معركة الوعي (29)… الذيــــن قالــــوا “لا”! (8)

حامد اغبارية
مدخل
قليلون هم الذين قالوا “لا”! لكنّهم على قلّتهم فرضوا بمواقفهم الثابتة معادلةً جعلت الذين أرادوهم أن يقولوا “نعم” يُجيّشون لهم جيوشا مدججة بكل أنواع السلاح العسكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي، سعيا إلى الشيطنة والتشويه والملاحقة والبطش والاجتثاث، فما ازداد الموقف إلا صلابة، وما ازداد المشهد إلا وضوحا، وما ازداد الذين رفضوا السير في الركب إلا عنفوانا، وما ازداد الذين راودوهم عن مواقفهم إلا فشلا، حتى أصبح العالم وقد انقسم إلى فُسطاطين لا ثالث لهما، اللهم إلا من “فُسَيْطِطِ” المنافقين الذين ربطوا مصائرهم بمن يظنون- مخطئين- أنه غالبٌ في كل الأحوال.
في هذه السلسلة التي قد تستغرق صفحات كثيرة، محاولةٌ لفتح البصائر على حقيقة الصراع الدائر بين الذين قالوا “لا”، وبين الذين يريدون فرض أجندتهم على أهل الأرض جميعا، أو بالأحرى فتح البصائر على حقيقة الحرب التي يشنها فسطاط الشيطان على الذين استقر في نفوسهم قول “لا” في كل الأحوال كذلك.
هذا ليس لغزا من الألغاز، ولا هي طلاسم يصعُب فهمُ كنهها. إنه حديثٌ عن أهل الحق القابضين على الجمر في زمن السنين الخداعة التي يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. إنه حديثٌ عن الذين لم تفارقهم شجاعة المؤمنين ورباطة جأش المرابطين على الثغور، رغم ما يبدو للرائي من ضعف قوّتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس وتخلي الأقربين عنهم.
هو حديثٌ عن تركيا، وعن ماليزيا، وعن الإخوان المسلمين، وعن الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، وعن غزة قاهرة الغزاة، وعن العراق ما قبل 2003، وعن العلماء الربانيين الذين رفضوا السير في ركب السلطان، وعن صفحات أخرى مشرقة في بلاد المسلمين التي استهدفها فسطاط الشرّ طوال عقود.
إنها غزّة- قاهرة الغزاة ومخزن الصمود (2-3)
لعلّك أدركتَ الآن لماذا ما تزال غزة مستهدفة من كل قوة تصعد في محيطها. فقد كانت- ولا تزال- عصيّة كريمة، أهلُها ذوو أنفة وعزة، لا يخضعون بسهولة، ولا يرفعون الرايات البيضاء استسلاما كلما ظهرت لهم رايات جيش من جيوش الغزاة.
في سنة 96 قبل الميلاد غزا المكابي اسكندريانيوس (أو جانيوس) غزة بجيش جرار، لكنه اضطر إلى حصارها سنة كاملة بسبب قوة مقاومة أهلها ورفضهم للاستسلام. ولما دخلها بعد هذا الحصار دمرها تدميرا شبه تام انتقاما من صلابة أهلها الذين اضطروه إلى حصارها كل هذا الوقت حتى أنه فكّر بالرجوع عنها أكثر من مرة، بسبب تذمر جنوده من طول الحصار. وقد أعاد الرومان بناء المدينة التي دمرها اسكندريانيوس، ثم منحوها إدارة مستقلة في عهد يوليوس قيصر وعيّن عليها هيرودس حاكما. وكان هذا الأخير يحبها حبا كبيرا ويحب أهلها، حتى قال فيها “إنها مدينة عظيمة”. وقد ازدهرت غزة في زمنهم ازدهارا كبيرا في مجالات العلوم والتجارة والعمران. وظلت على هذا الحال يؤمها عرب الجزيرة العربية في رحلة الصيف، فهي كانت بوابتهم إلى الشام، يحملون إليها تجارتهم. وقد أصبحت في ذلك الوقت من أمهات المدن. وقد أطلق عليها المؤرخون لقب “المدينة الشريفة” تارة، و “المدينة الجميلة” تارة أخرى، و “المدينة الغنية” تارة ثالثة. وظلت غزة كما سائر فلسطين تحت حكم الرومان وصولا إلى عهد الإمبراطور البيزنطي هرقل الذي كان قد استردها من أيدي الفرس الذي سيطروا ليها لفترة قصيرة، حتى دخلها المسلمون فاتحين في القرن السابع للميلاد (636 م). ومنذ ذلك الفتح أصبحت حاضرة من حواضر دولة الإسلام إلى يومنا هذا.
وقد أشرنا سابقا إلى أن غزة سميت “غزة هاشم” نسبة إلى هاشم بن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وسلم، والذي مات فيها في إحدى رحلات الصيف إلى الشام. وفي غزة بني مسجد أطلق عليه “مسجد هاشم” نسبة إليه. ويقال إن السلطان عبد الحميد الثاني هو الذي أمر ببناء المسجد في أواخر القرن الثالث عشر للهجرة النبوية. وقد أقام فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل إسلامه لما كان يتاجر في رحلة الصيف إلى الشام. كما نزلها عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم. بل إن هناك روايات تؤكد أن النبي عليه الصلاة والسلام نزل فيها قبل البعثة في طريقه إلى الشام في تجارته. ولعله من المثير للانتباه أن العرب الذين كانت غزة قبل الإسلام جزءا من محطات رحلاتهم هم أنفسهم الذين فتحوها في الإسلام، فيكونون بذلك قد استردوا مدينة عربية، كانت محط أطماع أمم كثيرة وإمبراطوريات كبيرة.
وكانت غزة من أوائل فتوحات المسلمين في بلاد الشام، فهي بوابة جزيرة العرب إليها، كما هي بوابة مصر التي منها رحل عمرو بن العاص رضي الله عنه لفتح بلاد النيل. وفي غزة وقعت الحادثة التي يقال فيها “ضرب أرطبون العرب (عمرو بن العاص) بأرطبون الروم (بطريقيوس)”. وكان هذا الأخير قد نوى أن يغدر بعمرو ويقتله لما أرسل إليه ليفاوضه على تسليم المدينة، إلا أن ابن العاص فطن إلى خديعته. وما هي إلا برهة حتى فتح المسلمون غزة وطردوا منها الروم إلى غير رجعة. وقد كانت غزة في مركز الأحداث التي شهدتها الحقب المتعاقبة في الدولة الإسلامية، منذ أواخر الدولة العباسية وحكم الفاطميين ثم فترة صلاح الدين الذي حررها من أيدي الصليبيين، ثم في عصر المماليك الذين كانت غزة بالنسبة إليهم سدا منيعا في وجه التتار الذين اجتاحوا بلاد المسلمين بجيوشهم الجرارة. وكان لصمود غزة في وجه التتار الفضل الكبير في تمكين المسلمين بقيادة السلطان قطز وقائد جيشه الظاهر بيبرس. فمن غزة التي قاومت زحف التتار إلى مصر ووقفت في وجهه سدا منيعا، كانت بشائر النصر في معركة عين جالوت التي دحر فيها المسلمون جيوش التتار وسحقوهم سحقا، فلم تعد تقوم لهم قائمة في بلاد الإسلام، رغم محاولاتهم الكر على أرض فلسطين بعد ذلك. بل إن غزة كانت بوابة تخليص سائر بلاد الشام من أيدي التتار بعد هزيمتهم في المعركة الثانية في سهل بيسان. وبعد عهد قطز وبيبرس جعل السلطان سيف الدين قلاوون غزة حصنا حصينا في وجه الأمراء الذين شقوا عصا الطاعة في الشام، فكان منها انتصاره عليهم وتمكنه من السيطرة على سائر بلاد الشام. وقد وقعت بين جيوش قلاوون وبين جيوش التتار معركة حول غزة انتصر فيها جيش المسلمين، ومنها دخل السلطان قلاوون دمشق تحت رايات النصر. ثم إن غزة كانت بوابة الجيش العثماني في عهد سليم الأول لتخليص مصر من أيدي المماليك زمن السلطان المملوكي طوماي باي.
في أواخر العهد العثماني زمن السلطان عبد الحميد الثاني تمكن الانقلابيون من حزب الاتحاد والترقي من السيطرة على غزة، وضموا إليهم أهلها من العرب الذين انخدعوا بهم، يوم قالوا لهم إنهم يسعون إلى التحرر من ظلم الأستانة عاصمة الخلافة، ليتضح بعدها أن نوايا الاتحاديين كانت غير ذلك، حيث انقلبوا على العرب وأخلفوا عهودهم معهم، بعد أن جعلوهم مطية للوصول إلى أهدافهم التي كانت في حقيقتها فتح البلاد أمام الغرب. وكان هذا سببا من أسباب الضعف الذي أصاب غزة، ما مكَّن نابليون بونابرت من اقتحامها قادما من مصر في طريقه إلى احتلال بلاد الشام. لكن نابليون رحل عنها بعد هزيمته في عكا وعدم تمكنه من دخولها زمن أحمد باشا الجزار، الذي لقَّن جيش بونابرت درسا في العسكرية، ورده خائبا يجرجر أذيال الفشل. ومثلما كانت غزة أول مدينة دخلها إبراهيم باشا ابن محمد باشا في طريقه إلى الشام، فقد كانت آخر مدينة يغادرها راجعا إلى مصر بعد هزيمته في الشام وعدم تمكنه من السيطرة عليها. وكان أهل الشام قد ثاروا في وجه إبراهيم باشا جراء ظلمه لهم، ما اضطره إلى الانسحاب من دمشق. وفي طريق عودته لم يجد من يقاتله سوى أهل غزة الذين قاتلوه بشراسة قبل أن يتمكن من دخول المدينة عائدا إلى مصر.
ولعل المتمعن في تاريخ غزة في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، التي كانت مقدمة للاحتلال الانجليزي لبلاد الشام، سيجد أن سقوطها في أيدي الغرب، فيما يمكن أن أسميه الحملة الصليبية الأولى في القرن العشرين، كان سببه تلك الخيانات التي عانت منها الخلافة العثمانية، سواء من قبل الاتحاديين المدعومين من بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية، أو من محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا، وبعض العرب الذين وقعوا ضحية لوعود الاستعمار الانجليزي في الحرية والاستقلال. وكان الانجليز قد خرجوا بجيش من مصر إلى فلسطين، عبر مدينة العريش التي سيطروا عليها بسهولة، ليجدوا غزة تقف لهم بالمرصاد، حيث كان الجيش العثماني قد استعد فيها لقتال الانجليز وحصَّنها تحصينا غير مسبوق، مكنه من صد هجوم الانجليز أكثر من مرة. وكان أهل غزة عونا للقوات العثمانية في مواجهة الانجليز، وكان ذلك في آذار 1917.
كانت خطة الانجليز وهدفهم الأكبر هو احتلال القدس، وكانوا يدركون أن وصولهم إليها منوط بسيطرتهم على غزة، ولذلك ضاعفوا قواتهم في منطقة غزة، وفي ذات الوقت قطعوا طرق الإمدادات على القوات العثمانية. وفي 17 نسيان من تلك السنة (1917) شن الانجليز هجوما ثانيا على غزة، وقصفوها بالمدافع الثقيلة حتى دمروا كثيرا من بيوتها وحاراتها، وأصابت نيران مدافعهم جانبا من الجامع الكبير فهدّمته. لكن مقاومة غزة أفشلت الهجوم للمرة الثانية، خاصة وأن الجنود العثمانيين أبلوا بلاء حسنا في ساحة القتال، وكانوا يضحون بأنفسهم دفاعا عن المدينة، لعلمهم أن سقوطها يعني سقوط القدس في أيدي الانجليز. وفعلا بعد يومين من القتال الشرس تمكن المدافعون عن غزة من هزيمة الانجليز شر هزيمة. وجراء ذلك عينت بريطانيا الجنرال أللنبي قائدا عاما لقواتهم في المنطقة، فعمل على إعادة ترتيب صفوف جيشه وبدأ يستعد للهجوم على غزة. وفي الأول من تشرين الثاني 1917 شنت قوات الانجليز هجوما واسعا على غزة التي صمدت في وجههم سبعة أيام في واحدة من أشرس المعارك التي أبلى فيها الجنود العثمانيون ومعهم أهل غزة من العرب بلاء حسنا، قبل أن يتمكنوا من دخولها، وقد أذاقتهم الأمرين وكلفتهم آلاف القتلى والجرحى والأسرى. وكانت بريطانيا عبر جواسيسها وعملائها قد تمكنت من جر عدد من العرب في غزة وجنوب فلسطين لتأييد الشريف حسين بن علي في تمرده المشين على الدولة العثمانية. فكان هذا أحد أسباب ضعف المقاومة في غزة أمام الهجوم الانجليزي. (يتبع).