أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (2).. فلسطين في العهد العثماني (1)

حامد اغبارية
إن مما يؤسف له، بل إنه السقوط الأخلاقي والتاريخي والأكاديمي والفكري أن تجد بين ظهرانينا من أبناء شعبنا؛ سواء تيارات سياسية ذات فكر علماني (بكل توجهاته)، أو أكاديميين من الذين يزعمون أنهم يبحثون في صفحات التاريخ عن الحقيقة، من يكرر مقولة إن العثمانيين احتلوا بلاد المسلمين ونشروا فيها الظلم والفساد. والأنكى أنك تجد من يصدقهم دون تمحيص ودون نظر في التفاصيل والحقائق، وهذه من أشد المصائب التي أصابت أمتنا وشعبنا في مقتل. ولعل ما نحن فيه الآن ما يدل على هذا، فهو من آثاره ومن تبعاته.
وقد ذكرت في المقال السابق أن العثمانيين لم يحتلوا البلاد، بل انتقلت إليهم انتقالا شرعيا أقرته الأمة بأبنائها وعلمائها وفقهائها.
فهل كانت بلادنا فعلا تحت احتلال، كما يزعمون، أم كانت في ظل حكم إسلامي عاشت فيه أربعة قرون كما عاشت قبله، في ظل الخلافة العباسية، ثم المماليك، وما سبقها من عصور إسلامية بدءا من فترة خلافة الفارق عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟
دخلت فلسطين تحت الحكم العثماني سنة 1516، زمن السلطان سليم الأول. وتذكر كتب التاريخ أن السلطان سليم الأول بعد أن هزم المماليك في معركة مرج دابق، توجه إلى بيت المقدس، وصلى ركعتين لله خارج أسوار المدينة، ثم دخلها سِلما، حيث استقبله أهلها وفي مقدمتهم علماؤها وأشرافها استقبال الفاتحين، مرحبين مهنئين، وسلموه مفاتيح المدينة، في مشهد يقارب ذاك المشهد التاريخي العظيم الذي مثل دخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فهل هذا حال من يقعون تحت الاحتلال؟!!
كانت مدينة القدس بالنسبة للسلاطين العثمانيين درة التاج، يهتمون بها اهتمامهم بالحرمين الشريفين؛ مكة المكرمة والمدينة المنورة، حتى أن السلطان سليمان القانوني (ابن سليم الأول) جعلها في رأس سلم أولوياته لدى تسلمه الحكم بعد والده، فعمّرها تعميرا لم تعرفه من قبل، وحصّن أسوارها ورمم ما تهدم منها على أيدي الصليبيين، وزاد عليها، وأنشأ فيها المساجد في سائر حاراتها، وبنى فيها المدارس، حتى بلغ عدد مدراسها داخل الأسوار 69 مدرسة، إضافة إلى نحو 40 زاوية تعليمية، إضافة إلى المدرسة الرئيسية داخل المسجد الأقصى المبارك. وقد عمل السلطان القانوني كذلك على تطوير مدينة خليل الرحمن ومسجدها الإبراهيمي، وسائر حاراتها، ومعها نابلس وغزة.
نحن لا نزعم إن العثمانيين كانوا معصومين، ولا نقول إن كل الفترة التي عاشتها بلادنا تحت حكمهم كانت صفحاتها مشرقة، بل شهدت صعودا وهبوطا، وهذا الوضع كان مرتبطا بوضع الامبراطورية العثمانية في العموم، فلما كانت الدولة تعيش أزمات داخلية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، كانت سائر البلدان تتأثر بذلك، بما فيها فلسطين، وكان الوضع العام يلقي بظلاله على سائر الناس في جميع الأمصار. وهذا يعني أن ما كان يجري على اسطنبول وسائر بلاد الأتراك، كان ينعكس على بلاد العرب أيضا، فلم يكن ما تعانيه فلسطين وسائر بلاد العرب نتيجة لممارسات “احتلال”، وإنما كونها جزءاً من الحالة الإسلامية في أنحاء الإمبراطورية العثمانية، تماما كما عانت في عصور سابقة في أواخر العصر العباسي على سبيل المثال. فهل كان العباسيون محتلين أيضا؟!! لا يمكن بحال من الأحوال القول إن البلاد كانت تحت احتلال، حتى لو عاشت في بعض الفترات ظروفا صعبة وعصيبة. فتلك الظروف كانت شأن جميع البلدان، ولم تكن خاصة ببقعة جغرافية معينة. وعلى ذلك هناك فرق بين أن تناقش كناقد في سلبيات الفترة العثمانية من منطلقات موضوعية، وبين أن تبث سموم الحقد على كل ما له علاقة بالحكم الإسلامي في منطقتنا، من منطلقات عصبية رافضة أصلا لهذا الحكم، وتبحث في ثنايا التاريخ عن سقطات هنا وهناك، أو أخطاء هنا وهناك، لتصم الحكم الإسلامي بها وتطعن بأحقيته وتشوه صورته، وكأنها هي الأصل وهي السائد. فالرفق واضح بين المشهدين.
ويكفي الخلافة العثمانية شرفا أنها عملت على حماية فلسطين من الهجرة اليهودية، والتي ما كان لها أن تقع لولا تآمر المتآمرين في بلاد الاستعمار الغربية، ومعها عملاء من العرب الذين اختاروا طريق خيانة الأمة وقيادتها الممثلة بالخلافة، ونقضوا عهودهم طمعا في مُلك زائل لم يحصلوا عليه في نهاية الأمر.
يكفي الخلافة العثمانية شرفا أنها وقفت في وجه غزوات الإسبان والبرتغاليين الاستخرابية على البلاد العربية، وخاصة في شبه الجزيرة العربية وشمال إفريقيا، وبذلت في سبيل ذلك الدماء والأموال.
ويكفي الخلافة العثمانية شرفا أنها قاومت حتى الرمق الأخير استعمار الانجليز والفرنسيين وسائر دول الغرب الأوروبي، وأخّرت سقوط البلدان العربية في براثن هذا الاستعمار الدموي الذي نهب ولا يزال ينهب خيراتها حتى هذه اللحظات.
ويكفي الخلافة العثمانية شرفا أنها تصدت بكل قوة للمد الصفوي في بلاد المسلمين، وخاضت حروبا طاحنة أمام الصفويين حتى تمكنت من حماية بلاد المسلمين في هذا المشروع، الذي نرى اليوم بقاياه تنخر في جسد الأمة، فكيف لو أنها تمكنت وتحكمت ودانت لها البلاد والعباد؟
ويكفي الخلافة العثمانية شرفا أنها حمت بلاد العرب تحديدا من الزحف المغولي ومن الغزو الصليبي، ووحدت بلاد العرب ولمّت شتاتها تحت حكم واحد هو حكم الخلافة الإسلامية.
ويكفي الخلافة العثمانية شرفا أنها رفضت منح اليهود موطئ قدم في فلسطين، حتى أن آخر الخلفاء، السلطان عبد الحميد الثاني دفع ملكه ثمنا لهذا الموقف الإسلامي الأصيل. فقد كان سلاطين العثمانيين يدركون تاما الإدراك أن فلسطين تحديدا وبلاد الشام عموما كانت على مدار التاريخ مطمعا لأعداء الأمة، ولذلك سخّرت الخلافة العثمانية جلّ مقدراتها لحماية هذه البقعة المباركة من عبث العابثين وغدر الغادرين وعيون الطامعين. وقد تعامل العثمانيون مع القدس على أنها من أقدس مقدسات المسلمين لا يجوز التفريط بها أو إهمالها أو تركها مسرحا لمؤامرات الغزاة، ولذلك كانت مرتبطة إداريا ارتباطا مباشرا مع عاصمة الخلافة، دون سائر بلاد الشام. وكان الناس في بلادنا يشعرون أنهم جزء من الأمة الإسلامية، يعيشون في وطنهم عيشة مواطنة متساوية مع سائر أبناء الأمة، وكان لهم، كسائر بلاد العرب، ممثلين في مجلس المبعوثين (البرلمان) أسوة بإخوانهم الأتراك. وقد عاشت بلادنا في تلك الفترة حال الدولة كلها، فتقدمت وتطورت في فترات عزها، وتراجعت في فترات تراجعها شأنها شأن سائر الأمصار، بل في فترات العصور الذهبية في الدولة العثمانية حظيت بلادنا بمعاملة خاصة ميّزتها عن سائر بلاد العرب سواء في العمران أو التعليم أو الأوقاف أو الاقتصاد. وما شهدت فلسطين تراجعا حقيقيا إلا مع بدء فترة تسلط جمعية الاتحاد والترقي على الحكم في الدولة العثمانية، وعاشت الامبراطورية حالة من المؤامرات التي قادتها قوى خارجية صليبية وصهيونية، مستعينة بعملاء أمثال جمال باشا الذي تقدم ذكره في المقال السابق، وظاهر العمر الذي سيأتي ذكره في مقال قادم بحول الله تعالى. (يتبع).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى