أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

كيف ننهض؟.. هبّة القدس والأقصى من المدّ الشعبي إلى الاختراق التفكيكي

حامد اغبارية
ما الذي حدث عام 2000 ولا يحدث اليوم؟ ما الذي دفع الجماهير إلى الخروج إلى الشوارع غضبا قبل تسعة عشر عاما، ولا يدفعها اليوم للخروج بنفس الهمة والنَّفَس ومستوى الغضب اليوم؟
هذه أسئلة تحتاج إلى دراسة في الطريق إلى الخروج من حالة الأزمة التي نعاني منها.
ومن البداية يمكن القول إنه خلال عقدين من الزمن حدثت أمور ووقعت أحداث أشد خطرا وأكثر حدّة مما كان عام 2000. فما الذي أصابنا إذاً؟ لماذا حدث هذا التراجع المقلق في التفاعل مع قضايانا، وعلى رأسها قضية القدس والمسجد الأقصى، مع أن الأذى الذي سببه أرئيل شارون عام 2000 يحدث مثله اليوم أضعافا مضاعفة؟
هناك طرفان للمعادلة؛ طرف نقف نحن فيه، وطرف تقف فيه المؤسسة الرسمية الإسرائيلية.
وفي طرف المعادلة الذي يخصنا نقرأ فتورا في التعاطي مع الملفات الساخنة، واستسلاما لحالة الضعف، وتسليما بواقع فرضته الحالة السياسية المتردية التي نعيشها.
هل فقدنا الثقة بقدرتنا الجماهيرية على تغيير الواقع؟ نعم!
هل فقدنا الثقة بالقيادة التي تقود المشهد؟ نعم!
هل أصابنا بالخوف من تقديم التضحيات؟ نعم!
هل أصبحنا عاجزين عن تحريك المياه الراكدة؟ نعم!
والسبب؟! أين يكمن السبب في هذا كله؟
الإجابة ليست بالبساطة التي يمكن أن تتبادر إلى الأذهان.
لقد تسبب أداء القيادة، المتمثلة أساسا بلجنة المتابعة، في فقدان الثقة الجماهيرية بها، من حيث أنه لم يكن أداء مقنعا أولا، ولم يكن أداء يعبر عن وحدة الموقف ثانيا. فقد شهدت القيادة أيضا تحولات خطيرة في الكثير من المفاهيم الجمعية التي يُفترض أنها يجب أن تميز الحالة الفلسطينية في الداخل. وأصبح لدينا مشروعان متناقضان: مشروع يدعو إلى الحفاظ على الهوية والانتماء، ومشروع يعمل على الدمج والأسرلة. وهذا المشروعان لا يمكن أن يلتقيا على قضية مفصلية كقضية القدس والمسجد الأقصى المبارك.
كانت هبة القدس والأقصى حدثا تاريخيا ومفصليا ضخما وهائلا بكل المعايير، فجاء خلال تسعة عشر عاما من يضعُ العصا في العجلات ويعيق استثمار ذلك الحدث لتغيير واقعنا وتوجيه بوصلتنا إلى الوجهة الصحيحة. وللأسف الشديد فإن الذين وضعوا العصا في العجلات هم جزء من القيادة. هذه حقيقة يُفترض ألا يختلف عليها اثنان ولا ينتطح عليها عنزان. وهذا سبّب حالة من الارتباك والإرباك والتقاطب الشعبي، حتى أصبحنا وكأننا نعيش في عالمين مختلفين، مع أن الألم واحد، والجرح واحد، والهم واحد. ولكن يتضح من متابعة الحالة أن الهدف لم يعُد واحدا، بل أصبح أهدافا متنافرة، تتجاذبها أجنداتٌ الكثيرُ منها لا يصب في مصلحة مجتمعنا، بل يصب في مصلحة أصحاب تلك الأجندات.
ولقد أدى فقدان الثقة الشعبية لا أقول بالقيادة كأشخاص ولكن بقدرتها على أداء ما هو متوقع منها، أدى إلى التراجع الجماهيري والنكوص الشعبي في التفاعل مع أية قضية تدعو القيادة إلى التفاعل معها، مهما كانت تلك القضية ذات حجم كبير كقضية شهداء الهبة، وقضية الأقصى نفسه، وقضية العنف وغير ذلك من القضايا. وإلا فكيف نفسر المشاركة الهزيلة في حدث كحدث إحياء ذكرى الهبة والشهداء؟ وكيف نفسر المشاركة الهزيلة في ذكرى يوم الأرض؟ وبماذا نفسر هذا التنافر وذلك التقاطب في مظاهرات يوم الأرض، بدوافع المواقف المتناقضة من قضايا سياسية؟ إننا حتى لم نعد قادرين على الالتزام بوحدة الشعارات؟ فكيف نحن ووحدة الموقف؟ كيف نحن ووحدة الممارسة؟
لم يعد الجمهور مهتما بكافة القضايا ذات الوزن، لأنه وجد قيادة ذات أداء ليس على مستوى الأحداث. وقد رأى هذا الجمهور، على سبيل المثال، تعاطي القيادات والتيارات السياسية مع ذلك الحدث الخطير وغير المسبوق الذي تمثل بحظر الحركة الإسلامية عام 2015، فقرأ الرسالة بشكل جيد. قرأ فيها أن القيادة باتت تتعامل مع الأحداث الكبرى تعاملها مع القضايا الصغيرة، بل تتعامل معها كقضايا عابرة. وقد رأينا كذلك تعاطي القيادات مع قضية البوابات الإلكترونية في المسجد الأقصى عام 2017، ونحن نرى اليوم مَن هم الذين يدفعون الثمن جراء المواقف الحقيقية والأصيلة من تلك القضية، ومَن هم الذي غرقوا في الأسرلة والاندماج وأغرقوا معهم شريحة واسعة من الجمهور.
وهذا له علاقة بالطرف الآخر من المعادلة-المؤسسة الإسرائيلية. فقد تمكنت السلطات خلال تسعة عشر عاما من إحداث اختراق في جدار مناعتنا، سعيا إلى تفكيك مجتمعنا وتفتيت إرادتنا الجماعية وإضعاف حصانتنا، عبر إشغالنا بقضايا خطيرة مثل قضية العنف وانتشار السلاح والمخدرات والإفساد الأخلاقي وإشغالنا بقضايا خلافية مثل قضية الشذوذ الجنسي، والتركيز على قضية الخلاف حول انتخابات الكنيست الصهيوني ما بين مؤيد ومقاطع. وقد حققت في ذلك نجاحا كبيرا، حتى بات أحدنا لا يطيق الآخر الذي يخالفه الرأي، ويرميه بأوصاف لم نكن قبل عقدين من الزمن نجرؤ حتى على مجرد التفكير بها، مثل العمالة والخيانة والتكفير والتطرف. وهذا وضع يثير القلق، خاصة وأننا لا نضمن أن يتوقف عند هذا الحد، بل قد يكون له ما بعده وأسوأ منه.
إننا مطالبون قبل كل شيء بالعمل على الحفاظ على هويتنا وعلى حصانة مجتمعنا، وعلى تقوية إرادته، وعلى مناعته الفكرية والسياسية والاجتماعية والوجودية. وهذا لا يمكن تحقيقه في حالة التقاطب والتنافر الحالية التي تسبب لنا أزمة حقيقية يسهل من خلالها توسيع رقعة الاختراق الجارية في جدار وعينا الجمعي. المطلوب منا-رغم الاختلافات الطبيعية في خلفياتنا الايديولوجية-الفكرية-أن نتصرف كجسم واحد في مواجهة الحالة التي نعيشها. وإن لم نفعل الآن، فإننا سنكون غدا أكثر عجزا. فالزمن كما هو كفيل بعلاج كثير من القضايا، فإنه أيضا يشكل عنصرا سلبيا في علاج القضايا، إذا ما أجَّلنا ما لا يصح تأجيله.
إننا في هذه اللحظات نعاني من حالة انفصال عن قضايانا، لأننا نعيش حالة انفصام هوياتية، سببها حالة الانقسام السياسية ما بين التوجه إلى الأسرلة وما بين التوجه إلى الفلسطنة. ويكذب عليك من يحاول خداعك وهو يقول لك: لا تناقض بين الأسرلة (التي يسميها بمسميات لا تعكس حقيقتها، مثل المواطنة والمشاركة في اللعبة السياسية الإسرائيلية من بوابة الكنيست وتحصيل الحقوق اليومية الخ) وبين الانتماء إلى الشعب الفلسطيني. هذه معادلة لا يمكن تحقيقها لأنها قائمة على أسس باطلة. فإما أن تكون هنا وإما أن تكون هناك. أما أن تلعب على كل الحبال فهذا مشهد عبثي يشكل سببا رئيسا في حالة الانهيار التي نعيش.
ما العمل إذاً؟ هل نترك الأمور تسير كما هي دون أن نتحرك؟ هل نبقى في خانة التلاوم، ومربّع توجيه التهم للقيادة بالتخاذل تارة، وبالضعف تارة ثانية، وبالعجز تارة ثالثة وبالخذلان تارة رابعة، يرافق ذلك بث روح التشاؤم والسوداوية وإشاعة مفهوم أننا بقيادة كهذه لا يمكن أن نغيّر؟ ما هو المطلوب؟ وما دورنا نحن كشعب؟
أمامنا عدة خيارات أستثني منها خيار إلقاء التهم على القيادة، فهذا لا فائدة منه، ونتائجه مدمرة.
فإما أن نتحرك جماهيريا لرفع مستوى إداء القيادة من خلال السقف الجامع (المتابعة)، وذلك بأن نشكل كشعب وكمجتمع حاضنة لها، تقويها وتشد من أزرها وتشعرها بأن خلفها شعبٌ يثق بها، وعليها هي أيضا أن تثق به، وذلك من خلال التفاعل الحقيقي والواسع من قراراتها ومع الخطوات التي تتخذها. وإما أن نتحرك جماهيريا ونعمل على تغيير المتابعة واستبدالها بقيادة تستجيب للمطالب وتكون على مستوى الحدث، وهذا يتحقق إما باستبدال هذا الجسم كليا، وإما بإنعاشه من خلال انتخابات مباشرة تفرز قيادة جديدة حقيقية تعبر عن إرادة الجمهور. وإما أن نبقي الحالة كما هي عليه الآن، وهذا هو الانتحار الحقيقي…
وفي كل الخيارات فإن الحراك الشعبي هو الأساس وهو المحرك. فالقيادة عندما تجد جمهورا متفاعلا فلا بد أن ترتقي هي تدريجيا في الأداء وفي الآليات، وبحاضنة شعبية حقيقية يمكنها أن تكون أكثر جرأة في الخطوات التي يمكنها اتخاذها.
أخيرا، علينا جميعا، قياداتٍ وجمهورا أن نتجاوز حالة الخوف التي نعاني منها: الخوف من الثمن الذي يُمكن أن يُدفع كما دُفع عام 2000، والخوف من التغيير الذي يمكن أن يكون هو أيضا له ثمن. علينا أن نخرج من قوقعة الأنا (الفردية والحزبية)، إلى المساحات الواسعة التي تمنحها لنا قاعدة الهمّ الجماعي التي تتجاوز الأفراد والأحزاب والفئات والأطر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى