أخبار رئيسيةأخبار عاجلةأخبار وتقارير

الحاج محمد صالح ما زال ساعاتياً

يسعى كثيرون إلى الحفاظ على العادات أو المهن القديمة وحمايتها من الاندثار. وورث البعض مهنة الساعاتي عن آبائهم وأجدادهم، علماً أنها تواجه تحدياً كبيراً في زمن التكنولوجيا. في ما مضى، لم تكن هناك ساعات رقميّة، على عكس اليوم. وهذا أحد الأسباب التي أدّت إلى اندثار هذه المهنة. لذلك، قليلاً ما نجد اليوم أشخاصاً يعملون في هذه المهنة.

من فلسطين إلى لبنان
حين جاء إلى لبنان، حمل والد الحاج محمد صالح مهنة الساعاتي معه، وقد أعانته في لجوئه، وعلّمها لابنه. “على مدى 58 عاماً، أعيش بين عقارب الساعات والدقائق والثواني”. هكذا بدأ الحاج محمد كلامه. “هي مهنة والدي التي تعلمتها في الثانية عشرة من عمري. أحبّ هذه المهنة”. يضيف أن الناس من مخيم ضبية للاجئين الفلسطينيين (يقع على بعد 12 كيلومتراً إلى الشرق من مدينة بيروت)، ومخيّم الرشيديّة في صور، إضافة إلى منطقة البقاع، كانوا يقصدونه لأنه كان يتقن تصليح الساعات.

عمره من عمر النكبة الفلسطينية. خرج من فلسطين حين كان لا يزال في بطن أمّه. يتحدّر من بلدة أم الفرج في الداخل الفلسطيني (قضاء عكا)، التي تقع قرب بلدات السميرية والنهر وعمقا. والده كان بستانياً، ويعمل في تصليح الساعات. لم يكن لديه محلّ لتصليح الساعات في بلاده. كان يشتري ساعة معطلة بالمال الذي يجنيه من عمله، ويصلحها ثم يبيعها.

ولد الحاج محمد في مدينة صور (جنوب لبنان)، في عام 1948، ويعيش حالياً في مدينة صيدا (جنوب لبنان). يملك محلاً لتصليح الساعات في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في صيدا، ولديه ستة أولاد.

يقول الحاج محمد: “لم أمش على قدمي لأصل إلى لبنان، ولم أشهد المجازر التي شنها الصهاينة ضد أهلي وشعبي. كنت في بطن أمي التي عانت مشقات اللجوء والسير في الجبال، لأولد أنا لاجئاً في بلد غير بلدي”. ويتابع أنّ اللجوء كان صعباً، وقد تعذبنا كثيراً وتنقّلنا من مكان إلى آخر، إلى أن حط بنا المطاف في النهاية في مخيم عين الحلوة في مدينة صيدا. ومع الوقت، استطعت أكوّن نفسي وأنا في عمر صغير، حتى استطعت أن أفتح محلاً في مخيم عين الحلوة لتصليح الساعات، وأستطيع القول إنني برعت بشكل كبير في مهنتي، لأنني أحببتها. وكنت أقضي معظم وقتي بين عقاربها”.

يتابع: “كان عملي جيداً وكنت قادراً على تأمين تكاليف الحياة والعيش بكرامة. فتزوجت وأنجبت ستة أولاد، إناثاً وذكوراً، وأردتهم أن يتابعوا تعليمهم”. يقول إنهم كانوا متفوقين في الدراسة، لكن الأوضاع الأمنية الصعبة التي كان يعيشها المخيم حالت دون متابعتهم تعليمهم. “ابني صالح كان يهوى الموسيقى. وبالفعل تعلم الموسيقى، وعمل مع فرقة موسيقية. أما ابني الثاني أيمن، فكان يملك محلاً في المخيم. إلا أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة دفعته إلى الهجرة إلى هولندا علّه يبني مستقبلاً جيداً ويعيش حياة كريمة”.

صمود
يعتبر محل أو دكان الحاج محمد محترفاً قديماً، إذ يحوي في داخله ساعات قديمة. والمحل ما زال صامداً على الرغم من التحديات التي فرضتها التكنولوجيا والتي لا تعطي قيمة لشيء. على سبيل المثال، في حال تعطلت الساعة اليوم، ترمى ولا تصلّح. في ما مضى، كان هناك تقدير لمهنة الساعاتي، إلا أن ذلك تغير اليوم، لافتاً إلى أن قلة يستطيعون اليوم تصليح الساعات. الناس كانوا يعتبرون الساعاتي مثل طبيب، يستطيع فهم وجع الساعة في حال توقفت عن العمل، وعلاج مرضها. يقول: “الخبرة ثمنها غال”. وليس كل من يعمل في مهنة يبرع فيها.

يشير الحاج محمد إلى أنه لم يعلّم أولاده مهنته. وفي حال لم يعد قادراً على العمل، سيغلق محله. يحزنه بعض الشيء أنه لن يورث هذه المهنة لأحد. ويسأل: “إذا كان هذا الأمر يتكرر، فهل ستبقى هذه المهنة موجودة خلال السنوات المقبلة؟ وهل سيهتم أحد بمحلي الذي يحتوي على عدد من الساعات القديمة؟”.

محمد صالح الحاج موسى بنى حياته من خلال هذه المهنة التي قلّت الحاجة إليها اليوم، وتمكن من تربية أولاده. ربّما لم يكن دخله كبيراً جداً، لكنه يقول: “من أحب مهنته فلن يدق الفقر بابه أبداً”.

ربّما يتحوّل محل أبي صالح في المخيم إلى متحف في وقت لاحق، ويزوره الناس ليتذكروا أن هذا المكان هو إرث جاء به والد الحاج محمد معه من فلسطين، ليتابع مسيرته من بعده.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى