أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

جدليات الدين والسياسة، الداخل الفلسطيني كمثال

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

 هذه سلسلة من الأوراق أكتبها في جدل العلاقة بين الدين والسياسة، في حالتنا نحن أبناء الداخل الفلسطيني وقد كانت دوافع هذه الكتابة تلكم الحملة التي يشنّها بعض من فئات العلمانيين وبعضٌ آخر من المحسوبين على المشروع الإسلامي، يسيرون شططا ويخبطون خبط عشواء في أحداث سياسية تلبست ثوبا دينيا، إمّا بسبب من يطرحها على اعتبار أنه إسلامي، أو كون بعض المنظّرين لعديد الطروحات الجديدة على القوى السياسية تصدر من شخصيات محسوبة على المشروع الإسلامي، إذ ظنَّ هؤلاء المنتقدون أن السياسة خُلِقَت لهم وأنهم أهلها، وأن الاسلاميين ليسوا أهلا لخوض غمارها، فتجردت أقلام أتباعهم تضرب ميمنة وميسرة، محتكرين الصِدقِية في القول والعمل الوطني، وكأنهم هم الوطنيون وقد خلقوا لها وما عداهم ليسوا كذلك، بل تنطح لهذا من ينضح تاريخهم بغير ذلك، لذلك أكتب هذه الاوراق أولا لأبناء المشروع الإسلامي حتى يقفوا على أرض صلبة في فهم العلاقة بين الدين والسياسة ضمن فهمي المتواضع لجدل هذه العلاقة المُؤَسس قرآنا وسنة وإجماعا. وأكتبها للمؤمنين بالفكرة الاسلامية وأنها تعلو ولا يُعلى عليها ولأبناء الداخل الفلسطيني عموما.

إذا كان للعلمانية تفسيرها للسياسة ووضعت لها تصورات ورؤى ونظريات ومنظومات، استحالت إلى مقدس في منظور جيش من علماء السياسة والفكر، فإنَّ الإسلام قد وضع مفهوما جليا للسياسة وتنوعت الدراسات القرآنية والحديثية والفقهية والكلامية والفلسفة، في النظر إلى السياسة، وتشكّلت في الموروث الاسلامي مدارس تناولت السياسة ضمن معادلات التدبير والحكم، وشهدت القرون الثلاثة الأخيرة طفرة في دراسات العلاقة بين الدين كمقدس والسياسة كسلوك بشري، سواء تأسس على أقوال المُقَدَس أو على اجتهادات بشرية، تطورت من نصوص فقهية كتبها كبار العلماء المؤسسين كالأئمة الأربعة، وغيرهم من كبار العلماء، أو صدرت عن متكلمين وفلاسفة، ولذلك فالسياسة، فهما وممارسة، نحلتنا نحن الاسلاميون من يوم بزوغ فجر هذا الدين، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وإذا كانت العلاقة قد حسمت في الخطاب المؤسس بين الدين والسياسة، بوصفها علاقة قائمة بين المقدس والاجتهادي، وبلغة أخرى بين الإلهي والإنساني، باعتبار الدين منسوبا إلهيا، والسياسة منسوبا بشريا، فإنّ العلاقة تبعا لذلك، تستحيل بين المطلق والنسبي، وبذلك تتخلق مساحات الاجتهاد البشري في تنزيل المقدس الالهي الى البشري، لتحقيق الحق والعدالة وإن بنسبية، تبعا للجهد البشري القائم على أساسات الفهم ابتداء، وعليه فإنَّ كلَّ من يزاود علينا في هذا الموضوع أو يفتعل الأسئلة بينهما مثله كمثل حاطب ليل أو ضارب عصاه في بحر سحح فهل يخرج منه من شيء. ولست هنا في هذه الاوراق بصدد إثبات هذه العلاقة وجدلياتها، فمحلها الآلاف من الكتب والأبحاث والدراسات لمن أراد الزاد، ولقد أبدع المعهد العالمي للفكر الاسلامي في تقعيد وتثوير هذه العلاقة، كما فعل ذلك عددُّ من الفلاسفة والمفكرين من بينهم على سبيل المثال لا الحصر، طه عبد الرحمن ونظريته الائتمانية.

إن المساعي التي يقوم بها طغاة العرب اليوم للفصل بين الدين والسياسة تأسيسا على منظور كنسي معطوب، وتأسيسا على رؤية علمانية مغشوشة- كاتب هذه السطور من اتباع المدرسة القائلة إن العلمانية هي النتاج الشرعي للعلاقة بين المسيحية كدين والدنيا كساحة حياة، ولعبت التفاعلات التاريخية دورا مهما في هذه العلاقة، وظهور البروتستانتية والكلفانية التي أسست للذرائعية في إطار الحداثة الأوروبية، وشكّلت الدفعات الرئيسية لتشكيل ديناميات المشروع الرأسمالي، ومن بعدّ مدارس فكرية علمانية مختلفة، ويرى أن العلمانية كما تخلقت في تجلياتها الأخيرة هي دين، كما الرأسمالية والماركسية التي تناسلت عنها، كما الإنجيلية وما تناسل عنها من مدارس دينية داخل المسيحية الواسعة. لتبيان بعض ما أقول يمكن للقارئ العودة على سبيل المثال لا الحصر إلى كتاب الفيلسوف ماكس فيبر: رسالة بروتستانتية أخلاقية، وكتاب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، الاستشراق، وكتاب برايان ترنر ماركس ونهاية الاستشراق، وكتاب المفكر السوري غريغوار منصور مرشو: مقدمات الاستتباع، الشرق موجود بغيره لا بذاته..) تبين بوضوح تخوفهم من العلاقة بين الدين والسياسة إذ في جدل العلاقة وما ينجم عنهما من علاقات ومحايثات لا مكان لهؤلاء الطواغيت والعملاء، وإن حاجَجَنا فريق بتاريخنا السياسي وما حدث فيه من عطوبات من بعد السقيفة وإلى يومنا هذا.

لماذا الداخل الفلسطيني

لا يخفى على العديد من المراقبين والمتابعين، أن أبناء المشروع الاسلامي انقسموا إلى فريقين بسبب السياسية وممارساتها، وليس بسبب جدل العلاقة بينهما، إذ الإجماع قائم على العلاقة وضرورات إخضاع السياسة للدين، بيدَ أن الخلاف كان في ماهيات الإخضاع وجدلياته، وكيف يجب أن يكون، وهو ما نجم عنه من قضايا تتعلق بالكنيست والتصويت والترشح، وممارسة العمل السياسي تحت سقفها، وكانت اجتهادات فريق آثر العمل تحت سقف الكنيست، وما ينجم عن ذلك من فلسفة وممارسة وتداعيات، وآخر آثر العمل السياسي ضمن حاضنته الشعبية، وفي هذه السياقات كانت مآلات أدت الى حظر الحركة الاسلامية التي آثرت العمل السياسي خارج الكنيست، وبقيت حركة قائمة تعمل سياسيا تحت سقفها، ولأن الحركة الاسلامية كإسم وعنوان، ليس مرتهنا لفرد أو لجماعة أو لفصيل أو لطرف، فهو ميراث ثبت واقعا مُعاشا بفضل التضحيات التي قدمتها أجيال تلو أجيال من أبناء المشروع الإسلامي، الذي آمن بخط هذه الحركة التي جمعت بين الدين والسياسة قولا وممارسة، ودفعت أثمانا باهظة من سجن واعتقال وقوافل من الشهداء في سجون الظلمة والطواغيت من أجل حماية هذا المكتسب، فإنّ الحد الاخلاقي الادنى يتطلب الوقوف عند عتبات هذه الظاهرة، ظاهرة العمل السياسي تحت ظل الكنيست لا من أجل متعة النقد وشبهاتها، بل من أجل إحقاق الحق الأخلاقي في أن الحركة الاسلامية التي هي جزء من المشروع الاسلامي ليست حِكرا على فريق بعينه.

وفي هذا السياق، وانا أكتب هذه الاوراق فإنني أضع خمس تنبيهات، منعا للقيل والقال والالتباس في الرؤية والمفهوم، سيجد القارئ في ثنايا كتابتي بعضا من إلقاء الضوء على سلوكيات علمانية صدرت وتصدر من بعض الاسلاميين ممن يزاولون السياسة، وهذا لا يعني مطلقا اتهامي إياهم بالعلمنة والتعلمن والعلمانية، فالعلمانية موضوع لا بد من طرقه خاصة في عصرنا وحاضرنا حيث تهيمن الرقمنة وأدوات التواصل، وتغلب المكننة وسيولة الشهوة على اختلاف معانيها، وثانيا أحترم اجتهاد كل ممارس للسياسة من أبناء المشروع الإسلامي، وعندنا أن ما يجمع أبناء هذا المشروع، راهنا ومستقبلا، أكبر بكثير من خلافات طرأت لأسباب معينة خضعت لاجتهادات، قد تتغير تبعا للظروف الموضوعية التي تأتت بسببها تلكم الاجتهادات، وثالثا لا أحل لعلماني مناوئ للدين أو معطوب الفكر والرؤية، أن يجعل من هذه المقالات سندا يشجب به علينا نحن الإسلاميون أو يفرح بما أكتب، وأنا إذ أكتب هذه السلسة، فقد امتثلت مطالع سور عبس والانبياء وآيات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتكون لنا نبراسا منيرا، ورابعا فإن الاختلاف فيه قيم التنوع والتعدد والتلاقح في الافكار والطروحات، وهو ما يؤدي إلى تحقيق ثنائيات المدافعة والكسب، ولست ممن يؤمن بالخلاف الذي مظنته التعارض والصراع، هذه قناعاتي مع غير الإسلاميين، فكيف مع حملة ودعاة المشروع الإسلامي، وأمّا التنبيه الأخير فهو التأكيد على أنني إذ انطلق في طروحاتي من رؤيتي وقناعاتي الاسلامية المنطلقات، فأنا لست محتكرا للحقيقة، وإنما هي قراءات تسعى لحفظ ماء وجه المشروع الاسلامي وحملته ليس لنا فحسب، بل وللأجيال القادمة فنحن أيام والفناء بانتظارنا ونكتب حتى لا يُقال ذهب المشروع الاسلامي بحظر الحركة الإسلامية، والحظر حظر إسرائيلي، وهو موقوت، زمانا ومكانا، فيما الأفكار والقيم والاخلاق التي نادت بها الحركة الاسلامية متجاوزة للزمان والمكان، هذا ومعلوم لكل ذي لب أن الأفكار والقيم والأخلاق لا تموت ولا تعتقل، تحاصر وتذوى قليلا ثم تعود أقوى وأصلب عودا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى