أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (22): الذيــــن قالــــوا “لا”! (1)

حامد اغبارية
قليلون هم الذين قالوا “لا”! لكنّهم على قلّتهم فرضوا بمواقفهم الثابتة معادلةً جعلت الذين أرادوهم أن يقولوا “نعم” يُجيّشون لهم جيوشا مدججة بكل أنواع السلاح العسكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي، سعيا إلى الشيطنة والتشويه والملاحقة والبطش والاجتثاث، فما ازداد الموقف إلا صلابة، وما ازداد المشهد إلا وضوحا، وما ازداد الذين رفضوا السير في الركب إلا عنفوانا، وما ازداد الذين راودوهم عن مواقفهم إلا فشلا، حتى أصبح العالم وقد انقسم إلى فُسطاطين لا ثالث لهما، اللهم إلا من “فُسَيْطِطِ” المنافقين الذين ربطوا مصائرهم بمن يظنون- مخطئين- أنه غالبٌ في كل الأحوال.
في هذه السلسلة التي قد تستغرق صفحات كثيرة، محاولةٌ لفتح البصائر على حقيقة الصراع الدائر بين الذين قالوا “لا”، وبين الذين يريدون فرض أجندتهم على أهل الأرض جميعا، أو بالأحرى فتح البصائر على حقيقة الحرب التي يشنها فسطاط الشيطان على الذين استقر في نفوسهم قول “لا” في كل الأحوال كذلك.
هذا ليس لغزا من الألغاز، ولا هي طلاسم يصعُب فهمُ كنهها. إنه حديثٌ عن أهل الحق القابضين على الجمر في زمن السنين الخداعة التي يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. إنه حديثٌ عن الذين لم تفارقهم شجاعة المؤمنين ورباطة جأش المرابطين على الثغور، رغم ما يبدو للرائي من ضعف قوّتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس وتخلي الأقربين عنهم.
سيكون لنا حديثٌ عن تركيا، وعن ماليزيا، وعن الإخوان المسلمين، وعن الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، وعن غزة قاهرة الغزاة، وعن العراق ما قبل 2003، وعن العلماء الربانيين الذين رفضوا السير في ركب السلطان، وعن صفحات أخرى مشرقة في بلاد المسلمين التي استهدفها فسطاط الشرّ طوال عقود.
تركيا وميزان الرعب (1-2)
في الأسبوع الماضي نشر موقع “واينت” العبري مقالا للجنرال الإسرائيلي خبير الاستخبارات العسكرية رون بن يشاي، الذي يعمل منذ سنوات طويلة في مجال الصحافة العسكرية، وبرز كمحلل عسكري في مختلف وسائل الإعلام الصهيونية. وكان المقال تحت عنوان “أردوغان المُحتل ينشئ إمبراطورية تركية جديدة”، حاول من خلاله تقديم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في صورة الدكتاتور الذي يسعى إلى احتلال أراضي الآخرين لتحقيق أهدافه التوسعية!
لم يكن دافع بن يشاي إلى نشر المقال اعتباطيا، ولا هو مجرد موضوع خطر له فكتب فيه رأيه، بل هو حلقة في سلسلة من الأبحاث والمقالات والتصنيفات التي تعمل مراكز الأبحاث الإسرائيلية (وغيرها طبعا من أمريكية وروسية وأوروبية وعربية..) على وضعها أمام المستويات السياسية والعسكرية لترسم سياساتها ومواقفها من الدولة التركية على ضوئها. غير أن الحاضر الغائب في مثل هذه الأبحاث والمقالات هي الحقيقة التي يحاول هؤلاء نشر الضباب حولها، وتوجيه الشراع إلى خانة التشويه والتشكيك والشيطنة. هي حقيقة حاضرة بقوة في كل ما يقولونه. ورغم أنهم لا يقولون ذلك صراحة، إلا أنك تستطيع أن تقرأها بين السطور وخلف ما يصفعون به عيني القارئ الذي يسعون إلى جرِّه إلى مربّعهم.
فما هي هذه الحقيقة؟
إنها حقيقةُ ميزان الرعب الذي أنشأته تركيا في السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ صعود حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم، والذي بات يقضّ مضجع تل أبيب وواشنطن وموسكو وعواصم أوروبا، ومن لف لفهم من حظائر الأنظمة العربية التابعة رغم أنفها أو بإرادتها لفسطاط النفاق. وهي حقيقةُ أن تركيا اليوم تسعى إلى استرجاع حقها الذي نهبته منها دول الحلفاء نتيجة الحرب العلمية الأولى. فهي بذلك لا تعتدي على أحد. وحقيقةُ أن نهضة تركيا أصبحت مصدر قلق لقوى الشر التي تقودها واشنطن. وهي حقيقةُ أن نهضة تركيا ذات طابع إسلامي، وحقيقةُ أن تركيا من تلك القلّة التي امتلكت ما يكفي من الشجاعة والثبات كي تقول “لا” لكل هؤلاء.
ولذلك فإن ما كتبه رون بن يشاي تجد فيه تحريضا مباشرا على تركيا- أردوغان، دافعُه الرعب الذي أصاب قادة المؤسسة الإسرائيلية وعسكرييها ومفكريها وباحثيها وإعلامييها، من مجرد التفكير بتحقيق أردوغان لأهدافه، والتي في مقدّمتها انعتاق تركيا من الأغلال التي تقيّدها منذ اتفاقية ولوزان الثانية (1923) التي أُجبرت الإمبراطورية العثمانية على توقيعها كنتيجة من نتائج الحرب العالمية الأولى. وفي المقال تنبيهٌ وتحذيرٌ من إمكانية نجاح التجربة الأردوغانية. (سُميت اتفاقية لوزان الثانية لتمييزها عن اتفاقية لوزان الأولى التي وقعت بين الإمبراطورية العثمانية وبين إيطاليا عام 1912، وتعرف أيضا باتفاقية أوشي والتي تنازل فيها الانقلابيون من الاتحاد والترقي في الدولة العثمانية عن ليبيا لصالح الاحتلال الإيطالي).
يقول بن يشاي: “يسعى أردوغان علنا، مثل إيران، إلى تحويل بلاده إلى قوة عظمى إقليمية، وربما عالمية بعد ذلك، وهو لا يتردد في استخدام القوة العسكرية من أجل تحقيق أهدافه الإستراتيجية، ولذلك من شأننا- ونحن منشغلون في البلاد بالكورونا وتبعاتها- أن نكتشف فجأة وخلال فترة قصيرة أن قوة تحمل تهديدا استراتيجيا لدولة إسرائيل تقف على أبوابنا، ولذلك من المهم جدا مراقبة سياسة أردوغان وأفعاله”. وهنا مربط الفرس. هنا الدافع الأكبر الذي جعل القيادات الإسرائيلية السياسية والعسكرية تجيّش الإعلام لشن حرب تحريض ضروس على تركيا بشكل عام وعلى الرئيس أردوغان بشكل خاص. ولعله من الأهمية بمكان الإشارة إلى اشتراك أنظمة عربية – على رأسها السعودية ومصر والإمارات- في هذه الحرب، لتلتقي أيضا مع الإعلام الأمريكي والأوروبي في نفس الخندق.
وقد أشار بن يشاي إلى حقيقة لا يمكن إخفاؤها، في مطلع مقاله، حين قال إنه في الوقت الذي خفّضت غالبية الأنظمة في الشرق الأوسط مستوى نشاطها العسكري بسبب جائحة كورونا، وانتظارا لنتائج الانتخابات الأمريكية، فإن أردوغان هجم إلى الأمام، بمعنى أنه داس على دواسة الوقود بقوة ولم ينتظر أحدا. وهذه من الحقائق التي تقلق تل أبيب، كما تقض مضاجع قادة فسطاط الشر جميعا، لأن سياستهم مبنية على ضبط الأمور لتبقى خيوط اللعبة في أيديهم، ومن عناصر هذه الضوابط ضرورة أن ينتظر العالم كله نتائج الانتخابات الأمريكية، كي يعرفوا من هو المجرم القادم الذي سيقود معسكر عصابات الإجرام الدولية، ومن ثم يتصرفون بناء على هوى سياسات الرئيس الجديد. أما أردوغان فهو لا ينتظر أحدا، بل يترك الآخرين يحلمون به ليل نهار، وينتظرون منه المفاجآت ويحاولون فك رموز سياساته. فهو من القلائل الذين قالوا “لا” لأمريكا، و “لا” للانتظار على دكة الاحتياط، و “لا” للعب في المربع الصهيو- أمريكي. من أجل ذلك أصبح هدفا لا بدّ من التركيز عليه وإزاحته عن المشهد بكل وسيلة ممكنة.
يرى بن يشاي أن لأردوغان أربعة أهداف استراتيجية يسعى هذه الأيام إلى تحقيقها بكل عدوانية!! بكل الوسائل العسكرية والسياسية والاقتصادية التي يملكها. وأوّل الأهداف الأربعة إعادة تركيا إلى مكانة الدولة المهيمنة التي فقدتها الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى. ولذلك يسعى أردوغان إلى تحقيق الهدف الاستراتيجي المسمّى “الدولة الزرقاء”، والذي من خلاله تطالب تركيا بحقوق مائية اقتصادية في البحر المتوسط، بما في ذلك مياه جزر يونانية من بينها جزيرة كريت، وكذلك في بحر إيجة والبحر الأسود.
فهل تطالب تركيا بشيء ليس من حقها؟ حقيقة الأمر أن تركيا تريد استرجاع ما نهبته منها دول الحلفاء مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا وروسيا، بناء على اتفاقية لوزان الثانية.
لقد أجبرت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى الإمبراطورية العثمانية على التوقيع على اتفاقيتين؛ الأولى اتفاقية سيفر التي وقع عليها السلطان محمد رشاد، ثم رفضها الانقلابيون الأتاتوركيون، والثانية اتفاقية لوزان التي وقع عليها الانقلابيون. حدث هذا بعد أن نجحت دول الحلفاء قبل ذلك في إزاحة العقبة الكبرى، السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله تعالى، عام 1909، بواسطة عملائها من أقطاب تركيا الفتاة وحزب الاتحاد والترقي، صنيعة الماسونية العالمية، والتي انتجت بعد ذلك المسخ المعروف باسم مصطفى كمال أتاتورك.
لم تكن الإمبراطورية العثمانية ذات مصلحة في دخول الحرب العالمية الأولى، لكن جنرالات الانقلاب على الخلافة، وعلى رأسهم طلعت باشا وأنور باشا وجمال باشا، دفعوها دفعا إلى تلك الحرب بعد عزل السلطان الذي حمى بلاد المسلمين من مؤامرات الغرب وروسيا طوال ثلاثة عقود، وتصدى لكل المؤامرات الداخلية والخارجية التي استهدفت مشروعه الأصيل في “جامعة إسلامية” تجمع الأمة كلها للتصدي للمشروع الإمبريالي الذي يسعى لتفتيت الأمة. وقد وقف عبد الحميد في وجه هذه المؤامرات وحيدا تقريبا، خاصة في السنوات الأخيرة من حكمه، وحقق في ذلك نجاحات كان يمكن أن تضع حدا لأطماع الغرب لولا تآمر الانقلابيين من الداخل. وإننا نرى ذات المشهد تقريبا يتكرر مع تركيا اليوم، ممثلة بالتآمر على حكم حزب العدالة والتنمية، من خلال شن حملة تشويه وشيطنة غير مسبوقة، وصولا إلى محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف تموز 2016، ثم توجيه ضربة قاسية للاقتصاد التركي بعد أن تأرجح لفترة ما عقب محاولة الانقلاب، من خلال تهديدات أمريكية بضرب الليرة التركية. وكانت واشنطن قد تذرعت بقضية القس الأمريكي روبنسون الذي كان محتجزا في تركيا بتهمة التجسس، غير أن قضية روبنسون كانت مجرد ذريعة. وفقط الذين يفكرون تفكيرا سطحيا يمكن أن ينطلي عليهم أن قضية شخص معتقل يمكن أن تكون دافعا لتدمير اقتصاد الدولة التي تحتجزه، ذلك أن الحقيقة التي تقف خلف هذا لها ارتباط وثيق بالموقف من أردوغان وحكومته كممثل للسياسة التركية التي تجرأت على قول “لا” لواشنطن وتل أبيب، وسعت إلى إيصال الدولة التركية إلى الانعتاق من القيود الاقتصادية التي يسيطر عليها المتحكم الوحيد بالاقتصاد العالمي- أمريكا. وقد رأت أمريكا كيف أن خطة أردوغان القاضية بالوصول إلى سنة 2023 بسلام تسير بثقة وثبات، وهي السنة التي تنتهي بها قيود اتفاقية لوزان المذلّة، والتي بعدها تستطيع تركيا أن تصبح ذات سيادة تمكّنها من بناء اقتصاد غير مرتبط بالدولار الأمريكي. ولعل المراقب قد لاحظ أن تأثر الاقتصاد التركي بالعقوبات الأمريكية التي لوّح بها الرئيس الأمريكي ترامب سببها أن تركيا لا تملك موارد للطاقة مثل البترول والغاز، وستبقى مضطرة إلى استيرادهما وفق الأسعار الدولية، إلى حين تمكنها من التنقيب عن النفط والغاز في أراضيها المنهوبة بعد انتهاء اتفاقية لوزان، وهو ما سعت واشنطن ومعها تل أبيب والاتحاد الأوروبي وأنظمة عربية إلى عرقلته ومنع حدوثه.
في التالي فإن ما يزعمه رون بن يشاي من سعي تركيا إلى السيطرة على مساحات بحرية في البحر المتوسط والبحر الأسود وبحر إيجة، إنما هو حق أصيل من حقوق تركيا بنص تلك الاتفاقية المهينة، والتي مع انتهائها سيكون من حق تركيا التنقيب عن البترول والغاز الطبيعي في أراضيها وفي مياهها الإقليمية.
أولا: جزيرة كريت التي يُلحقها مؤرخو الدجل باليونان وكأنها جزء منها، هي في الحقيقة جزيرة إسلامية، فتحتها المسلمون في القرن التاسع الميلادي، ثم وقعت تحت سيطرة الحملات الصليبية، ليحررها العثمانيون في القرن السابع عشر، مستجيبين لاستغاثة أهل الجزيرة الذين عانوا تحت وطأة ظلم الصليبيين. ثم سُلمت لليونان عام 1913 جراء تآمر أعداء الإمبراطورية العثمانية، بمن فيهم روسيا وبريطانيا وفرنسا، الذين نجحوا في “تدويل” قضية الجزيرة وصولا إلى تسليمها لليونان بقرار “دولي”!!
ثانيا: جاءت اتفاقية لوزان عام 1923 للتمهيد لهدم الخلافة الإسلامية وتأسيس دولة تركية علمانية لا علاقة لها بالإسلام. وأهم ما جاء في تلك الاتفاقية المجحفة: مصادرة جميع أموال ومقدرات الخلافة العثمانية؛ إعلان تركيا الحديثة دولة علمانية، منع تركيا من التنقيب عن البترول والغاز، هذا إضافة إلى انتزاع العديد من الجزر التابعة للدولة العثمانية وتسليمها لليونان وإيطاليا، وترسيم مجحف للحدود مع سوريا والعراق وإيران والسيطرة على المضائق، وتنازل الدولة العثمانية عن جزيرة قبرص وعن مصر والعراق وبلاد الشام.
وكانت دول الغرب قد أعلنت دعمها لما يسمى “حكومة أنقرة” بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، وعدم اعترافها باتفاقية سيفر التي وقعها السلطان محمد رشاد من العاصمة اسطنبول، وأصبحت “حكومة أنقرة” هي الممثلة للدولة العثمانية في اتفاقية لوزان. وبذلك نجحت لعبة الأمم في تحقيق أهدافها لمدة 100 سنة قادمة. فهل تعتدي تركيا اليوم على أحد عندما تسعى، وفق الاتفاقية ووفق القانون الدولي، إلى استعادة ما سُلب منها؟ هذا ما يريدون فرضه على الرأي العام للحيلولة دون انعتاق تركيا من قيودها، والتي تعني بالضرورة بداية مرحلة جديدة في المنطقة، لا تريد لها تلك القوى أن ترى النور.
(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى