أخبار عاجلةمقالاتومضات

كلهم عندهم…

لميس خديجة عسلي- كاتبة وعاملة اجتماعية (جمعية سند لصلاح الأسرة وبناء المجتمع)

عندما عاد أحمد من المدرسة اليوم، دخل فورًا لغرفته وأغلق الباب. لم يسلم على والدته ولم يقل لها أي شيء. انتفضت أم أحمد ما به طفلها؟ هل أذاه أحد؟ هل ضايقه أحد؟ أغلقت الحنفية وجففت يديها وذهبت مسرعة إليه. دقت الباب ودخلت. قالت: “ما بك يا حبيبي؟”. نظر أحمد بعينين حزينتين: “كلهم عندهم حذاء “اديداس” وأنا هذا حذائي”. احمرّ وجه أم احمد ودقّ قلبها بسرعة، ابنها يشعر بالحرمان، يشعر أنه أقل من غيره يا للمصيبة. وفورا دون تردد قالت: “اليوم سيكون عندك أجمل حذاء”. لبست ملابس الخروج ونادته واتصلت بزوجها لتخبره عن وجهتهم.

أسرعا الخطى ووصلا دكان الأحذية السحرية في حارتهم واشترت له حذاء “اديدس” فخما. وبينما هما عائدان من الدكان رأى أحمد صديقه رامي يركب دراجة كهربائية، وعندها التفت لأمه وقال: “كلهم عندهم درجات إلا أنا”. يا لمصيبتها ابنها يشعر إنه محروم، إنه أقل من غيره. استدارت وذهبا لدكان الدرجات واشترت له أجمل دراجة. وبينما هما عائدان وهو مسرور بالحذاء والدراجة اتصلت عمته وأخبرتهما أنه لديهم حفلة وقد اشترت لابنها حاسوبا جديدا هدية. وهنا نظر أحمد لأمه وقبل أن يتكلم قالت: “سيكون عندك أفضل وأغلى حاسوب”.

إذا نظرنا لسلوك أحمد ولسلوك أمه ماذا نفهم؟ أحمد يتصرف مثله مثل بقية الأولاد ينظرون للأشياء المحسوسة ويريدونها، طبيعة الطفل التي تريد كل شيء حولها، ولكن سلوك الأم هو الأهم هنا. فأي رسالة تمرر الأم لابنها بذهابها واقتنائها الحذاء، الدراجة ومن ثم الحاسوب؟ تتصرف من فهمها أنها لا يجب أن تحرمه من شيء يريده، بل أيضا لا تريد أن يرى ابنها نفسه أقل من الآخرين، وبالتالي تسارع لإعطائه ما يراه عند الآخرين.

إذا فكرنا جيدا بتصرف الأم سنرى الرسالة التي تمررها لابنها واضحة تماما لنا وله أيضا. الرسالة هي: “قيمتك هي من مقارنتك بالآخرين”. أي أن أحمد كإنسان خلقه الله لا قيمة له. قيمته التي يحصل عليها فقط إذا أصبح مثل الآخرين، ليس مثلهم فحسب إنما إذا امتلك ما يمتلكون، فالرسالة التالية التي توصلها الأم: “قيمة الإنسان بما يملك من أشياء مادية”.

وللأسف سيصبح الآخرون وما يملكون هو هدف أحمد، سيسعى دائما ليكون عنده أحدث سيارة، أحدث ساعة أحدث هاتف وملابس ماركات وأفخم بيت وأجمل امرأة، حتى لو اضطر لأخذ قرض من البنك، حتى لو اضطر للسرقة والنصب وبيع المخدرات والسلاح. لأن قيمته التي مررتها له الأم هي بمقارنته بما يملك الآخرون وليست قيمته بذاته، بأخلاقه، بدينه، بصفاته التي تميزه مثل الصدق المساعدة، التميز بالرسم أو بغيره من المهارات.       وهكذا تنشأ شخصية مهزوزة تماما تميل مع كل التيارات وبسهولة ُتقتاد لكل فعل خاطئ. لأنه يريد أن يكون مثلهم، المجموعة التي يحددها هو، مثلهم بأي شيء، بكل شيء، سيكون مثلهم بتصرفاتهم وما يملكون، سيصبح إنسانا بدون شخصية ولا قيم.

تتساءلون، ولكن ما الحل ماذا كان على الأم أن تفعل؟ الطفل يبكي ونظرة الحزن تقطع قلب الأم.

الحل هو: أن يكون لكل عائلة قوانين واضحة جدا ولا تخترق بالنسبة للمقتنيات والسلوكيات. لا أشتري لك لأن فلان اشترى، مثلا: نشتري ملابس عندما تحتاج، قانون في المنزل: لا نشتري هاتفا للطفل مهما كانت هناك ضغوطات من الطفل، بكاء إشعارنا بالذنب وغيره: نردد القانون بصرامة.

سيملّ الطفل عندما يرى أن لدينا مبادئ وقوانين نسير عليها ولسنا عرضة لضغوطاته وبكائه، نرجعه دائما لقيمه وأخلاقه، إن الحرمان هو حرمان الطفل من الأكل والحب والعناية الطبية، هذا هو الحرمان. أما أي شيء آخر ليس حرمانا إنما رعاية. فالوالدان مسئولان عن أولادهم يمنعانهم عمّا يريان أنه مضر لهم ويعطيانهم كل شيء بمقدار “أعطيك لأنك تحتاج وليس لأن فلانا اشترى”. رسالة مهمة أن نوصلها لأبنائنا.

الحرمان يفجر طاقات ابنك/ابنتك الابداعية. إذا منعته من الهاتف سيلجأ لألعاب أخرى سيبدع سيقرأ. إذا أعطينه كل ما طلب ستزداد طلباته ولن يشبع، والأمر من ذلك أنه سيشعر بالملل والاكتئاب، لأن الحرمان هو طاقة للإنسان تجعله يفكر كيف يتقدم، كيف يملأ وقته ويستكشف نفسه، أما إعطاءه ما يرديه دائما وبدون حدود هو إفساد له.

وأذكر هنا قصة لطيفة جدا مرّت عليّ في موقع “بنفسج” وهي قصة رجل الأعمال طلال ابو غزالة: كان طلال طفلا لاجئا في لبنان، وكان البرد هناك شديد جدا، وزّعت وكالة الغوث حرامات على الطلاب، ولكن للأسف لم يكن لأبي غزالة معطف يقيه البرد القارس في لبنان وظروفهم المادية لم تكن تسمح حتى بشراء الخبز. وكان يضطر للمشي لمدة ساعتين ليصل إلى مدرسته تحت البرد القارس، فما كان من والدته إلا أن صنعت له من الحرام معطفا. عندما ذهب للمدرسة سخر الأطفال منه وقالوا: “ترتدي حرام ههه” ما كان من الطفل إلا أن وقف وقال: “أنتم غيرانين مني أنتم لابسين جاكيت منظر أما أنا حاسس بالدفا أنتم لابسين جاكيت مسخرة بدفيش”. هذا الطفل قيمته لنفسه تنبع من أخلاقه ومبادئه وليس مما يقوله الآخرون عنه أو ما يمتلكه الآخرون ويريدون مثله. هذا الطفل اليوم هو رجل أعمال ناجح جدا ومشهور في الأردن.

الخلاصة: نحتاج قوانين في المنزل نسير عليها لا تخترق لأي سبب، وأن نزرع داخل الأطفال أن قيمتهم بأخلاقهم وعملهم وليس بما يملكون من أموال وأشياء. لنبحث داخلنا عن تميزنا وتميز أبنائنا.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى