أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

مع بدايات عام هجري جديد.. مســــــلم المستقبل

صالح لطفي-باحث ومحلل سياسي

ندخل الى العام الهجري الجديد والكثير من الاسئلة لمَّا تتم الاجابات عليها بعد وفي مقدمتها اسئلة المستقبل وأين نحن من الانهيارات الحاصلة في راهن مجتمعاتنا العربية، سواء تعلق الأمر بردتها الأخلاقية أو الردة الدينية أو الردة السياسية التي تعيشها على أكثر من صعيد، فردي ومجتمعي، دولُّ وكيانات وجماعات وأفراد.
نحن نعيش أسوأ مرحلة مرت على الأمتين العربية والإسلامية منذ البعثة النبوية وإلى هذه اللحظات، فالاستعمار عشش وفرخّ في بلاد العرب والمسلمين، وبات العرب على هامش الفعلين الإنساني والحضاري، بل وأضحت بلادهم موطئ قدم لكل قواد أثيم وصار يتحدث باسمهم كل رويبضة وفاجر، وتنكروا أشدّ التنكر لا لدينهم فحسب بل ولعروبتهم التي كان أبا جهل عليها.
فواقع العرب اليوم أشد بؤسا من أيام رضوخهم للإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، بل ها هي الصورة تتكرر وتقارب ذلك الزمان الما قبل إسلامي.
فمن أمعن النظر في لباس وزي وحيوات العرب قبل الاسلام أيام جاهليتهم الاولى سيجد مقاربات تكاد تتطابق في بعض الأمور، وما الوشم للشباب والفتيات والأشناف التي توضع على الشفة او يقرط بها جزء من جسد الفتاة وبعض الشباب، والأقراط وإبراز القلائد في اقدام النساء وابراز مفاتن الجسد العلوي الا مثال يعايشه الجميع.
واقعنا المعاش سياسيا يشي أن العرب قد تم تقسيمهم سياسيا بين إيران وإسرائيل، وأخذ هذا التقسيم العمودي بُعدا أفقيا مجتمعيا منذ الحرب الايرانية-العراقية، حيث بات العرب بتقاسيمهم السياسية ملونين بين اسرائيل وايران، والقليل القليل من حافظ على خطه الاسلامي المستمد من الاصول والمرجعيات الاسلامية (المرجعية الاسلامية اليوم هي الكتاب والسنة والمورث الفقهي والشرعي والفكري\الفلسفي والكلامي الذي توارثته الامة والذي يسميه البعض الموروث الاسلامي مستثنيا منه الفلسفة وعلم الكلام وأضيف على ما ذكرت آنفا ما أبدعته العقول الاسلامية في القرن الاخير وخاصة منذ اوائل القرن الثالث عشر الهجري والى هذه اللحظات).
فعرب اليوم في ظل فقدانهم ذاتهم الفكرية والحضارية باتوا طرائق قِددا بين محتم بإسرائيل ومحتم بإيران وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا وكلا الفريقين الصفوية الايرانية والاسرائيلية الصهيونية، لا يهمهم إلا مصالحهم وكيف يستولون على مقدرات هؤلاء العرب، بعد أن نهبت ثرواتهم أمم الغرب تحت شماعات حمايتهم فهذه الدول فقدت الفعل الحضاري بسبب تشققها الجغرافي وفقدانها الوحدة بعد إذ تم تخليق دول غير قابلة للحياة إما بسبب قلتها البشرية أو بسبب قلة ارزاق ارضها أو لاجتماع السببين، ثم أوكل هذا الاستعمار لهؤلاء الأقنان أن يستولوا على التاريخ ويعودوا القهقرى إلى ما قبل الإسلام، ويناصرهم بذلك جيش من العملاء الفكريين ممن تتلمذوا في مدارس برلين وباريس ولندن وموسكو وواشنطن، فأصبحت الدولة المصرية تربط تاريخها بالفراعنة، ولبنان بالفينيقيين وسوريا بالتدمريين والعراق بالبابليين، وهكذا فانتكست الامة العربية أيما انتكاسة وزاد واقعها سوءا بعد ثورة الربيع العربي والهجوم الوحشي عليه من مثلث إيران والعرب والغرب، ذلك أنهم تحسبوا من عودة الى وحدة الجغرافيا والتاريخ والتراث فيعود العرب ليقودوا الحياة مجددا لكنَّ المُبَشِرَ بما حدث أن هذا التوحش هو توحش مادي وقد استقر بنفسية أمة العرب إلا من ارتبط بهؤلاء الأقنان أن هذه مرحلة ستمر حتى لو وطنت ايران اشياعها في سوريا فمن قبل حدث في تاريخنا مثل هذه الحادثة وكل يجري الى قدر مسمى.
ومن لطائف الأحداث رغم شدتها أن بات العرب في بلاد الرافدين والشام يدركون حجم العلاقات العلنية والسرية بين ثالوث يحكمهم مدعوم من ثالوث خارجي يرقب حركة الشعوب لا النخب أو الحكام. مثلث إيران الصفوية واسرائيل الصهيونية وحكام العرب، ومن خلفهم، محور موسكو-بكين ومحور باريس-برلين ومحور واشنطن-لندن، وكل هذه المحاور تتحسب من لحظة قادمة باتت دراساتهم وأبحاثهم تتطرق إليها باستمرار تحت مسميات الاسلام السياسي والاسلاموية ويمثله المسلم الحركي، مسلم المستقبل.

مسلم المستقبل..
وبناء على هذه المرجعيات يقيس مسلم المستقبل المُدرِكٌ لتضاعيف الحياة واستشكالاتها الواقع المُعاش، لا تغره مظاهر سياسية نابتة تسقى من عين فاسدة ولا تعميه ألوان سياسية براقة يحسبها الظمآن ماء حتى إذا جاءته لم تجده شيئا سوى سرابا يزيد الامر ضِغْثُّ على أبالة، ولا تجمح به العاطفة ميمنة وميسرة، بل يستمد رؤيته من نظرات عقلية مجردة مصدرها فقه الواقع المبني على أسس صلبة ثابتة وعلى تلكم الاصول التي أشرت اليها وقاعدته في ذلك “وتلك الايام نداولها بين الناس” وأعمدتها ثلاثة: استعداد عقلي لفهم لحظة “التداول” يسبق حدوثها، واستعداد نفسي وعقلي للتعامل مع لحظة التداول من غير تنازل عن ثوابته وقيمه وقناعاته مهما كانت الاثمان التي ستدفع، والثالثة الاستعداد النفسي والقلبي والعملي للعمل بعد انتهاء لحظة التداول، وعماده في هذه الحيثية الهامة والدقيقة، روحه المؤمنة التي لا يساورها شك بأن المستقبل لهذه الأمة التي تتمثل به هو ومن معه من المؤمنين بالفكرة، وهذه النفوس المجتمعة هي الطليعة المُرتقبة التي يخبئها القدر للحظة ما بعد لحظة التداول، وفي هذا السياق عينا تدرك هذه الطليعة أنَّ أول سيف سُلَّ بالإسلام كان بسبب السياسة والحكم والرياسة، ويدرك أن مقتلات كثيرة حصلت في تاريخ أمتنا بسبب النزاع على السلطة وهذا الادراك هو الكابح الاخلاقي والسياسي والنفسي لاستيعاب سنن الخلاف والاستخلاف وسنن التحولات الشرعية والقدرية وسنن التمكين والتقدير (من تقدير الشيء لا من القَدر) تماما كما يدرك جدل العلاقة القائم بين الخطاب الشرعي والخطاب القدري وما بينهما من علاقات تدفع في السياقات السننية لتحقيق ذاك التمكين.
إنّ هذه الروح المؤمنة بما ذكرت آنفا تتمثل الفكرة واقعا ومنهجا وهي تعلم يقينا أن اجتماع القوة والامانة في الناس جدٌّ قليل، وهو ما ينسحب على القائد والقيادة وبناء على هذا الفهم المستوعب لواقعنا البشري اللحظوي كطلائعيين، نتقدم الى تلكم اللحظة الما بعدية التي هي لا محالة قادمة، وإن تغشاها ما تغشاها، من نبت حرام يسعى لخنقها ظنا منه ووهما أنه قادر على قتلها، وبهذه النفسية يتقدم مسلم المستقبل بما يملكه من اعتزاز بنسقه الحضاري الاسلامي الجامع بين العمل البشري والشرعي ليقود الحياة، وهو أهل لهذه القيادة.
وهذا المسلم الطلائعي القادم “مسلم المستقبل”، ينهل معرفيا من تراثه الذي ذكرت غير متناسيا لواقعه المُعاش وما يدور فيه من فكر وعمل وفي هذه المسيرة المتسمة بانها مسيرة بشرية يصيب فيها ويخطئ يحقق منجز التوبة المفروض عليه شرعا عبر نقله من طوره الشرعي إلى طوره القدري فهو إذ يخطئ ويصيب في العمل، أيا كان هذا العمل ترافقه التوبة إذ الخطأ والصواب هما صنو التجربة وبها- أي بالتجربة- يحقق إمكان التوبة ليس على مستواه الشخصي فحسب بل وعلى مستوى البيئة التي يعمل معها أو/ و من خلالها وبذلك يقارب تمام العمل وكماله ويحقق عبر التوبة مبدئية “الصواب”، ومسلم المستقبل يعلم أنه لن يقبض ناصية هذا المستقبل ليقود الحياة الا من خلال ثلاثيات التعلم والعلم والعمل، فهو دائما يتعلم وبهذه الخصيصة يحقق مبدأ التواضع وإنكار الذات ويصبو الى الإحسان ليس بوصفه عبادة فحسب، بل بوصفها تقانة يحقق بها رغد الحياة له ولمن يعيش معهم مهما كان دينهم وملتهم، وهو بهذه النفسية والعقلية ليس بدعا من تاريخنا الاسلامي وإن كان لا يعيبه ذلك وهو إذ يتقدم ليقود العالمية الاسلامية الثانية موحدا الامة العربية التي تنادى البعض يوما انها أمة واحدة ذات رسالة خالدة، فإذا هي أمم وطوائف وشلليات تعتاش على فتات الغرب وتمارس دورا وظيفيا، وقد أوهمها يوما أنه يحمي قفاها من اسرائيل وايران ومن يقف خلفهم ومعهم في لعبة أمم تقوده دول الكبار السبعة.
مراكمة التجربة الإنسانية..
أقول هذا المسلم، مسلم المستقبل يجمع بين العلم والتجربة ويحقق منجزا يُراكم به تجربة إنسانية واعية، بغض النظر من أي حقول العلوم والمعارف قادمة، تماما كما فعل أسلافه من قبل، يوم ترجموا علوم اليونان فحذفوا وأضافوا وما انكروا لذي حق حقه، فالمسلم يعتبر نفسه شاهدا على هذا الإرث الانساني وعلى هذا العالم، ليس بفعل ومن باب العلو والاستعلاء الذي جاءنا به الاستعمار فاستحمر من استحمر من شعوب الأرض، سارقا مقدراتها وتراثها، بل برسم أنه “الانسان” الذي جاء ليخبر البشرية المُعَذبة أنها إنسانية، تشترك جميعها بغض النظر عن لونها ولغتها ودينها قيم الكرامة والسيادة والحرية والمساواة والاخوة والعدل والمسؤولية، لتحقق التكافل الاجتماعي الضائع اليوم وتحقق سيادة الانسان كإنسان على هذه الارض التي جيء به ليستعمرها.
مسلم المستقبل يدرك جيدا حجم الاحمال والتبعات المنوطة به والتي يجب عليه حملها، إذ الامانة جد ثقيلة وتحتاج الى علم وعمل يقارفهما الصبر والمصابرة والمرابطة كأسس للفلاح المرتقب وبهذه الوسيلة الحاضرة يتجاوز مفاوز الهفوات والنوبات التي تعتور أمتنا اليوم ووقوعها في عين الإثم وبابتعاد مسلم المستقبل عن الملهيات- وما اكثرها- يحتاج إلى نوع من الزهد، زهد عن كافة مرغبات الحياة وملهياتها، وهو يعلم أنّ الفارق بين الزهد والبخل في هذه اللحظات الراهنة جدُّ جذري ودقيق لكنه الصبر الذي يليه الفرج وقد يطول الزهد في هذه اللحظات الراهنات كافة مجالات الحياة المادية والعصرية، وذلك تمهيدا منه ذاتا وجماعة لاستقبال اللحظة القادمة لحظة الما بعد، لحظة: “نداولها بين الناس”، فهؤلاء الناس قد أخذوا حظهم القدري وما أحسنوا القيادة، وما أحسنوا صنعا وها قد أزف أوان اللحظة القادمة التي هي لحظته لا محالة، وهي لحظة كما ذكرت تحتاج الى تعلم وعلم ومعرفة وعمل وصبر ومصابرة، وهذا هو الزاد الذي به يدق أبواب تلكم اللحظة “المستقبلية” القادمة باعتبارها مكون حضاري مستقبلي، وهو يتقدمها ويملك ثنائيات الإمكان الحضاري بسياقاته العلمية والتقانية، ويملك الإمكان الحضاري بسياقاته الاخلاقية والقيمية ويملك الإمكان الحضاري بثنائياته الإنسانية والمادية، تماما كما يملك الإمكان الحضاري بثنائياته الجغرافية والكونية والزمانية ، وذلك كله لإدخال البشرية باب التوبة من جديد: التوبة من الانحلال والضلال والشرود الذي تعيش به والوثنية التي ابتليت بها سواء تمثلت اليوم بهوليود وكبار الممثلين والممثلات ومن شاكلهم في عالم عرب اليوم، أو تمثلت بالموبايلات وما تحويه من تطبيقات تشخصن الانسان وتشيئه وتذوته، عبدا مملوكا لمن هم خلف البحار ولتجعل منه في لحظة كاذبة ذاتا تكاد هذه الذات التائهة تؤله نفسها، والتوبة من علو الانسان على أخيه الانسان بقهره وقتله لا لسبب إلا لأنه يختلف عنه خِلقة، والتوبة من قتل الانسان لأخيه الانسان لأنه خالفه الرأي أو المعتقد أو الدين والعقيدة، والتوبة من قتل البيئة والارض والجغرافيا باعتبارها الحيز الذي حقق عليها قدره البشري حضارة ومدنية، والاعتداء على الزمان باعتبار الزمان حيز التراث الإنساني- خاصة بعد أن تم اختصار الحضارة الانسانية بالمدنية الغربية التي نهبت تراث من احتلت ارضهم وزمانهم لتخلق لها تراثا مبتوتا عن المسيرة الانسانية وتلزم البشرية به بالنار والحديد، فهل دخلت علينا العلمانية وما بعد العلمانية الا عبر الدبابة والبندقية وحرق الحرث والنسل وسرقة التاريخ؟- .. بهذه النفسية يكون مسلم المستقبل قد تقدم بخطوة كونية عالمية وانسانية في مفهوم التوبة وأخرجها من حيزها الانساني المخصوص بالإنسان المسلم وعلاقاته مع خالقه الى بعدها الكوني الخَّلاق الذي به تتهيء البشرية لحياة راشدة وإن اختلفت عقائدها لتتحقق من بعد ذلك قضية الشهادة على الناس.
بهذه النفسية والعقلية والإدراك علينا أن نستقبل العام الهجري الجديد ذلكم أننا لسنا محض غثاء على قارعة السيل، بل لأننا خير أمة أخرجت للناس، ولذلك فالمسلم اليوم مدعو لإعادة النظر في علاقته مع ذاته وخالقه وواقعه وبيئته ومجتمعه، مدعو للنظر من أجل يستبصر واقعه الذي يعيش، فيرتد عنه الى حيث يجب أن يكون إذ لا يليق بنا أن نكون ذكرانا وإناثا كالغنم الشاردة والجموع الفالتة تلبس أسوأ لباس ولا تكاد تتقن من الكلام الا أسفله وأرذله الا ما رُحم وهم قليل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى