أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

دوّامة الرعـــب الإسرائيلية!

حامد اغبارية

على عكس ما يقال من أن الأحداث الجارية في العديد من الدول العربية؛ مثل سوريا واليمن ومصر وليبيا والعراق ودول الخليج، تشكل فرصة – ربما لا تعوض-للمؤسسة الإسرائيلية للانقضاض على الحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية، ولتحقيق مطامعها في المنطقة الإسلامية، فإنني أرى أن تل أبيب تعيش حالة من الرعب على مستقبلها. وما ممارساتها وسلوكها المضطرب، وتلويحها بالقوة على مدار الساعة، بل واستخدام القوة العسكرية سواء في سوريا أو في غزة، وتجييش الإعلام وتطيير بالونات الاختبار في الشمال وفي الجنوب، إلا دليل على ذلك.

رغم قرار ترامب الاعتراف العلني بالقدس عاصمة للمؤسسة الإسرائيلية، وقراره نقل سفارة بلاده بالذات في نفس يوم نكبة شعبنا الفلسطيني، ورغم مظاهر الاحتفال والفرح الزائد عن حده من هذه الخطوة، فإن تل أبيب- في الحقيقة- تعيش أسوأ اللحظات في تاريخها، وهي تدرك هذا، لأنها أكثر من يعلم أن الوضع الراهن في المنطقة لن يطول، وستنقلب الموازين رأسا على عقب، وهو ذات الشعور الذي رافقها عام 2011، عندما اندلعت ثورات الربيع العربي، وخاصة في مصر، التي بذلت تل- أبيب كل ما تستطيع كي لا تنطلق نحو الانعتاق وتحقيق آمال الأمة.

لقد قال بنيامين نتنياهو، أثناء حفل افتتاح بؤرة المخابرات الأمريكية في القدس المحتلة: تذكروا هذه اللحظة التاريخية جيدا. وهو بذلك أراد أن يعبر عن فرحته بتحقيق خطوة أخرى من خطوات المشروع الصهيوني التوسعي. وأنا أؤكد أنها لحظة تاريخية فعلا، وأن على الشعب الإسرائيلي أن يتذكرها جيدا، وأن يسجلها في مفكرته وينقشها في ذاكرته، لأن نتنياهو الذي دعاه لتذكر تلك اللحظة، سيسجَّل في ذاكرة الشعب الإسرائيلي أنه هو بالذات الذي سُجلت أسوأ لحظة في تاريخهم، وسيكون هو السبب في بكائهم وشقائهم.

منذ سنوات، وحتى قبل الربيع العربي، حذر مفكرون إسرائيليون ويهود من غير الإسرائيليين من حالة الغرور التي تظهر في سلوك حكومة نتنياهو، واستعراضها لعضلاتها صباح مساء. وقد نبّهوا إلى أن هذا المظهر مزيّف، لا يعكس الحقيقة، وأنه يخفي وراءه قلقا كبيرا من المستقبل، وعلى المستقبل.

قبل سنوات طويلة قال الراب يشعياهو ليفوفيتش، الذي يعتبر من كبار مفكري التيار الديني الفلسفي: “لست متأكدا من أن إسرائيل ستكون موجودة بعد عشرين سنة”. وتبعه في ذلك العشرات من الكتاب والصحافيين وضباط الجيش والسياسيين والباحثين في المراكز الاستراتيجية وغيرهم.

في 2014 قال يوسي سريد (زعيم حزب ميرتس اليساري سابقا): الاحتلال في المناطق (يقصد الضفة الغربية) وغياب العدالة الاجتماعية يهددان مستقبل الدولة، وإذا استمر هذا الوضع فإن هناك شكا كبيرا في ضمان مستقبل الدولة. وهذه مقولات تلخص واقع الحال وحقيقته في دهاليز السياسة الإسرائيلية. ومثله قال الصحافي الإسرائيلي المخضرم يورون لوندون إنه لا ينصح حفيده بأن يبني مستقبله في هذه البلاد، بل ينصحه بالهجرة، لأنه لا يتوقع لدولته أن تستمر بالبقاء. ومن مثل هذه الآراء وما يشبهها تجد العشرات، بل المئات.

إن تل أبيب مرعوبة ليس من الوضع الحالي الذي تبدو فيه بـ “وضع جيد”، وفي حالة استثنائية يميزها الانتشاء والانتفاش، يسندها دعم أعمى وأحمق، لا محدود ولا مشروط من واشنطن، بل هي مرعوبة مما يمكن حدوثه في المستقبل، بالذات نتيجة الوضع الحالي الذي تعتبره المؤسسة الإسرائيلية “لحظات تاريخية” لا تعوض. هي مرعوبة من آثار ونتائج سياساتها تجاه الحقوق الفلسطينية، وتجاه الشعب الفلسطيني، سواء في القطاع وفي الضفة وفي الداخل. وما ينبغي لعاقل أن يغرّهُ ما يتظاهر به قادة المؤسسة الإسرائيلية من تماسك وأسباب قوّة وإنجازات إقليمية ودولية، وخاصة التطور في العلاقات مع أنظمة وكيانات عربية، منها مصر والأردن، ثم الإمارات والبحرين والسعودية. فهذه كلها في حقيقة الأمر من دواعي القلق الإسرائيلي إزاء المستقبل. بل إن ما يقلق تل أبيب بالذات هو هذه “النجاحات” السهلة التي حققتها في تطوير علاقاتها مع أنظمة عربية كانت بالأمس تعدّ من الأعداء.

لقد ملأت تل-أبيب فضاء المنطقة بالضجيج الإعلامي المزعج حول الملف النووي الإيراني، وحول الخطر الإيراني، كما سبق لها وأشارت إلى خطر الصواريخ (الإيرانية) التي يملكها الحوثيون في اليمن، والتي تصل إلى الرياض، ما يعني أيضا أن مداها يصل إلى تل أبيب، ولكن تل أبيب في الحقيقة ما كانت لتقلق للحظة لو جاءها من يضمن لها بقاء الملف النووي الإيرانية في أيدي نظام ملالي طهران، وبقاء صواريخ إيران في أيدي الحوثيين، ذلك أن ما يقلقها هو انتقال هذه الأسلحة، ومن ثم انتقال خطر استعمالها ضد تل أبيب، إلى أيد أخرى. لذلك يمكنك على سبيل المثال أن تتخيل لماذا بذلت تل أبيب مع واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي، كل جهد للقضاء على الأسلحة الكيماوية في سوريا؟ إنها فعلت ذلك ليس لأنها موجودة في يد الأسد، الذي يعرف كيف يستعملها وضد مَنْ، بل خوفا من انتقالها إلى أيد أخرى، تعرف هي أيضا كيف تستعملها وضد مَنْ. ولهذا فإن تل أبيب وواشنطن وسائر القوى في المجتمع الدولي وقفت تتفرج على ذبح نحو مليون سوري، دون أن يرف لهم جفن، ذلك أن أرواح البشر، وخاصة إذا كانوا مسلمين، لا يهم تلك القوى، التي أصيبت بلوثة (ورعب) من استخدام السلاح الكيماوي، ليس لأن الأسد استخدمه ضد أطفال شعبه ونسائه وشيوخه، بل مخافة أن تتطور الأمور وتتدحرج وتصل مرحلة اللاعودة، بحيث يصل هذا السلاح الفتاك إلى قوى لا ترغب تل أبيب في أن تصل إليها.

وإن أكثر ما يرعب تل أبيب هو عدم معرفتها شكل وهيئة وصورة وحجم رد الفعل من طرف الفلسطينيين، إزاء أية خطوة حمقاء قد يتخذها الاحتلال ضد المسجد الأقصى المبارك، طمعا في التقدم خطوة أخرى نحو تحقيق وهم الهيكل الثالث.

وإن أكثر ما يرعب تل أبيب هو تداعيات جرائمها على السياج مع قطاع غزة، ومواجهتها الدموية لمسيرات العودة السليمة التي يسعى الغزيون بواسطتها إلى رفع الحصار الإجرامي المضروب عليهم منذ أحد عشر سنة، بصمت دولي قبيح ومفضوح، وبمشاركة مصرية فجّة، وبتواطؤ خسيس من طرف سلطة رام الله، وبموافقة عربية، كنا نقول سابقا إنها متواطئة، لكن اتضح الآن أنها شريك فعال و”أصيل” في حصار غزة، وعلى رأسها عزبة آل سعود. فتل-أبيب قلقة جدا من احتمال انفلات الأمور من عقالها، وتصاعد حدة الزحف الشعبي القادم من غزة، سعيا إلى تحقيق حلم العودة، وفك الحصار. ذلك أن أكثر ما يجب أن يُقلق أية دولة هو عدم معرفتها شكل وحجم وموقع وأسلوب رد الفعل على جرائمها. وهذا بالضبط ما تعيشه تل أبيب في هذه الأيام. إنها لا تعرف من أية جهة يمكن أن تتلقى صفعة قوية، وربما أكثر من ذلك. فأزمتها مرتبطة بهاجسها الذي عمره سبعون سنة، وهو هاجس البقاء والاستمرارية. وإنك تلاحظ معي أن سلوك أجهزة المؤسسة الإسرائيلية على اختلافها، سواء الحكومة بوزاراتها، أو الكنيست أو جهاز التعليم، أو الأكاديميا، أو مراكز التخطيط الاستراتيجي ومراكز الأبحاث، أو الجهاز القضائي، أو الأجهزة الأمنية على اختلاف تخصصاتها السرية والعلنية، هو سلوك من يحمل شعورا أنه في الحقيقة لا يشعر أن له دولة، ولأنه كذلك فهو يؤكد وجود دولته صباح مساء، ويطالب الآخرين بذلك، بمناسبة وبغير مناسبة. ولتقريب المشهد فقط، فإن مقولة “القدس عاصمتنا الأبدية” تتكرر على لسان نتنياهو ووزرائه وأعضاء الكنيست، وناشطين سياسيين إسرائيليين آلاف المرات، وقس على ذلك مقوله “دولة اليهود”، أو “دولة يهودية وديمقراطية”، أو “سيادة الدولة”… فتكرارها هو دليل على عكس المقصود منها. ونحن نعلم أنه لا داعي مثلا إلى ذكر أن باريس هي عاصمة فرنسا كل عشر دقائق، لأنه لا خلاف على ذلك بين اثنين من سكان كوكب الأرض، ومثلها لندن والقاهرة ودمشق وبرلين ونيودلهي وبكين. فعندما يأتي من يكرر (أحيانا كثيرة بطريقة كاريكاتيرية مضحكة) أن له دولة اسمها كذا، وعاصمتها (الأبدية) اسمها كذا، فهو شهادة منه على أنه ما زال يشك في ذلك، وأنه في الحقيقة ما زال يبحث عن اعتراف بذلك.

هذا الحال يذكرنا بالمثل الشعبي الذي يقول: (اللي على راسُه ريشة بحسّس عليه). والقصة أن فلاحا في قرية صغيرة اشتكى لخطيب مسجد القرية أن لصا يسرق دجاجة من دجاجاته كل ليلة جمعة، ويريده أن يساعده في القبض على اللص. واحتار الخطيب كيف يفعل، وما الحيلة للوصول إلى اللص. ثم خطرت له فكرة. فانتظر إلى يوم الجمعة، ولما اجتمع أهل القرية في المسجد في صلاة الجمعة صعد الخطيب إلى المنبر، ثم في ثنايا الخطبة قال: ما بال بعض الناس لم يستعدوا جيدا للصلاة، حتى أن ريش الدجاج على رؤوسهم؟ ثم راح يراقب ردة فعل المصلين، وإذا بأحدهم ينفض رأسه بيديه يحاول تنظيفه من ريش الدجاج. وطبعا لم يكن هناك ريش دجاج ولا يحزنون، ولكن الخطيب أراد من وراء ذلك أن سارق الدجاج هو الوحيد الذي سيشك أن ريشة قد علقت برأسه وهو يقتحم قن الدجاج. وهكذا اكتــُشف أمر اللص.

وهذا هو الحال في المؤسسة الإسرائيلية، التي تملك كل عناصر القوة، وتتلقى الدعم من قوى الاستكبار العالمي، ولكنها لا تملك الشعور بالطمأنينة على مستقبلها، ولا الشعور بأنها دولة حقيقية ذات سيادة ووجود وحدود ومستقبل ممدود.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى