أخبار رئيسيةأخبار عاجلةتقارير ومقابلات

“عليكم أن تهجروا أهلها وتطهروها”… حكاية “إجزم” المهجّرة ونزيف نكبتها

ساهر غزاوي

لا تختلف قرية إجزم عن غيرها من قرى فلسطين عامة وقرى منطقة قضاء حيفا خاصة، فالنكبة نالت من سكانها، والتدمير كان من نصيب بيوتها وأبنيتها الجميلة، ولم يبق منها إلا عدة بيوت استولى عليها اليهود فيما بعد.
إجزم من جَزَم بمعنى “قطع” و “عزم”، ويُنسب إلى إجزم الشيخ مسعود الماضي وهو زعيم ساحل حيفا-عتليت في أوائل القرن التاسع عشر. وذكر مصطفى مراد الدباغ في “موسوعة بلادنا فلسطين” أنها “قرية مهمة تخص آلـ ماضي الذين دُعيّ الساحل باسمهم وهي غنية بأملاكهم. وكان للشيخ مسعود نفوذ لدى علي باشا مساعد سليمان باشا والي عكا.
تقع أنقاض قرية إجزم على الجزء الجنوبي الغربي من سلسلة جبال الكرمل، وتبعد حوالي 19.5 كم إلى الجنوب من مدينة حيفا، ويحيط بها قرى أم الزينات، عين غزال، وعين حوض، ودالية الكرمل، والمزار، وجبع، وقد أقيمت منشآتها المعمارية على أنقاض حضارات سابقة، بمساحة تصل إلى 91 دونماً. وقد شيدت بيوتها بالحجارة والمواد الطينية، أو بالإسمنت، أو بالحجارة والإسمنت، وامتد نسيجها على شكل شريط متجانس باتجاه شمال جنوب. وجد في القرية مسجدان ومدرسة ابتدائية للبنين، وقلعة، ومقبرتان، وثلاث معاصر للزيتون، أحدها آلية، بالإضافة إلى عدد كبير من البيوت السكنية.
بلغت مساحتها حوالي 46905 دونماً، وقد كانت بمعظمها قبل تهجير سكانها مستغلة للزراعة، وبالأخص الحبوب بأنواعها، وأشجار الزيتون. وكانت قرية إجزم في الفترة العثمانية المبكرة عامرة، وتابعة إلى لواء اللجون، وقد بلغ عدد سكانها عام 1595م حوالي 50 نسمة، وقد ارتفع في 1859م إلى حوالي 1000 نسمة.
وتشير إحصائية عام 1945م إلى أن عددهم وصل إلى 2970 نسمة. وقد زاد عددهم عام التهجير إلى 3445 نسمة. استعصت إجزم على المنظمات الإسرائيلية التي تمكنت في أواخر شهر تموز/1948م من السيطرة عليها، وتشريد أهلها، وتدمير منازلها. وقد أنشأت الدولة العبرية على أراضي القرية في عام 1948 مستوطنة “كيرم مهرال”، وأعادت استخدام بعض الأبنية القائمة مثل ديوان مسعود ماضي المكون من طابقين، وحولته إلى متحف، وحولت مدرسة البنين إلى كنيس، وكذلك حوّلت المقهى إلى مكتب بريد. ويسكن أيضا في واحد من هذه الأبنية والمنازل رئيس جهاز الاستخبارات السرية السابق، والذي ابتدع مؤخراً مع أكاديمي فلسطيني اقتراح “سلام” يلغي حق العودة للفلسطينيين مقابل انسحاب إسرائيلي من المناطق التي احتلت سنة 1967.

تطهير عرقي بلا هوادة
بعد إعلان إقامة الدولة اليهودية مساء يوم 14 آيار/مايو، كانت الأوامر التي تلقتها الوحدات في الميدان من الأعلى، تستخدم تعبير (طيهور) تطهير بصورة متكررة وبصراحة. وقد اختارت القيادة العليا هذا النوع من اللغة كي تشحن الجنود الإسرائيليين بالطاقة قبل أن ترسلهم لتدمير الريف الفلسطيني والمناطق الحضرية. وكان هذا التصعيد في الخطاب الاختلاف الوحيد عن الشهر السابق. أما عملية التطهير فقد تواصلت بلا هوادة، كما يقول المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه في كتابه “التطهير العرقي”.
كلفت العصابات الصهيونية لواء ألكسندروني مهمة تطهير القرى الواقعة إلى الشرق والشمال من تل ابيب ويافا. وبعد ذلك، أُمر بالتحرك شمالاً والبدء، مع وحدات أخرى، بإخلاء الساحل الفلسطيني من السكان الفلسطينيين صعوداً حتى مدينة حيفا.
وصلت الأوامر إلى اللواء في 12 آيار/مايو: “يجب أن تحتلوا وتدمروا خلال 14 و15 آيار/مايو: الطيرة، قلنسوة، عورتا، دنابة، إكتابا، الشويكة. وعلاوة على ذلك، يجب أن تحتلوا قلقيلة، لكن لا تدمروها”. وخلال يومين وصل الامر الثاني إلى رئاسة أركان لواء ألكسندروني: “عليكم أن تهاجموا وتطهروا كلاً من طيرة حيفا، عين غزال، إجزم، كفر لام، جبع، عين حوض، المزار”.
بقيت ثلاث قرى فقط في المنطقة الساحلية جنوبي حيفا مباشرة، لم تتمكن قوات يهودية ضخمة من احتلالها خلال الأيام العشرة الفاصلة بين الهدنتين الأولى والثانية، على الرغم من محاولاتها المتكررة. ويبدو أن بن-غريون أصبح مهجوساً بها، فأمر بأن تستمر محاولات احتلالها حتى بعد أن سرى مفعول الهدنة الثانية، وبلّغت القيادة العليا مراقبي الهدنة التابعين للأمم المتحدة أن العملية ضد هذه القرى هي مجرد نشاطات بوليسية، بل حتى اختارت للهجوم بكامله الاسم الرمزي “عملية الشرطي” (شوطير بالعبرية).
بدأت عملية “الشرطي” في 25 تموز/يوليو، أي بعد أسبوع تماماً على بدء “الهدنة”، لكن إجزم صمدت ثلاثة أيام أخرى في خضم قتال عنيف قاوم خلاله عدد قليل من المسلحين، بشجاعة، مئات من الجنود الإسرائيليين. وقد استخدمت إسرائيل سلاحها الجوي لكسر شوكة المقاومة. وعندما انتهت المعركة، طرد السكان جميعاً إلى جنين. وبحسب ذكريات الناجين، قضى في المعركة مئة وثلاثون قروياً، بينما ذكر ضباط الاستخبارات على الجهة الشمالية في تقرير لهم أن “قواتنا جمعت” لدى دخول قرية إجزم 28 تموز/يوليو، “2000 جثة، كثير منها لمدنيين قتلوا جرّاء القصف الجوي”. إذ أصبحت الهجمات الجوية أداة رئيسية لبث الرعب وإلحاق الدمار بالقرى الفلسطينية الكبيرة لإرغام السكان على الفرار قبل أن يجري احتلال القرية فعلياً. وتم الاعتراف بفعالية هذا التكتيك الجديد في تشرين الأول/ أكتوبر.
ويذكر “تاريخ حرب الاستقلال” أن “تلك القرى الجريئة والعنيدة لم تصمد فحسب، وإنما أيضاً واصلت منع حركة مواصلاتنا على الطريق الساحلي”. وتشير هذه الرواية إلى محاولتين أوليتين (فاشلتين) لاحتلال القرية، جرتا في 18 حزيران/يونيو و8 تموز/يوليو 1948. كما وُضعت خطة لمحاولة ثالثة على أساس “عملية بوليسية ضد سكان متمردين على الدولة، يرفضون الاعتراف بالسلطة الشرعية صاحبة السيادة” وقد اعتُمِدَت هذه الصيغة لإخفاء حقيقة كون العملية خرقاً واضحاً لاتفاقية الهدنة الثانية في الحرب، وُسميت بعملية “شوطير” (الشرطي).
ويشير المؤرخ الإسرائيلي بني موريس إلى أن الهجوم بدأ في 24 تموز/يوليو، وأدى بعد يومين إلى احتلال القرى الثلاث في إثر قصف مدفعي وجوي عنيف. وقد اطلع وسيط الأمم المتحدة، الكونت فولك برنادوت، مجلس الامن لاحقا على أن القوات الإسرائيلية هاجمت هذه القرى في 18 تموز/يوليو، مع بداية الهدنة الثانية، وأن الهجوم الجوي والبري استغرق سبعة أيام كاملة. وذكرت وكالة اسوشييد برس، في 26 تموز/ يوليو، أن الهدنة الفلسطينية خُرقت نتيجة هجوم قامت به الطائرات الإسرائيلية ومشاة الجيش الإسرائيلي على ثلاث قرى عربية. وفي 30 تموز/يوليو، لاحظ مراسل “نيويورك تايمز” بطريقة غامضة أن الوضع ((هدأ فيما يبدو، بفضل المساعي العاجلة التي بذلها مراقبو الأمم المتحدة)). بينما صرّح هؤلاء أن الوضع “خطر”.
ويذكر بني موريس أن وحدات من ألوية غولاني وكرملي والكسندروني احتلت القرى الثلاث، وروى سكان هذه القرى لاحقاً أنهم تعرضوا لنيران الجنود والطائرات، في أثناء فرارهم من قراهم. وقال برنادوت، في أيلول/سبتمبر، أن السكان “حاولوا التفاوض مع الجيش اليهودي”. وقد نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عنه قوله إن 800 شخص طردوا من منازلهم في القرى الثلاث، وعُلم أنهم يبحثون عن ملاذ في منطقة جنين.
كما صرح الأمين العام لجامعة الدول العربية يومها أن 4000 شخص حُولوا إلى لاجئين، وأن 10000 غيرهم أُسروا، بينما قُتل الكثيرون في أثناء الهجوم. وجاء في تحقيق أولى للأمم المتحدة أنه عثر على جثتين في القرى الثلاث مجتمعة. لكن في أيلول/سبتمبر، قدر محققو الأمم المتحدة عدد القتلى والمفقودين بمئة وثلاثين شخصاً. وفي أيلو/سبتمبر، أصدر برنادوت أمراً إلى إسرائيل بإعادة اللاجئين إلى القرى الثلاث، وبترميم منازلهم المدمرة، أو إعادة بنائها، فرفض الإسرائيليون الإذعان لأمره.

مذكرات عبد الله التل
يقول القائد العسكري الأردني عبد الله التل في مذكراته: “إنها من أبشع المآسي التي وقعت في فلسطين، تلك التي وقعت للقرى العربية: عين غزال-إجزم-جبع. كانت هذه القرى ثابتة كأحسن ما يكون الثبات، مجاهدة كأحسن ما يكون الجهاد. وكانت تشكل نتوءات عربية في قلب إسرائيل، وتضايق اليهود. وفي كثير من الأحيان تفصل الشمال عن الجنوب. وكان الجيش العراقي متصلاً بهذه القرى ولكنه لم يكن حر التصرف بسبب الخطة العامة التي رسمتها قيادته… في بغداد فلم يساعد هذه القرى إلا بالقليل من الذخيرة لأسلحة المجاهدين الخفيفة. حتى كان اليوم الأسود الذي ذهبت فيه تلك القرى ضحية بريئة تحت سمع الجيش العراقي وبصره. وكان ذلك بعد فرض الهدنة الثانية.
وقد مهد اليهود لاعتدائهم على هذه القرى بأن أخذوا يذيعون أنها تقوم بأعمال تخريبية في إسرائيل وتهاجم طرق مواصلتهم. وفي 21/7/1948 بدأت الطائرات اليهودية تقصف هه القرى. وقد استمر القصف لها عدة أيام زحف بعدها الجيش اليهودي فاحتل هذه القرى بعد أن انسحب منها أغلب أهلها وأسر الباقون وقتل منهم ما يزيد على مئة”.

قصفتنا الطائرة فخبأت أولادي تحت السرير
يسرد الكاتب سمير أبو الهيجاء في كتابه “أنا من هنا ولي ذكريات” قصة الحاجة فتحية ماضي (أم صلاح) وشهادتها حول مجزرة قرية إجزم فيقول: إنها الأكبر سناً من جميع الذين بقوا من قرية إجزم، وكانت في التسعين من عمرها يوم التقيناها تجلس على كرسيها وأمامها طاولة صغيرة عليها ألعاب تركيبية، حيث كانت تبني بيتاً، ثم تعاود تفكيكه، تماماً كالطفل الصغير، الحاجة فتحية لا تقوى على التحرك، لكن ذاكرتها ما زالت تحتفظ بذكريات مريرة عن قريتها إجزم. طلبت منها أن تحكي لنا ما تذكره عن أيام إجزم، فروت قصة الغارة المشهورة التي يذكرها الكثيرون، ولكن ليس كما تذكرها الحاجة أم صلاح. قالت: “كنت يومها متزوجة ولي خمسة أولاد، نعيش في بيت متواضع، ذات يوم سمعنا هدير الطائرات فخاف الأولاد وبدأوا بالصراخ، فأخفيتهم تحت السرير وأنا “ظليت” أروح وآجي في البيت، ثم خرجت من الباب ونظرت إلى السماء، وإذ بسرب من الطائرات يلقي حمولته على البساتين، علما أنها لو القتها على البيت لقتلتنا جميعاً”.
وتضيف: كأني أسمع دوي القنابل الآن، ولي من تلك الغارة ذكريات مع ذلك الطفل، سعيد، الذي دخل علي البيت وهو ينزف دماً من رجليه وجسمه ويصيح “يا خالتي، أمي ماتت، وعمي مات، وانا جريح مصاب”، فاحتضتنه وأخذته إلى غرفتي لأضمد جراحه النازفة، وخرجت لأرى أمه، جارتي، وإذا بالمصيبة كبيرة، 16 شهيداً”.
لقد هجرت من تلك البلدة إلى دالية الكرمل والفريديس وحيفا، وكل ذلك يهون أمام من يبيع محاصيل الناس لحسابه الخاص بعد أن استغل غيباهم”.
وتقول أيضاً: “كان لإجزم دور كبير بين جارتها من القرى، فقد كانت تستوعب الأعداد الهائلة من الثوار، وأذكر مرة أنهم دخلوا القرية ومعهم أبو درة، فجاء الانجليز ودارت معركة حامية الوطيس بين الثوار والإنجليز، استعمل الإنجليز فيها الطائرات، وأذكر أنها سميت معركة “أم الدرج” نسبة إلى موقع الذي حوصر فيه الثوار، وكانت حصيلة من استشهدوا 70 شهيداً، نقلوا على الجمال والخيل ودفنوا في قرى الساحل، واستطاع أبو درة النجاة، وقيل يومها إنه تخفى بلباس امرأة وخرج، وقيل إنه امتطى جواداً وبسرعة فائقة خرج من بين صفوف الإنجليز، إلا أن أحدا لم يره في ذلك اليوم” .

_______________
المصادر:
(1) -إبراهيم أبو جابر، “جرح النكبة” الجزء الثاني، ص 25-30.
(2) -وليد الخالدي، “كي لا ننسى” (1997). مؤسسة الدراسات الفلسطينية‎، ص 69-70.
(3) -ايلان بابيه، “التطهير العرقي في فلسطين”، ص 184،193،200.
(4) – سمير أبو الهيجاء، “أنا من هناك ولي ذكريات”، ص 116-123.
(5) – مؤسسة الأقصى للوقف والتراث، موسوعة المقدسات في فلسطين، قضاء حيفا، ص 102.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى