أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات
قوة الحضارة لا حضارة القوة
الشيخ كمال خطيب
تتفاوت الأمم والشعوب فيما بينها في سعيها لتثبيت ذاتها وللاستحواذ على موقع لها في قائمة الأمم والشعوب، وفي محاولاتها لترسيخ وجودها كأمة وشعب له دوره وتأشيرة على ما حوله وفي المحيط الذي تعيش فيه.
فمن الأمم من تسعى للانطلاق نحو المستقبل وإلى الأمام، منطلقة ومندفعة من قوة رصيدها التاريخي وإرثها الحضاري، الأمر الذي يعينها لا بل إنه يسهّل عليها فرض نفسها على الواقع لتكون رقمًا صعبًا لا يمكن تجاوزه أو اختزاله. إنها تفرض نفسها على الآخرين متسلحة بعناصر قوتها الحضارية وموروثها الفكري والديني والأخلاقي والعلمي والاجتماعي.
نعم إنها تحتل مكانتها في الحاضر وتشق طريقها للمستقبل من خلال عمق بصماتها التي طبعتها على سلوك أبنائها الآخرين، وباختصار فإنها تعتمد وتنتهج قوة الحضارة.
وعلى العكس من ذلك تمامًا فإن هناك أممًا وشعوبًا تسعى لحشر نفسها للاستحواذ على موقع لها في خانة الأمم دون أن يكون لها رصيدها الحضاري ولا موروثها الفكري ولا الأخلاقي ولا العلمي. إنها تسعى لتحصيل مكانتها وتحصين موقعها معتمدة على عناصر القوة والبطش والعدوان التي بواسطتها تنتزع حقوق الآخرين وتستولي على حيّزهم الجغرافي والبشري والاقتصادي بل وعلى كل شيء. إنها التي تعلم أنها لا تستطيع فرض نفسها برصيد تاريخي ماض ولا ببصمات حضارية سابقة، ولا بمزايا وخصائص إنسانية هي ابتكرتها، فتجدها تعتمد سياسة القوة لإثبات ذاتها وفرض شخصيتها وهو ما يعرف بمنطق القوة وحضارة القوة.
إنهما خياران إذن إما قوة المنطق وقوة الحضارة. أو منطق وحضارة القوة. وإنها جملة أمثلة نستدل بها لبيان تأثير قوة الحضارة الإيجابي مقابل التأثير السلبي لحضارة القوة.
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا
لقد احتل الرومان الكاثوليك بلاد مصر التي يسكنها أهلها الأقباط المسيحيون، لكن الرومان اعتمدوا منطق حضارة القوة والقهر والعنف حتى مع إخوان الدين، حتى أن أهل مصر الأقباط قد ضاقوا بهم ذرعًا وحاولوا قتالهم والخلاص منهم ومن ظلمهم وإذلالهم لكرامتهم وسرقة خيرات بلادهم، بل إنهم سعوا لمسح هويتهم الدينية عبر نشر الكاثوليكية على حساب القناعات الأرثوذكسية القبطية. وخلال هذه المعاناة كانت جيوش الفتح الإسلامي قد انطلقت من قلب الجزيرة العربية متسلحة ليس بالسيف والرمح وحضارة القوة وإنما متسلّحة بقوة الحضارة والموروث الفكري والحضاري الذي جاءت به رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا بأقباط مصر وقد رأوا الفارق بين المنطقين والحضارتين، منطق القوة وحضارة القوة يمارسها الرومان المسيحيون وبين قوة المنطق وقوة الحضارة يمارسها العرب المسلمون. ففتح الأقباط قلوبهم قبل أن يفتحوا أرضهم للمسلمين وهم يسمعون عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للقبطي الذي جاء يشتكي إليه أن ابن عمرو بن العاص قد ضربه بعد أن سبقه في ميدان الخيل قائلًا له: أتسبق ابن الأكرمين؟ فكانت جملة عمر الشهيرة وهي تبين ملامح قوة الحضارة وهو يقول للقبطي محفزًا إياه أن يضرب ابن عمرو ابن العاص قصاصًا قائلًا له: “اضرب ابن الأكرمين، يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا”.
يوم أسلم الوحوش
لقد زحفت جيوش التتار المغول نحو بلاد المسلمين وهي تحمل الموت الزؤام ولا تعرف إلا القتل والخراب والتدمير، وما فعلته في بغداد عام 1258 مما سطرته الكتب من وحشية أصبحت مضرب الأمثال. لقد جاؤوا معتمدين على منطق وحضارة القوة التي تميزوا بها وأتقنوها ولم ينظروا إلى المسلمين إلا نظرة الاستعلاء والاستحقار والإذلال. ومن عادة القوي والمحتل أن يحتقر ويزدري بكل ما له علاقة بالأمة وبالشعب الذي أصبح تحت سطوته وقبضته، دينه وفكره وكل شيء عنده.
فكيف إذن ومن أين كانت الدوافع أن التتار وبعد هزيمتهم في عين جالوت عام 1260 وقد نزلت بهم قاصمة الظهر على يد الظاهر بيبرس وقطز، ومع أن المفترض والطبيعي أنهم وهم الكارهون أصلًا والحاقدون أصلًا على الإسلام والمسلمين وهم المنتصرون أن يستمروا على ذلك، بل أن تزداد كراهيتهم وحقدهم بعد هزيمتهم في عين جالوت، فكيف إذن وما هو الدافع بل ما هو السر في دخولهم في الإسلام واعتناقهم له، وقد تكونت لهم بعد ذلك ممالك وإمارات دافعت عن الإسلام بل نشرته بين ربوع شعوب أخرى؟!!!
إن الجواب على ذلك لا يحتاج الى فلسفة كثيرة ولا إلى تحليلات معقدة، وإنما الجواب يكمن في كون قوة حضارة المسلمين وموروثهم العقائدي والفكري والأخلاقي قد اخترق قلوب ونفوس هؤلاء التتار لتحوّلهم من الوثنية إلى الإيمان، ومن المعتدين المفسدين إلى حملة رسالة النور والهداية ينشرونها في العالمين. نعم لقد انتصرت قوة الحضارة على حضارة القوة.
وما انطبق على التتار فإنه قد انطبق قبلهم على الإفرنج الصليبيين بعد معركة حطين. صحيح أن أعدادًا قليلة منهم قد دخلت في الإسلام، ولكن كثيرين ممن كتبت لهم الحياة وبعد أن رجعوا إلى بلادهم فقد رجعوا يحملون معهم سلوكيات وعادات وأخلاق اكتسبوها من المسلمين مما كان لهما أعظم الأثر في التغييرات الإيجابية التي ظهرت على أوروبا بعد القرون الوسطى وهي مما ذكرتها وعددتها المستشرقة الألمانية زيغرد هونكة في كتابها الرائع “شمس العرب تسطع على الغرب”.
أنا إسمي مريم وليس صوفي
إن من فطرة الإنسان وطبيعته أن يعيش حرًا سيّد نفسه، وأن يمقت ويكره كل من يسلبه هذه الحرية ويعتدي عليه بأي وسيلة كانت. وغالبًا ما تكون حرية الفرد أو الشعب رهينة منطق وحضارة القوة التي تفرض على إنسان أو على شعب بأكمله، وليست تسلبه فقط حريته بل تسلبه مقدراته وثرواته.
فما هو السر وراء أن مسلمين وقعوا في أسر كفار ومستعمرين فكانوا سبب إسلامهم. نعم كان الأسير سبب إسلام آسره، والمسجون سبب إسلام سجّانه والأمثلة كثيرة. والأعجب من ذلك أن الأسير غير المسلم كان يتأثر إيجابًا من أخلاق آسره المسلم ويدخل في دينه. وليس بعيدًا ما حصل مع الفرنسية “صوفي بترونين” التي اختطفت في مالي مدة خمس سنوات وكانت تعمل في جمعية إغاثية (غالبًا ما يكون العمل التبشيري تحت غطاء أعمال إغاثية) لكن هذا لا يبرر الاختطاف وأخذها رهينة وهو موقف لا نتردد بالصدح فيه كما فعلت ذلك جماعات مسلحة هناك. وكان اللافت والغريب أنه وبعد الثورة الشعبية التي حصلت في مالي قبل أشهر قليلة وقد تغير الحكم، وكان من إفرازات ذلك حصول مفاوضات لإطلاق سراح تلك الرهينة والتي جاءت طائرة خاصة لتنقلها إلى باريس ليستقبلها في المطار ليس إلا الرئيس ماكرون بلحمه وعظمه، حيث كانت صدمته عند مدرج الطائرة عندما قال لها مرحبًا بها: “أهلًا صوفي” فقالت له: “أنا لست صوفي أنا إسمي مريم، وأنا مسلمة”. وكانت تلبس الحجاب ليظلّ ماكرون على دهشة وصدمة جعلته لا يتكلم ببنت شفة.
نعم إن من عادة الرهينة أن تكره من يرتهنها، ومن عادة المختطف أن يتوعد بالانتقام ممن اختطفه، ومن عادة الأسير أن يتمنى يوم إطلاق سراحه ليكون له جرد حساب مع آسره، فكيف يكون العكس كما حصل مع تلك الرهينة الفرنسية وقبلها مع شخص أمريكي في أفغانستان؟!
نعم وبالعودة للتأكيد على رفض الخطف للرهائن إلا أن تأثير سلوك المختطفين وممارساتهم كانت تقف وراء هذا التغيير الجذري، ليس في سلوك بل في عقيدة من كانوا رهائن تحت أيديهم.
وهل مثال أعظم من تأثير قوة الحضارة على حضارة القوة من قصة الفتيات الجزائريات اللاتي اختطفن وهن صغيرات من بيوت أهلهن ونقلن إلى دير في فرنسا وذلك لمزيد من غسل الدماغ والتنشئة على معتقدات وسلوكيات غير تلك التي نشأن عليها. ومضت سنوات على ذلك حتى كان اليوم الذي أعدّ فيه الحاكم العسكري الفرنسي احتفالًا حضره رئيس الوزراء الفرنسي، وقد أراد من خلاله أن يظهر نتائج جهوده ليس في احتلال عسكري وإنما في مسخ هوية الجزائريات، فكانت فقرات الاحتفال تتضمن خروج هؤلاء الفتيات على المنصة بالملابس الفرنسية الفاضحة، لكن المفاجأة كانت بأن أولئك الفتيات قد خرجن بثياب جزائرية تقليدية محتشمة جعلت الحاضرين في حالة ذهول لا تقل عن ذهول الرئيس ماكرون أمام الفرنسية التي أسلمت، وقد صدرت الصحف الفرنسية مقتبسة جملة للحاكم العسكري يرد فيها على منتقديه قائلًا: “ماذا أفعل إذا كان القرآن أقوى من فرنسا”. نعم إنها قوة الحضارة تنتصر على حضارة القوة.
تجارنا وتجارهم
إن قوة الحضارة والرسالة التي كان يحملها التجار المسلمون والتي ظهرت في معاملاتهم التجارية وأمانتهم وعدم غشهم ووفائهم بالوعود واللين والسماحة في المعاملة واستغلال ذلك كله للحديث عن الإسلام والدين الذي آمنوا به. كل هذا كان سببًا في دخول أمم بأكملها في الإسلام كما حصل مع أهالي الهند وإندونيسيا وماليزيا وحتى الصين. إن تلك البلاد لم تفتحها جيوش ولا سيوف، وإنما فتحتها ألسن صدق وأخلاق وسلوكيات أبهرت أهل تلك البلاد فحرّكت فيهم الخير للاستجابة للإسلام، وهذا هو منطق قوة الحضارة وتأثيره.
بينما رأينا على العكس من ذلك تمامًا كيف كانت حضارة القوة في ذراعها التجاري والمالي سببًا في مآسي ونكبات ودماء.
نعم إن ما حصل لليهود في أوروبا خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر من مآسي ألمّت بهم حيث كانت ترتكب مجازر وتهجير لهم من دول أوروبا كما حصل معهم في بريطانيا وفرنسا وألمانيا حيث كان يتم تهجيرهم بعد انتشار أمراض السلّ والملاريا والطاعون حيث الادّعاء بأن النحس قد نزل بتلك البلاد بسبب اليهود، وهو في الحقيقة حالة غيظ وحنق وكراهية كان سببها احتكار التجار اليهود وأصحاب المال منهم للأسواق حيث استخدام الربا والقروض كسلاح بيد التجار اليهود والأثرياء عانى منهم سكان وأهل تلك البلاد، فكانت فرص الانتقام تقود إلى تهجير ومجازر يرتكب بحقهم.
ولعلّ من أسباب ما حدث في ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية مما يردّه الكتّاب والمؤرخون إلى كراهية وبغضاء كان سببها حالة الاحتكار والسيطرة على أسواق المال بيد الأثرياء اليهود الذين كانوا يسكنون في حارات وأحياء خاصة بهم، فانقلب ذلك إلى كراهية وحقد من قبل سكان تلك البلاد ومع أنه غير مبرر لكن نتيجته كانت بما سطره التاريخ من محارق ومجازر. إنه الفارق إذن بين قوة الحضارة استخدمها تجار مسلمون ففتحوا قلوب وبلاد غيرهم، بينما هي حضارة القوة استخدمها تجار يهود فأغلقوا قلوبًا بل كانت سببًا في نكبات نزلت بهم. إنه الفارق إذن بين قوة الحضارة وحضارة القوة في وجه من وجوهها.
لقد اعتمدت فرنسا منطق حضارة القوة عبر التمادي والتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الرد الذي لم تتوقعه عبر قوة الحضارة متمثلًا في هذا المخزون من الحب والوفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين. ولقد اعتمدت أمريكا منطق حضارة القوة ضد الهنود الحمر فطمست هويتهم وأبادتهم لأن قوة الحضارة في بعدها الإيماني والروحي كانت غائبة عندهم.
وها هي إسرائيل البنت المدللة لأمريكا تعتمد نفس منطق القوة في صراعها وعدوانها على أمتنا وشعبنا. إنها إسرائيل التي تضرب بعرض الحائط كل المواثيق والأعراف الدولية حيث منطق القوة قد أعماها عن رؤية الماضي الذي يزخر بالأمثلة والنماذج عمّن اعتمدوا منطق القوة وحضارة القوة من أمم وشعوب لم تكن نهايتهم إلا على مزابل التاريخ.
الشجاعة المزعومة
لقد صدق أبو مسلم الخولاني فاتح بلاد خرسان حينما سئل بسبب خبرته في الشعوب لكثرة ما قاتل وما خاض من معارك، فقيل له يا أبا مسلم: أي قوم رأيتهم أشجع. فقال أبو مسلم الخولاني: “كل قوم في إقبال دولتهم شجعان”.
إن مظاهر الشجاعة التي تحاول إسرائيل أن تلبسها لجنودها وقياداتها إنما مردّه ليس الشجاعة الحقيقية المتأصلة فهذه قد فضحهم الله فيها لمّا قال سبحانه {لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ} آية 13 سورة الحشر. وقال {لَاْ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} آية 14 سورة الحشر. فما هذه الشجاعة المزعومة إلا بسبب ضعف وذل وهوان وجبن من يقابل ذلك في الطرف الآخر من مسلمين ما عادوا ينتسبون إلى حضارتهم القوية إلا بالإسم.
لم يتردد نتنياهو أن يقول خلال نشوته بتوقيع اتفاقية التطبيع مع الإمارات أن هذا السلام قد حققته القوة التي تتمتع بها إسرائيل حيث استثمر تلك القوة بكسب دبلوماسي وسياسي واقتصادي تمثل في موجة تطبيع واندلاق من أنظمة عربية وإسلامية حيث عرّاب ذلك كله هو ترامب الذي لا أكثر من كونه يتعامل وفق منطق القوة والعربدة والبلطجة وقد فرضها فرضًا على حكام الخليج.
إن منطق وحضارة القوة قد أتت على كثير من الأمم، وقادت كثير من الشعوب إلى حتفهم، وقد مرّغت أنوف مشاهير وأبطال في مستنقعات الهزيمة، لكن يبدو أن إسرائيل التي اعتمدت وما تزال منطق القوة لم تتعلم الدرس، بأن هذه السنّة تجري عليها. إنها تتجاهل أن شعبنا وكل شعوب أمتنا هي التي حتمًا ستنتصر طالت الأيام أم قصرت، لأنها تنتمي إلى أمة الإسلام ذات الحضارة القوية وذات الانتماء الأصيل الذي يضرب بجذوره في عمق التاريخ.
وعليه فإن نتيجة المنازلة التي تدور الآن بيننا نحن أصحاب منطق قوة الحضارة وبين أصحاب منطق حضارة القوة، هي نتيجة معروفة ومحسومة بإذن الله تعالى، لأن البقاء للأصلح لا للأقوى، وما أجمل ما قاله الشاعر:
واشنطن من مكة ذرة وباريس من طيبة كالهباء
من مكة شعّ نور الهدى ومن تل أبيب شاع سفك الدماء
وإن غدًا لناظره قريب..
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا…
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون


