أخبار رئيسيةأخبار وتقاريرعرب ودولي

لستُ شرطيا لكن في قلعتي أراقب العالم

أصدرت إدارة ترامب مؤخرا إستراتيجيتها (وثيقتها) الأحدث للأمن القومي، والتي مثلت انقلابا جذريا على عقود من التقاليد الأميركية بشأن السياسة الخارجية وأعادت صياغة فهم الأميركيين لدورهم في الشؤون العالمية.

تبدو الوثيقة، المكونة من 33 صفحة، أقرب إلى بيان أيديولوجي يعلن نهاية الطبيعة العالمية للنظام الدولي ويدشن فصلا جديدا تُميزه النزعة القومية، والحمائية الاقتصادية، والصراعات حول مناطق النفوذ الخاصة.

على مستوى البناء، صِيغت الوثيقة بروح سردية غير مألوفة، إذ جمعت بين الأجندة الأمنية والخطاب السياسي الداخلي، وأبرزت دور الرئيس نفسه بوصفه محور القصة وبطلها، أكثر مما ركزت على الدولة أو الأمة الأميركية ودورها العالمي. هذا الطابع يجعل الوثيقة تبدو رواية سياسية موجّهة للداخل أكثر من كونها خطة أمن قومي تقليدية، في ابتعاد واضح عن اللغة المؤسسية التي ميزت وثائق الأمن القومي الأميركية لعقود.

على صعيد المضمون، تظهر الرسالة الجوهرية للإستراتيجية الجديدة وهي أن أميركا لن تُرهق نفسها بعد الآن في صراعات بعيدة لا تمثل أولوية للأمن الأميركي (بمفهومة الجديد الذي تعرفه الوثيقة) أو تُقدم الدعم المالي للدفاع عن حلفائها الأثرياء، أو تُخضع مصالحها الاقتصادية للالتزامات الأيديولوجية. بدلا من ذلك، ستُنظّم واشنطن سياستها الخارجية حول “مصالحها الوطنية الجوهرية” التي أُعيد تعريفها في قضايا أمن الحدود ومحاربة الهجرة، والهيمنة الاقتصادية، وإعادة تأكيد التفوق الأميركي في نصف الكرة الغربي (الأميركتين).

تؤكد الاستراتيجية، تأكيدا جازما، أن المصلحة الوطنية الأميركية يجب أن تتجاوز التحالفات التقليدية، والسياسة الخارجية القائمة على القيم، وحتى المؤسسات العالمية. هذا التحول، ليس مجرد “تركيز تكتيكي” حول قضايا بعينها، ولكنه عملية هيكلة واسعة لمفاهيم الأمن القومي، وماهية النظام الدولي الأوسع. هذا الترتيب الجديد من المرجح أن له آثارا عميقة ليس على الولايات المتحدة وحلفائها فقط، ولكن على موازين القوى عالميا في المستقبل.

إعادة تعريف الأمن
تدور الإستراتيجية الأميركية الجديدة بأكملها حول مفهوم جديد كليا للأمن القومي. يتعامل هذا المفهوم مع قضايا الهجرة والاتجار بالمخدرات بوصفها تهديدات أساسية للأمن، وهي صياغة لا مثيل لها في الوثائق الإستراتيجية الأميركية السابقة. تشير الوثيقة بأصابع الاتهام إلى التغيير الديمغرافي ومشكلات الحدود كتهديدات وجودية تساوي في أهميتها صراعات القوى العظمى، محاكية خطاب أقصى اليمين، ومحولة السياسة الخارجية إلى امتداد لمنافسات أيديولوجية داخلية.

تنص الوثيقة صراحة على أن الولايات المتحدة يجب أن تحمي نفسها “من الهجرات غير المُقيدة، ومن التهديدات العابرة للحدود مثل الإرهاب والمخدرات والتجسس والاتجار بالبشر”. ولتحقيق هذه الغاية، تدعو إلى “نشر قوات لتأمين الحدود وهزيمة الكارتلات، بما في ذلك استخدام القوة المميتة عند الضرورة”. يُمثّل هذا قطيعة حاسمة مع إطار بايدن، الذي عالج الهجرة في المقام الأول كقضية إنسانية واقتصادية وإن كانت ذات أبعاد أمنية.

هذا المفهوم غير التقليدي للأمن، يستلزم بالتبعية إعادة تعريف لمناطق النفوذ الحيوي، وفي هذا السياق تطرح الخطة ما تُطلق عليه “ملحق ترامب لمبدأ مونرو” (Trump Corollary to the Monroe Doctrine). نصّ مبدأ مونرو الأصلي (1823) على معارضة الولايات المتحدة للتدخل الأوروبي في نصف الكرة الغربي “القارتين الأميركتين” وجعل هذه المنطقة مجال نفوذ أميركي خالص، وتحول تاريخيا إلى مبرر لأكثر من قرن من التدخلات الأميركية في أميركا اللاتينية، شملت إزاحة الحكومات التي تُعتبرها واشنطن معادية لمصالحها، وصولا إلى إنشاء قواعد عسكرية وتأسيس نفوذ اقتصادي قوي في هذه البلدان.

تُحدّث نسخة ترامب هذه الإستراتيجية وتمزجها بروح العصر الحديث. تنصّ إستراتيجية الأمن الجديدة على سعى واشنطن إلى “استعادة هيمنتها في نصف الكرة الغربي” وضمان عدم تمكّن أي قوة أجنبية من التأثير على الأصول أو سلاسل التوريد الحيوية في تلك المنطقة. وتُلزم الولايات المتحدة بدعم “الحكومات والأحزاب السياسية والحركات التي تتوافق مع مبادئنا وإستراتيجيتنا”. هذه اللغة تُعيد إحياء منطق التدخلات الأميركية الذي كان سائدا في الحرب الباردة، وتلغي إرث السنوات الماضية التي ركزت على الشراكة والتكامل الاقتصادي واحترام نتائج الديمقراطية في أميركا اللاتينية.

تُمثل الإستراتيجية الجديدة كذلك نقطة تحول في كيفية تعامل أميركا مع القوة الاقتصادية. لقد اعتادت الإدارات السابقة بمختلف توجهاتها الحزبية اعتبار التجارة وسلاسل التوريد والتصنيع مسائل اقتصادية بالدرجة الأولى، تُدار من قِبل وزارات الخزانة والتجارة ومؤسسات القطاع الخاص. لكن الإستراتيجية الجديدة تدمج السياسة الاقتصادية مباشرة ضمن إطار الأمن القومي، مُعلنة أن “تعزيز القوة الصناعية الأميركية هو أمر لا غنى عنه لقوة الجيش”.

تُحدد الوثيقة عدة ركائز للأمن الاقتصادي. بداية، تدعو إلى “توازن تجاري” يتضمن خفض العجز التجاري، ومواجهة ما تُسميه الوثيقة “الممارسات الاقتصادية الجشعة”، وهي إشارة مُوجهة بالأساس إلى الصين. وثانيا، تُطالب بـ”تأمين الوصول إلى سلاسل التوريد والمواد الحيوية”، بهدف ألا تُصبح الولايات المتحدة “معتمدة على الواردات الحيوية من أي قوة خارجية”.

بعد ذلك، تُعطي الإستراتيجية الأولوية لإعادة توطين الصناعات وتلتزم باستعادة القدرة التصنيعية المحلية في القطاعات الحيوية إستراتيجيا وأهمها الصناعات العسكرية. وأخيرا، تُطالب الإستراتيجية بـ”الهيمنة على قطاع الطاقة” و(أيضا على القطاعات المالية والتمويل الرقمي والابتكار)، داعية إلى توسيع إنتاج النفط والغاز والفحم والطاقة النووية، ورافضة سياسة “صفر انبعاثات” التي ترى أنها أضعفت أوروبا وصبّت في مصلحة خصوم أميركا.

يُمثل هذا التوجه الاقتصادي انحرافا حادا عن الإجماع النيوليبرالي الذي هيمن على السياسة الأميركية منذ ثمانينيات القرن الماضي والذي تمحور حول مفاهيم التجارة الحرة وقواعد السوق. ومن خلال دمج سلاسل التوريد والقدرة الصناعية في إطار الأمن القومي، تُرقي الوثيقة الأميركية هذه الأمور إلى مستوى الإنفاق الدفاعي، وتشير إلى أن الإدارة ستستخدم التعريفات الجمركية، وضوابط التصدير ليس فقط كأدوات للضبط الاقتصادي، ولكن كوسائط للقوة الإستراتيجية.

سيكون لتلك السياسات تداعيات بعيدة المدى. مثلا، تُلزم الإستراتيجية الولايات المتحدة بالاستثمار في تعدين المعادن الحيوية في أفريقيا ونصف الكرة الغربي لتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد التي تُهيمن عليها الصين، وهو ما يبشر بسياسة أميركية ذات طابع “إمبريالي” في هذه المناطق. كما تنص على “التعبئة الوطنية” للقاعدة الصناعية الدفاعية لدعم الإنتاج الضخم لتقنيات الدفاع غير المتكافئة مثل الطائرات بدون طيار والصواريخ، في تحول عن عقود من التركيز على القدرات الدفاعية التقليدية التي ناسبت الدور العالمي للقوة الأميركية.

في غضون ذلك، تدعو الإستراتيجية إلى تخصيص موارد كبيرة للتحديث النووي، بما في ذلك الصواريخ الباليستية العابرة للقارات الجديدة، ومنظومة دفاع صاروخي متقدمة أطلق عليها اسم “القبة الذهبية” التي تعد أوضح علامة على الطبيعة “الانعزالية” للخطة الأميركية. ويتماشى طموح إنشاء قبة دفاعية باهظة التكلفة مع الأولويات الأمنية الجديدة التي تقدم أمن الحدود وحماية المحيط الحيوي على الانتشار العسكري، والمهام الشرطية العالمية.

عالم أميركا الجديد
لعل الجانب الأكثر جذرية من الناحية “الأيديولوجية” في الإستراتيجية الأميركية الجديدة، هو رفضها الصريح لفكرة أن الولايات المتحدة ينبغي أن تعزز الديمقراطية وحقوق الإنسان والقيم الليبرالية عالميا، في خلاف جوهري مع إستراتيجية بايدن الوطنية لعام 2022 التي نصت على أن “الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية تتنافس على إظهار أي نظام حكم قادر على تقديم أفضل الخدمات لشعوبها وللعالم”، وصاغت السياسة الخارجية الأميركية كدفاع عن “القيم الديمقراطية” في مواجهة “التحديات الاستبدادية”.

على النقيض، تنص إستراتيجية ترامب الجديدة على أن “الوحدة السياسية الأساسية للعالم هي وستظل الدولة القومية”، وأن على الولايات المتحدة تقييم شركائها بحسب مساهمتهم في تعمل الأعباء وليس على أساس كونهم ديمقراطيين. توضح الوثيقة أن الولايات المتحدة تسعى إلى “علاقات تجارية سلمية مع دول العالم دون أن تفرض عليها أي تغيير ديمقراطي أو اجتماعي يختلف اختلافا كبيرا عن تقاليدها وتاريخها” فيما أطلقت عليه اسم “الواقعية المرنة” (Flexible realism) التي تعني، وفق تفسيرات الخبراء، التعاون مع الحكومات الاستبدادية إذا خدمت المصالح الأميركية، وسحب دعمها عن الديمقراطيات التي لا تفعل ذلك.

تذهب وثيقة ترامب إلى أبعد من ذلك، بانتقادها المبطن للإدارات السابقة التي سعت إلى هيمنة أميركية دائمة على العالم على حساب رفاه الشعب الأميركي، معتبرة أن ربط الولايات المتحدة بمنظومة من المؤسسات الدولية واتباع نهج العولمة والتجارة الحرة، أضعفت القاعدة الصناعية الوطنية وأرهقت الطبقة الوسطى. وبهذا المعنى، تتنصل الإستراتيجية الجديدة بشكل واضح من النظام الليبرالي العالمي، الذي قادته واشنطن منذ نهاية الحرب الباردة. فبدلا من خطاب التعاون الدولي والقيم المشتركة، تعيد الوثيقة تعريف القيادة والقوة من منظور أحادي يقوم على المعاملة بالمثل والصفقات الثنائية، فلا تنازلات أخرى من أجل النظام الدولي، ولا لعب لدور “الشرطي العالمي” الذي “يضحي بمصالحه” من أجل استقرار الآخرين.

هذه النقلة من عالمية الدور الأميركي إلى القومية الصارمة تمثل انقلابا جوهريا في فكر واشنطن الإستراتيجي، ويعد هذا خبرا سيئا للعديد من حلفاء الولايات المتحدة، ولأوروبا بشكل خاص. فلأول مرة في تاريخ حلف الناتو الممتد على مدى 76 عاما، انتقدت الوثيقة الأميركية النظرة إلى الناتو كحلف دائم التوسع وقالت إنها ستحول دون تحقق ذلك، كما لمزت المسؤولين الأوروبيين لـ”توقعاتهم غير الواقعية” بشأن حرب أوكرانيا، زاعمة أن الكثيرين منهم يستندون إلى دعم حكومات أقلية غير مستقرة.

تذهب الإستراتيجية أبعد من ذلك بإيحاءاتها حول مستقبل أوروبا، إذ تزعم أن القارة تتجه نحو “تغير ديمغرافي جذري” قد يفضي إلى “محو حضاري” بسبب الهجرة، وأن بعض دول الناتو ستصبح قريبا ذات “أغلبية غير أوروبية”. كما تتهم الوثيقة الحكومات الأوروبية بفرض “رقابة على حرية التعبير” و”قمع المعارضة السياسية” (تقصد أقصى اليمين الذي ترى فيه الإدارة الأميركية حليفا مناسبا أوروبيا)، في انعطافة خطابية جديدة تظهر تراجع الالتزام الأميركي بالديمقراطية الليبرالية التي بنت واشنطن جزءا كبيرا من نفوذها عليها.

في مقابل أوروبا، تُركز الإستراتيجية على الأميركتين في المقام الأول ثم على آسيا التي حظيت بتغطية موسعة في الوثيقة أكثر مما أفرد لمناطق أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا مجتمعة. ويُرفع نصف الكرة الغربي إلى منزلة المسرح الإستراتيجي الرئيسي، متقدما حتى على منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا من حيث إعادة الانتشار العسكري الفوري وتخصيص الموارد. يمثل هذا انقلابا في الأولويات الإستراتيجية الأميركية التي سادت منذ الحرب العالمية الثانية، حين كانت أوروبا تُعامل كمسرح رئيسي ومصدر تهديدات وجودية للأمن الأميركي.

من القيادة العالمية إلى التفوق العالمي
من وجهة نظر مؤيدي ترامب ورؤيته، فإن أهم ما تقدمه الخطة هو “الوضوح الإستراتيجي” بشأن أولويات الولايات المتحدة، وبشأن قيودها أيضا. وبدلا من التظاهر بأن أميركا قادرة على الحفاظ على وجودها العسكري العالمي على نفس المستوى إلى أجل غير مسمى، ومتابعة مهامها الأيديولوجية، ودعم حلفائها في آنٍ واحد، تُقدم الإستراتيجية تنازلاتٍ صريحة. فهي تُعلن ضمنا أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تكون “شرطيا عالميا” ولن تُحاول ذلك، بل ستُركز مواردها على “مصالحها الأساسية”، وتتوقع من حلفائها تحمّل مسؤولية أكبر عن أمنهم.

يُمثل هذا تصحيحا لعقود من التجاوز الأميركي للحدود من خلال شن حروب بناء على افتراض أن الولايات المتحدة قادرة على إبراز قوتها عالميا، وتغيير الأنظمة السياسية والحفاظ على الرخاء الاقتصادي في آنٍ واحد، والتركيز بدلا من ذلك على توجيه الموارد الأميركية نحو الدفاع الداخلي وإبراز القوة في نصف الكرة الغربي. في جوهره، يعد ذلك تحولا عن السعي إلى “القيادة العالمية” نحو التركيز على “التفوق العالمي”، فليس المهم أن تكون الولايات المتحدة قوة قائدة موثوقا بها، المهم أن تكون قوة متفوقة يخشاها الخصوم.

في هذا الطريق، تُعالج الوثيقة مشاكل حقيقية من منظور أي قوة قومية كبرى، مثل التقاسم غير العادل لأعباء التحالفات، والاعتماد المفرط على الغير (الصين) في الحصول على المواد الأساسية، والانتشار العسكري الواسع، مقرة ما نوه إليه ترامب سلفا من أنه لا يُمكن للجيش الأميركي أن يتحمل هذه المسؤولية بمفرده. هذه اللغة، وإن فُسِّرت أحيانا على أنها تهديد للحلفاء للوفاء بالتزاماتهم، إلا أنها تعكس قلقا إستراتيجيا مشروعا حول استدامة الميزانيات العسكرية والموارد اللازمة لاستمرار المنافسة مع باقي القوى العظمى.

ورغم غلبة الرؤية القومية على الوثيقة، فإنها تقدم وضوحا بشأن قضية عالمية ملحة، وهي مضيق تايوان حيث تلزم واشنطن نفسها بالحفاظ على التفوق العسكري في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وردع أي عمل عسكري صيني ضد تايوان مع توضيح أن ذلك الردع يعتمد على تكثيف الحلفاء وعلى رأسهم اليابان وكوريا الجنوبية لجهودهم العسكرية. ولكنها تؤطر ذلك ضمن رؤية “أكثر قومية” تركز على أهمية صناعة أشباه الموصلات التايوانية للاقتصاد الأميركي، ومركزية بحر جنوب الصين كممر إستراتيجي للشحن العالمي.

وفي حين أكدت الإستراتيجية معارضتها لأي عمل أحادي بشأن تايوان، تجنبت تقديم وعود غير واقعية بشأن الدفاع عنها مع الالتزام في الوقت نفسه بضمان بقاء التوازن العسكري ملائما لردع أي عمل صيني. والأهم أن الوثيقة تفعل ذلك، وهي تتجنب الوقوع فخ افتراض أن صراع القوى العظمى مع الصين أمر لا مفر منه. صحيح أن الصين منافس رئيسي وهدف لسياسات التصحيح الاقتصادي الأميركية، لكنها تُشير أيضا إلى انفتاح على ترتيبات اقتصادية “مفيدة للطرفين” وتدعو إلى تجنب التصعيد العسكري غير الضروري.

في مقابل ذلك، تعرف الوثيقة القوة الاقتصادية كأداة إستراتيجية، وليست مجرد أمر ثانوي على هامش الاعتبارات العسكرية، موضحة أن أميركا على استعداد للذهاب إلى أبعد مدى في تسليح قوتها الاقتصادية. وفي هذا الإطار، يعكس تركيز الإستراتيجية على الهيمنة في مجال الطاقة ميزة إستراتيجية حقيقية: فالولايات المتحدة هي أكبر منتج للنفط والغاز الطبيعي في العالم، ولديها إمكانات هائلة للتوسع في هذا المجال، وهو ما تؤكده الوثيقة الجديدة التي لا ترى أن على أميركا أن تعبأ بمسألة الانبعاثات الكربونية وقضية التغير المناخي، طالما أن ذلك يحد من قدرتها على تحقيق التفوق في مجال الطاقة.

تولي الوثيقة كذلك اهتماما لمعالجة نقاط الضعف الملموسة في سلاسل التوريد داعية لأول مرة إلى دور لأجهزة الاستخبارات في تأمينها. وعسكريا، تدعو الإستراتيجية لتعزيز الإنتاج الدفاعي الأميركي خاصة في الأنظمة غير التقليدية مثل الطائرات المسيرة والصواريخ، والتي أثبتت فعاليتها في النزاعات المعاصرة. كما تخصص موارد كبيرة لتحديث الأسلحة النووية، ومنظومة الدفاع الصاروخي “القبة الذهبية”. وكلها سياسات تتوافق مع “الثيمة” العامة للإستراتيجية الجديدة، التي تعيد تعريف الولايات المتحدة كقوة قومية تسعى إلى التفوق وليس كقوة عالمية تتوق إلى القيادة (رغم إشارتها إلى “القيادة الأميركية” في أكثر من موضع).

تكلفة التحول
ما تتجاهله الوثيقة هو التكاليف العميقة للتحول الذي تبحث عنه، وتأثيره السلبي طويل الأمد حتى على “التفوق القومي” الذي تنشده. إذا نظرنا إلى أوروبا على سبيل المثال، نتبين أن استعداد واشنطن الصريح للتخلي عن حلفائها وهجومها الصارخ على نظامهم السياسي (والذي هو للمفارقة نسخة من النظام الذي رعته الولايات المتحدة لعقود) يُشكّلان مخاطر جسيمة على استقرار النظام الدولي، بل وعلى الولايات المتحدة نفسها.

لقد وفّر حلف الناتو، أساسا لاستقرار أوروبا لأكثر من 8 عقود، ولكنه منع أيضا ظهور قوة أوروبية معادية قادرة على تحدي المصالح الأميركية. صحيح أن أوروبا سوف تتأثر نتيجة الانسحاب الأميركي، لكن النتيجة المحتملة لن تصب في صالح واشنطن على الأغلب. فإما أن يؤدي ذلك إلى إضعاف أوروبا وتمهيد الطريق أمام القوى المنافسة مثل روسيا والصين لبسط نفوذها في القارة العجوز، أو أن يفرز أوروبا أكثر قوة واستقلالا، وأكثر قدرة على تحدي المصالح الأميركية.

بالمثل، فإن استحضار الإستراتيجية لمبدأ مونرو والتزامها بالتدخل العسكري في نصف الكرة الغربي، واللغة التي استخدمتها بشأن دعم الحكومات المتوافقة مع مصالح واشنطن تُحيي إرث التدخل الأميركي الإشكالي في أميركا اللاتينية، حيث دعمت الولايات المتحدة حكومات استبدادية بشكل متكرر لأسباب جيوسياسية. هذا النهج سوف يؤدي إلى تفاقم المشاعر المعادية لأميركا، وتنفير القادة الديمقراطيين في المنطقة، وتمهيد الطريق أمام النفوذ الصينى في باحة أميركا الخلفية.

لكن الخطر الأهم التي تؤصل له الوثيقة هو انسحاب أميركا الفعلي من النظام الدولي، الذي لا يشمل فقط نبذ المؤسسات التي مهدت للهيمنة الأميركية على العالم لعقود، ولكن الأهم ازدراء الديمقراطية الليبرالية، وهي المظلة الأيديولوجية للنظام الدولي. تقدم الوثيقة ذلك في بيان براق حول تخلي أميركا عن محاولات “الهندسة الأيديولوجية” للدول والمجتمعات، والحفاظ على علاقات وثيقة مع دول تختلف نظمها السياسية عن النموذج الأميركي طالما تحقق الشراكة أهدافا مشتركة.

المشكلة في هذا الإعلان ليس استعداد أميركا للتحالف مع الأنظمة الاستبدادية، فتاريخ واشنطن حافل بعشرات الحالات التي تحالفت فيها مع أنظمة قمعية بل ونصبت بنفسها هذه الأنظمة حينما اقتضت مصالحها ذلك. لكن المشكلة أن أميركا تمنح من خلال هذا العنوان صوتا ونفوذا للقوى الأكثر تطرفا في المجتمعات الديمقراطية، عبر انتقاد “القيود” التي تفرضها بعض الحكومات الأوروبية على شعوبها باسم حماية الديمقراطية.

وبهذا تعلن الإدارة الأميركية أنها لن تفرض الديمقراطية على الخصوم، لكنها ستوبّخ الحلفاء إذا خالفوا ما تعتبره الديمقراطية الحقيقية، التي تعني إفساح المجال أمام تيارات اليمين الشعبوي والمتطرف. وتتضاعف المفارقة حين يتزامن هذا النهج مع تضييق واسع داخل الولايات المتحدة على الأصوات المنتقدة لإسرائيل، مما يكشف انتقائية واضحة في توظيف خطاب الحريات والديمقراطية.

إن لغة “المحو الحضاري” ومخاوف “الاستبدال الديمغرافي”، والإشارات إلى “استعادة الهوية الغربية” التي تحويها الخطة هي أمور مُستعارة مباشرة من خطاب اليمين المتطرف الأوروبي والتي ورثها اليمين الأميركي. هذا المحتوى الأيديولوجي يمثل ارتقاء غير مألوف للصراعات الثقافية إلى مستوى عقيدة السياسة الخارجية. وإذا وُضع ذلك جنبا إلى جنب مع ازدراء القادة في أوروبا والتسفيه بشأن رؤيتهم للصراعات (كما في أوكرانيا) واتهامهم بتقويض العملية الديمقراطية، فإن ذلك يفتح مجالا لتدخلات أميركية غير مسبوقة في شؤون أوروبا.

لا يعد هذا هو التناقض الوحيد الذي يطل برأسه في الخطة الأميركية. ففي حين تدعو الوثيقة صراحة إلى الانقلاب على نصف قرن من إعطاء منطقة الشرق الأوسط الأولوية على جميع المناطق الأخرى، بدعوى تراجع أهمية المنطقة للولايات المتحدة بسبب تنوع إمداداتها من الطاقة وتراجع نفوذ إيران، تعود لتؤكد أن لأميركا مصالح جوهرية في ضمان عدم وقوع إمدادات الطاقة من المنطقة في أيدي عدو مباشر، وأن يظل مضيق هرمز مفتوحا، وأن يبقى البحر الأحمر صالحا للملاحة، وألا تكون المنطقة حاضنة للإرهاب ضد المصالح الأميركية، وأن تظل إسرائيل آمنة.

لا تحدد الوثيقة كيف يمكن لأميركا تحقيق هذه الأهداف إذا اختارت الابتعاد عن المنطقة. والأهم أن ذلك الابتعاد يتناقض في جوهره مع سياسات أميركية راهنة على رأسها اقتراح ترامب فكرة إنشاء “مجلس إدارة لغزة” تحت إشراف أميركي، وهو تصور يُعيد إنتاج منطق “بناء وهيكلة الأمم” الذي تهاجمه الوثيقة الأميركية. لذلك، يرى محللون أن واشنطن لن تغادر المنطقة بقدر ما ستعيد تنظيم حضورها وتنتقل من الانخراط المباشر إلى إدارة النفوذ “عن بُعد”، مع الاعتماد بدرجة أكبر على شركائها المحليين. هذه الرؤية تبالغ في تعويلها على سياسات مثل الهدنة الهشة في قطاع غزة وإمكانية الوصول إلى ترتيب أمني بين سوريا وإسرائيل فضلا عن استئناف مسيرة التطبيع العربي الإسرائيلي وكلها سياسات غير مضمونة في أدنى الأحوال.

القلعة الحصينة
في المجمل، تعكس إستراتيجية الأمن القومي لعام 2025 واقعية إستراتيجية في بعض جوانبها، لكن تظهر قصور نظر بالغا في جوانب أخرى. تشير الخطة إلى مشكلات حقيقية تتعلق بمحدودية الموارد الأميركية وتكلفة الانتشار العسكري واسع النطاق والحروب الأبدية غير المجدية، ونقاط ضعف حقيقة في سلاسل التوريد، وتركز في المقابل على الأمن الاقتصادي، والنفوذ الجيوسياسي في المحيط الأميركي والحفاظ على الحضور في منطقة المحيطين الهندي والهادئ كمسرح الأحداث البعيد الأكثر أهمية، وكلها مواقف تنطوي على الكثير من المنطق الإستراتيجي.

ومع ذلك، ترتكب الإستراتيجية عدة أخطاء فادحة قد تُقوّض أهدافها حين تفتح الباب لاستعادة التدخلات الخشنة في أميركا اللاتينية وفق عقيدة مونرو، وتدخلات أكثر “نعومة” في شؤون الحلفاء مثل أوروبا الذين تتعامل معهم أميركا وفق علاقات تعاقدية بحتة، في حين ترسخ الانسحاب من المؤسسات العالمية، مما يقلل من نفوذ واشنطن في التعامل مع القضايا العابرة للحدود الوطنية.

ويبقى الخطر الأكبر للوثيقة هو ذلك الخلط بين المخاوف الأمنية بشأن أمن الحدود، ومرونة سلاسل التوريد، والجاهزية العسكرية، وبين المواقف الثقافية والأيديولوجية مثل معارضة الهجرة، ورفض العمل المناخي، والرؤى الضيقة للهوية الغربية.

في غضون ذلك يراهن ترامب على أن الولايات المتحدة قادرة على التحول إلى “قلعة حصينة” عبر الانسحاب خلف درع صاروخي وحدود أمنية صارمة، وترك بقية العالم يدير فوضاه، وأنها ستتمكن من الحفاظ على التفوق الاقتصادي، والقدرة على ممارسة النفوذ عالميا مع تقليص الحضور العسكري في الوقت نفسه.

إنها وثيقة لقوة متعبة آن لها أن تستريح، لكن لا أحد يعرف كيف تأمل واشنطن في إدارة هذا الكم من التناقضات التي وضعته على مائدتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى