أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

العام الجديد وحزمة الحشيش

الشيخ كمال خطيب

يومان اثنان يفصلان بيننا وبين أن نتحدث عن عامنا الذي نعيش 2017 بلغة الماضي وأنه العام المنصرم. ونتحدث عن عامنا القادم والذي لم يأت بعد 2018 بلغة الحاضر. هكذا هي الأيام والأعوام تمضي وتنقضي بل وتحترق سريعًا بسرعة احتراق سعف النخيل اليابس، وهذا ما يصدقه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الامام أحمد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر ويكون الشهر كالجمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كاحتراق السعفة “. وعليه فإنها جملة نصائح ووقفات وومضات لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

أنا وأنت وحزمة الحشيش

إن المسافر في قافلة من الجمال أو السيارات يريد الوصول إلى المدينة المنورة ثم إلى مكة المكرمة لأداء مناسك العمرة أو الحج أو أي رحلة أخرى، فإنه يمر على استراحات في الطريق فيها يرتاح او يتزود بالطعام أو الوقود، ثم إنه من الطبيعي أن يسأل العارفين كم قطع من مسافة ثم يسأل وماذا بقي من مسافات و كم تحتاج من الساعات للوصول؟!

هل يعقل أن ينتهي من عمرنا عام دون أن تكون نهايته محطة نجعلها ساعة تفكر وجرد حساب عما مضى من أعمارنا وماذا فعلنا فيه، وعما بقي لنا في علم الله من أعمار، وماذا يجب أن نفعل فيه؟!

إذا كنت تخطط لإقامة مشروع ولم تنفذه في هذه السنة فلعلك تنفذ في السنة التي تليها. إذا عزمت على فعل شيء في نهارك، فانشغلت فيمكنك أن تفعله في الليل أو في اليوم التالي. إذا أضاع الفلاح الموسم فلم يبذر فيه الحب، فإنه سيعوض ذلك في الموسم القادم. إذا رسب الطالب في الامتحان في الموعد المخصص له فإنه سيجتهد للنجاح في الموعد البديل، بل إنه إذا حدد أحدنا موعدًا لزفافه وحدث ظرف طارئ، فإنه قد يؤجل الزفاف للسنة القادمة. لكن إذا انقضى عمر الواحد منا من غير إعداد زاد للدار الآخرة فمن أين سيأتي بعمر بديل يعوض فيه ما فاته. يقول المرحوم الشيخ علي الطنطاوي: ( نحن كلما ازداد عمر الواحد منا سنة في العد، نقصت من عمره سنة في الحقيقة، حتى ينفذ العمر ويأتي الأجل ونستقبل حياة أخرى تبدأ بالموت ).

إنك لا تجد أحدًا إلا ويتحدث عن المستقبل الذي يريد أن يطرق بابه وأن يهيأه لنفسه أو لأولاده، إنه يريد أن يبني لهم مستقبلًا واعدًا وهولا يدري أن المستقبل شيء لا وجود له، لأنه إذا جاء فإنه سيصبح حاضرًا. يقول فضيلة الشيخ الطنطاوي كلمات تنطبق عليه وعليك وعلى كل واحد منا إن هو كان صريحًا وصادقًا مع نفسه: ( لما كنت طالبًا كان مستقبلي في نيل الشهادة، فلما نلتها صار مستقبلي في الوصول الى الوظيفة، فلما وصلت اليها صار المستقبل في بناء الأسرة وإنشاء الدار وإنسال الولد، فلما صارت لي الدار والزوجة والأولاد والأحفاد صار المستقبل في الترقيات والعلاوات و المال المدّخر ثم في الشهرة والمجد والكتب والمقالات، فلما تم لي ذلك كله بفضل الله لم يبق لي مستقبل أفكر فيه إلا أن ينور الله بصيرتي و يريني طريقي. فاعمل للمستقبل الباقي وللآخرة التي أنا غافل عنها. فالمستقبل في الدنيا شيء لا وجود له، إنه يوم لن يأتي أبدًا لأنه إن جاء صار حاضرًا وطفق صاحبه يفتش عن مستقبل آخر يركض وراءه. إنه مثل حزمة الحشيش المعلقة بخشبة مربوطة بسرج الفرس تلوح أمام عينيه فهو يعدو ليصل إليها، وهي تعدو معه فلا يدركها أبدًا. إن المستقبل الحق والوعد هو في الآخرة. فأين منا من يعمل له؟ بل أين منا من يفكر فيه ).

نعم إن ما يجري مثل الحصان خلف حزمه الحشيش فلن يدركها تمامًا مثل الذي يجري خلف سراب فإنه سيظل يجري ويجري ولن يناله إلا التعب دون أن يجد الماء، وهكذا هي الحياه الدنيا { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرًا ثم يكون حطامًا وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } آية 20 سوره الحديد.

لا تسافر في الدرجة الممتازة

إن من الناس بل إنهم أكثر الناس مَن كُلُّ هَمِّهِ أن يستمتع في حياته الدنيا بكل وسيلة دون أن يحسب حساب للآخرة ولسان حاله يقول ” ان الله غفور الرحيم” أو يقول ” ليوم الله يفرجها الله” إنه لا يأخذ من الحكمة الرائعة( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا )، إنه لا يقرأ إلا الشطر الأول منها، فهو يعمل لدنياه ويستمتع بها كأنه يعيش أبدًا وأنه لن يموت أبدًا.

إن مثل هؤلاء كمثل شاب قرأ وسمع عن مستوى الخدمات التي تقدم لمسافري الدرجة الأولى في الطائرة،لقد ادّخر له والده مالًا من أجل دراسته في إحدى الجامعات خارج البلاد، أما صاحبنا فإن همه كان مشغولًا بخدمات الدرجة الأولى، الطعام الطيب، المقعد المريح والخدمات المميزة، فحجز لنفسه مقعدًا في الدرجة الأولى لكن ثمن التذكرة كان غاليًا جدًا وقد استهلك أغلب المال الذي ادّخره له والده.

انتهت الرحلة وانتهت ساعات المتعة والراحة، ليجد نفسه بعد ذلك بلا مال ولا طعام يهيم على نفسه في الطرقات، ينام في الشارع وقد ضاعت عليه دراسته التي من أجلها خرج وسافر. إنه استمتع لساعات وشقى لسنوات. ألم يكن الأجدر به لو تحمّل بعض متاعب السفر في الساعات القليلة وركب في الدرجة الثانية وادّخر المال ليتعلم به ويشتري به راحته لسنوات مديدة. هكذا هي الدنيا، سنوات خمسون أو ستون أو سبعون أو أكثر أو أقل ثم تمضي وتنقضي. ما الفائدة إذا كانت كلها نعيم وجنان ومتع من غير طاعة ثم بعد ذلك شقاء وعذاب وخلود والعياذ بالله في النار!!

ألا يجدر بالواحد منا أن يتذكر أننا من هذه الدنيا راحلون، وأن مثلنا كمثل جمع غفير من الناس التقوا في صالة المطار ثم أصبحت موظفة المطار تنادي: الركاب المسافرون في رحلة كذا على خطوط كذا الرجاء التوجه إلى الباب رقم كذا، فقام جمع من الناس وبقي آخرون، ثم نادت مرة ثانية: الركاب المتوجهون إلى دولة كذا على الرحلة رقم كذا على الخطوط رقم كذا فقام جمع من أناس ومعهم حقائبهم وذهبوا وبقي آخرون. نعم هكذا هي الحياة الدنيا إنها التي سنرحل عنها جميعًا، والعاقل هو الذي يجعلها دار ممر للدار الآخرة وليست هي دار مقر، وأن تكون حقيبة زاده من العمل الصالح والطاعات جاهزة وممتلئة.

كم هي معبرة قصة ذاك الشعب الذي كان ينصّب عليه ملكًا لمدة خمس سنوات لكنه كان يعلم من قبل شعبه أنه بعد سنوات ملكه فإنه سينفى إلى صحراء قاحلة، ولأن بريق الملك يغري ولأن تاج الملك يخطف الأبصار والعقول، ولأن المكاسب والمتع والمنافع والمصالح الشخصية والعائلية التي سيحققها خلال السنوات الخمس كانت كبيرة جدًا، فإنها كانت تنسيه بل وتعميه عن حقيقة أنه بعد ذلك النعيم كله فإنه سيذهب إلى صحراء قاحلة تنسيه وحشتها وقسوتها كل النعيم والرفاهية التي عاشها وسيقضي عمره كله في تلك الصحراء.

راح ملك وجاء آخر وكل واحد منهم كان يعيش رفاهية الملك ومكاسبه، حتى إذا اقتربت نهاية سنواته الخمس وإذا به يضرب يدًا بيد ويندم على قبوله ذلك العرض. وماذا يفيد الملك إذا كان بعده المهانة وقسوة العيش وشظف الحياة، فكأنه في حالة يتبدل من فرح إلى حزن ومن ابتسامة إلى أسى وكآبة.

لكن ملكًا من هؤلاء وقد قبل العرض وتولى الحكم مثله كمثل من سبقوه، سوى أنه اختلف عنهم أنه لما اقتربت نهاية ملكه كان سعيدًا بل ويزداد فرحًا، بل إنه كان يتمنى انقضاء مدة ملكه سريعًا، فلم يكن حزينًا ولا مهمومًا ولا خائفًا كمن سبقوه من وحشة الصحراء التي تنتظره، ومن الذل والهوان الذي سيلاقيه بعد سنوات العز. فلما سألوه عن سبب فرحه وليس حزينًا قال لهم: تعالوا معي. وسار بهم نحو الصحراء التي ستكون مقر عيشه بعد سنوات الملك، وإذا بها جنة خضراء بساتين وحقول وأزهار وثمار وآبار. صعقوا من هول ما رأوا، أما هو فقد قال لهم: إنني كنت أعلم حتمية مصيري في هذه الصحراء فبعثت العمال والفلاحين ليعمروها ويوصلوا إليها الماء ويحفروا الآبار ويزرعوها بالزروع والأشجار لأقضي فيها بقية حياتي. إنني كنت أعلم أن السنوات الخمس ستنتهي مهما كانت سنوات رفاهية وعيش رغيد فاشتغلت بالإعداد لما بعدها.

هكذا حال الدنيا عند العقلاء، إنها لا تغريهم بنعيمها ومتاعها ورغد عيشها لأنها ستنتهي بالموت، بل إنهم الذين وفي هذه الحياة فإن عيونهم على الآخرة يعمرونها ويهيأون من صالح الأعمال والطاعات ما يجعل كل آخرتهم جنات ونعيمًا وليس نارًا وجحيمًا أو تلك الصحراء في مصطلح تلك القصة الرمزية.

ارحموا من يذوب رأس ماله

إن العام الذي يلفظ ساعاته الأخيرة هو عام بلغة المنطق قد نقص من عمرك ومن رأس مالك، وأن من يحتفل بعيد ميلاده العشرين أو الثلاثين يطفئ الشموع ويوزع الكعك ويفرح مع الأصدقاء كما يفعل البعض، فلا أتردد بالقول إنه غبي وبالحد الأدنى لا يفكر بما يفعل. بربكم هل هذه سنوات تُزداد إلى عمره أم أنها نقصت من عمره وأنه خسرها من رأسماله الزماني الذي أعطاه الله إياه؟. ويا للعجب أننا نسمع عمن يفرح لخسارته ونقصان رأسماله!!.

إن الإنسان العادي يحزن إذا خسر جزءًا من ماله، ولعله يقاتل من يريد أن يسلب منه بعضًا من رأسماله النقدي الذي رزقه الله إياه. إنه ومهما كان غنيًا فلا يرضى إذا سقط منه شيكلًا أو دينارًا أرضًا أن يتركه، إنه يحني قامته ويتناوله لأنه لم يأت إلا بتعب وسهر ومعاناة، إنه لا يرض بل لا يمكن أن نرى عاقلًا كل صباح يلقي شيكلًا أو دولارًا في الشوك أو الوحل. ولكن ما بالنا كلّنا نضيّع يومنا وشهرنا وسنتنا، ما بالنا تنقص سنة من أعمارنا فنفرح ونرقص ونوزع الكعك بينما إذا ضاع الشيكل نبحث عنه. لماذا نهتم برأسمالنا النقدي فلا نضيعه مع أنه بالإمكان تعويضه بينما لا نهتم برأسمالنا الزماني مع أنه يستحيل تعويضه، فالعام الذي مضى لن يعود أبدًا.

كم هي جميلة ومعبرة قصة الإمام الأصمعي وهو يحدث نفسه قائلًا: بينما أنا يومًا في السوق في بغداد، وإذا بي أسمع مناديًا ينادي ويقول: أيها الناس ارحموا من يذوب رأسماله. يقول الأصمعي وهو عالم اللغة وعالم الشريعة المشهور: إلا أنني لم أفهم مقصد المنادي. سمعت كثيرًا من ينادي لبيع البطيخ ومن ينادي لبيع التفاح وغيره وفهمت، أما من ينادي ويقول ارحموا من يذوب رأسماله فلم أفهم ما يبيع فتوجهت نحو مصدر الصوت وإذا به رجل يضع قوالبًا من الثلج على طاولة خشبية ويبيع الناس ثلجًا، ولأن الثلج سرعان ما يذوب فإنه كان يحث الناس على شرائه لأنه هو رأسماله، فإذا ذاب الثلج وتحول إلى ماء فقد ذاب رأسماله وضاع.

يقول الأصمعي: والله لقد فهمت أكثر يومها وأنا أرى الماء يسيل تحت الطاولة وقد بدأ الثلج يذوب قول الله تعالى { والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} سورة العصر.

نعم إن كل يوم يمر وكل شهر ينتهي وكل عام ينقضي، هو جزء من رأسمالك الذي يذوب وتخسره، فأحسن استغلاله قبل أن يذوب واجعله طريقك إلى الدار الآخرة، إلى الجنة بإذن الله تعالى.

فما أجمل أن تفعل ما يفعله التاجر نهاية كل عام حيث يحصي محتويات متجره ويقدر بدقة رأسماله ويراجع ما له على الناس من حقوق وما عليه من ديون لتجار الجملة الذين يشتري منهم، إنه يحصي ذلك ليرى وليقيّم تجارته هل هي رابحة أم خاسرة. فما أجمل أن تكون مثل ذلك التاجر وأنت وأنا نودع عامًا ونستهلّ عامًا جديدًا، فإذا كان العام الذي مضى 2017 قد ضاع فعوض ذلك في العام 2018. وإذا كان العام المنصرم عام ذنوب ومعاصٍ فاجعل عامك العام القادم طاعات واستقامة وصلح مع الله تعالى، وإذا كان العام 2017 عام صولة للباطل فادع الله أن يجعله عام صولة الحق والفرج وانتصار الإسلام، وإنني موقن أنه سيكون كذلك بإذن الله تعالى.

نعم لا تقلقوا على مستقبل الإسلام، فإنه مستقبل مشرق واعد ومنصور بإذن الله، ولكن خافوا على أنفسكم أن تضلوا بعد هدى وأن تعصوا بعد طاعة وأن تنحرفوا بعد استقامة.

فيا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك، وارزقنا حسن الختام. اللهم آمين.

رحم الله قارئا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى