلك الجغرافيا الأندلسية ، فقد تم لهم مع شديد الأسف تفكيك تلك الجغرافيا مما أدى الى تفكيك كيان الثوابت الإسلامية العروبية التي احتضنتها تلك الجغرافيا، فتحولت حضارة الأندلس من حضارة أمة إسلامية عربية ذات كيان واحد وذات سيادة واحدة وذات إرادة واحدة الى مجموعة إمارات مفككة متناحرة تتربص ببعضها ، ويسعى كل منها الى مد يد التنسيق الأمني مع دهاقنة أوروبا بهدف التخلص من الإمارات الأخرى، وهكذا تحول الصف الواحد الذي كان يجمع بين كل أبناء حضارة الأندلس الى صفوف متناحرة ، وتحول الموقف الواحد الى مواقف متصارعة ، وفرضت الحدود المصطنعة بين أبناء حضارة الأندلس الواحدة، وبعد ان كان الواحد من تلك الحضارة يعتبر نفسه ابنا لتلك الحضارة ، فُرض عليه ان يتحول الى إبن لإحدى تلك الإمارات المفككة المتناحرة.
وماذا كانت النتيجة؟! أخذت تلك الإمارات تتساقط الواحدة تلو الأخرى أمام دهاقنة اوروبا حتى سقطت كل حضارة الأندلس وأصبحت أثرا بعد عين، كأنها لم تغن بالأمس!! وهكذا أدى مخطط تفكيك جغرافيا حضارة الأندلس الى تفكيك كيان الثوابت الإسلامية العروبية التي قامت عليها حضارة الأندلس، وبدأنا نقرأ عن حضارة الأندلس كتاريخ فقط ، ثم تكرر مخطط تفكيك الجغرافيا مرة أخرى على نطاق أوسع بعد مخطط تفكيك جغرافيا الأندلس ، بهدف تفكيك كيان الثوابت الإسلامية العروبية التي كانت تمتد على رقعة واسعة من آسيا وإفريقيا وأوروبا ، فبعد أن كانت حضارة الخلافة الإسلامية الواحدة تقوم على هذه الرقعة الواسعة التي كانت تمتد بين تلك القارات الثلاث، وبعد أن تألقت تلك الحضارة وأصبحت سيدة الأرض بلا منازع ، وبعد أن أبدعت في كل شؤون الحياة وبهرت الدنيا وجذبت كل العقول إليها، وبعد أن حملت رسالة الأمة الإسلامية العربية الواحدة، التي صهرت في بوتقتها كل الأجناس والأنساب والألوان واللغات ، وأصبح الكل ينتمون الى الأمة الإسلامية العربية الواحدة، وبعد أن ذابت الحدود الجغرافية بين أبناء تلك الحضارة الإسلامية العربية الواحدة ،وأصبح الجميع ينتمون الى هذا الكيان الجغرافي العالمي ، وبعد أن أصبحت كل قضية في حدود هذا الكيان الجغرافي العالمي هي قضية كل هذا الكيان وقضية كل أبناء هذا الكيان، وبعد أن أصبح العربي والتركي والكردي والأفغاني والقفقاسي والفارسي يدافع عن كل قضية من قضايا هذا الكيان على اعتبار أنها قضيته ،وبعد أن أصبحت قضية القدس والمسجد الأقصى المباركين- على سبيل المثال- تجمع جهود وتضحيات كل أبناء هذا الكيان الجغرافي العالمي على اعتبار أنها قضيتهم جميعا، وبعد أن أصبح هذا الكيان الجغرافي العالمي هو الحاضنة الحية للثوابت الإسلامية العروبية ، وبعد أن فشلت جهود الأوروبيين الصليبيين تارة، وجهود المغول تارة أخرى ،وجهود القوى الباطنية والشعوبية تارة ثالثة، في هزيمة الحضارة الإسلامية العربية العالمية الممتدة في كل بقاع الأرض حتى وصلت حدود فينا عاصمة النمسا وحدود الصين، وبعد أن كان البحر الأبيض المتوسط بمثابة بحر داخلي من ضمن سيادة تلك الحضارة الإسلامية العربية العالمية مترامية الأطراف، بعد كل ذلك لجأ دهاقنة أوروبا الى مخطط تفكيك جغرافيا ذاك الكيان الإسلامي العربي، وبغض النظر عن الأساليب التي انتهجها دهاقنة أوروبا لفرض التفكيك الجغرافي على ذاك الكيان الإسلامي العربي الا أنه تم لهم مع شديد الأسف تفكيك جغرافيا ذاك الكيان وتحويله من جغرافيا إسلامية عربية الى جغرافيا مصطنعة فرضها دهاقنة أوروبا على كل أبناء الأمة الإسلامية العربية الواحدة، التي جمع بينها الوطن الإسلامي العربي الواحد على مدار أكثر من عشرة قرون من الزمان ، وكان من أكثر مخططات ذاك التفكيك الجغرافي شؤما ما عُرف فيما بعد باسم إتفاقية (سايكس-بيكو)، ثم نتج عن مخططات ذاك التفكيك الجغرافي ما يلي:
1.تفكيك وحدة الجغرافيا الإسلامية العربية حيث تحولت الى عشرات الدول ذات الأسماء المختلفة ، ومما زاد الطين بلة ان البعض منا سَمَّى ذاك التفكيك في وحدة الجغرافيا الإسلامية العربية إستقلالا.
2. بعد أن تم اطلاق اسم جديد على كل جزء من أجزاء تلك الجغرافيا الإسلامية العربية المفككة ، أخذ كل إسم جديد من هذه الأجزاء الجديدة صفة دولة ، وأصبح لكل منها علمها الخاص بها ، ورئيسها الخاص بها، وشعبها الخاص بها ، وعملتها الخاصة بها، وقضاياها الخاصة بها، وشعبها الخاص بها ونظام الحكم الخاص بها ويوم الإستقلال الخاص بها.
3. من شدة مكر دهاقنة أوروبا ، فقد تعمدوا عن سبق إصرار أن يتركوا ما بين كل دولتين من هذه الدول الجديدة أرضا متنازعا عليها حتى هذه اللحظات ، ونحن في عام 2017 ، كي يسهل إحداث فتنة بين هاتين الدولتين ، بعد إثارة قضية الأرض المتنازعة عليها كل ما وجد دهاقنة اوروبا في ذلك مصلحة والشواهد على ذلك كثيرة.
4. أصبحت كل دولة من هذه الدول الجديدة تصدر لأبنائها الذين يقيمون فيها بطاقة شخصية خاصة بهم وجواز سفر خاص بهم وهكذا تفككت الأمة الإسلامية العربية الواحدة الى أكثر من خمسين بطاقة شخصية وجواز سفر، والى أكثر من خمسين حدود جغرافية مصطنعة تفصل بينها ، وإلى أكثر من خمسين معبر ما بين كل دولتين، تربط بينها ، واصبح ابن إحدى هذه الدول الجديدة اذا ما دخل الى دولة أخرى منها يشعر أنه دخل الى دولة غير دولته ذات شعب يختلف عن شعبه ، وذات قضايا تخصها تختلف عن القضايا الخاصة بدولته ، لا لسبب الا لأن الحدود الجغرافية المصطنعة أدت الى تفكيك جغرافيا الأمة الإسلامية العربية الواحدة والى تفكيك كيان الثوابت الإسلامية العروبية.
وأصبحت المصطلحات الجغرافية تحمل مدلولات ضيقة ممسوخة تختلف عما كانت تحمله في مرحلة الجغرافيا الإسلامية العربية الواحدة.
5.وعلى سبيل المثال كان مصطلح الشام يعني سوريا ولبنان والأردن وفلسطين التاريخية وبعض أراضي مصر والعراق ثم بعد مرحلة تفكيك الجغرافيا الإسلامية العربية الواحدة أصبح مصطلح الشام يعني سوريا فقط، وكان مصطلح المغرب العربي يعني المغرب وتونس وليبيا والجزائر وموريتانيا ، ثم بعد مرحلة تفكيك الجغرافيا الإسلامية العربية الواحدة أصبح مصطلح المغرب يعني المغرب.
6. إنعكس كل ذلك على هموم الأمة الإسلامية العربية الواحدة ، فبعد ان كان هَمَّ أي موقع منها هو هَمّ كل الأمة الإسلامية العربية، أصبح بعد تفكيك الجغرافيا الإسلامية العربية الواحدة هَمّآ خاصا بأبناء هذه الدولة او تلك التي شكلت بمجموعها يوما من الأيام فسيفساء الجغرافيا الإسلامية العربية الواحدة وعلى سبيل المثال بعد ان كانت قضية فلسطين بعامة وقضية القدس والمسجد الأقصى المباركين بخاصة هي قضية كل أبناء الأمة الإسلامية العربية الواحدة ،وبعد أن نفر إليها نصرة لها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه العربي، والسلطان صلاح الدين الايوبي الكردي والسلطان قطز التركي ، بعد كل ذلك أصبحت وكأنها قضية الفلسطينيين فقط، وهكذا ضاعت وحدة حاضر ومستقبل الأمة الإسلامية العربية الواحدة ،وضاعت وحدة آلامها وآمالها.
7. بل تردى الحال الى وضع كارثي، لدرجة ان بعض هذه الدول أصبحت تحمل العداء لدول أخرى منها ، بل ان بعض هذه الدول لا تزال تعيش في نزاع حدودي متواصل ما بينها بل ان البعض منها وقعت بينها حروب طاحنة حصدت وشردت الملايين من أبنائها الذين كانوا ذات يوم أبناء الوطن الإسلامي العربي الواحد.
8. وليت مأساة تفكيك جغرافيا الأمة الإسلامية العربية الواحدة وقفت عند هذا الحد، بل سارعت بريطانيا وأقامت الجامعة العربية، لترسيخ حالة التفكيك التي فرضتها سايكس-بيكو ، ثم أصبحت الجامعة العربية تعيش في غرفة الإنعاش كما هي عليه الان !!! ثم سعى دهاقنة أوروبا الذين انضم إليهم فيما بعد دهاقنة أمريكا وروسيا والصهيونية سعوا الى إسقاط الخلافة الإسلامية فتم لهم ذلك، ثم سعوا الى إقامة دولة صهيونية على حساب فلسطين ، وتم لهم ذلك ، ثم واصلوا تفكيك الدول الجديدة، التي طفت على السطح بعد تفكيك الجغرافيا الإسلامية العربية، فنجحوا بتفكيك باكستان ثم أفغانستان ، ثم العراق ، ثم السودان وأجزاء من اندونيسيا ثم تآمروا على الربيع العربي وواصلوا تفكيك ليبيا ومصر وسوريا واليمن ، بمعنى آخر إنهم اليوم يواصلون تفكيك المفكك وإفشال أية محاولة لإعادة لحمة ووحدة الجغرافيا الإسلامية العربية التي لن تتم الا في ظلال المشروع الإسلامي الراشد الوسطي.
9. ولا شك ان هؤلاء الدهاقنة على اختلاف عناوينهم فركوا أيديهم فرحا في اللحظات الأولى من محاولة الإنقلاب الفاشلة في تركيا، وها هم يفركون أيديهم فرحا الآن بسبب الأزمة التي تعصف في الخليج العربي الآن ، والتي لن يحلها الا لغة الحوار لا لغة الحصار لتفويت الفرصة على كل المتربصين بمستقبل الخليج العربي، وبمستقبل كل الدول المسلمة والعربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى