أخبار رئيسيةشؤون إسرائيليةومضات

توتر متواصل.. هل يفقد الإسرائيليون الثقة بجيشهم؟

تشهد إسرائيل استقطابا متزايدا بين السياسيين اليمينيين والقادة العسكريين والأمنيين، على خلفية التنافس السياسي على قيادة الدولة وتقرير مساراتها، وتباين نظرة الطرفين إلى السياسة المحلية والعالمية.

ويسهم هذا الاستقطاب في تراجع ثقة الجمهور الإسرائيلي بالمؤسسة العسكرية (الجيش)، كما تظهر بعض استطلاعات الرأي، وأسهمت الحرب الجارية في غزة في زيادة حدة هذا الاستقطاب ووصوله إلى مستوى غير مسبوق من التراشق العلني بين الطرفين.

وظهر ذلك في المؤتمر الصحفي لوزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت في 15 مايو/أيار 2024 والذي جاهر فيه بمعارضة توجهات بنيامين نتنياهو بشأن غزة ما بعد الحرب، قائلا إنه سيعارض أي حكم عسكري إسرائيلي للقطاع، لأنه سيكون دمويا ومكلفا وسيستمر أعواما، وهو ما قابله ردود غاضبة من كل من رئيس الوزراء ووزراء اليمين مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.

ويشكل الصدع الداخلي التاريخي جزءا أساسيا من هذه الأزمة، في حين يسهم التباين الإسرائيلي الأميركي بشأن التعامل مع الحرب في تشجيع معارضي نتنياهو على التصعيد إلى هذا المستوى.

الجيش والسياسة الإسرائيلية
وفي هذا الشأن تناولت ورقة بحثية لأستاذ العلوم السياسية الأميركي غاي زيف، نشرت في عدد ربيع 2024 من مجلة العلوم السياسية الفصلية، وضع العلاقات المدنية العسكرية في دولة الاحتلال، وجذور التباين الفكري والسياسي التي تعود إلى فترة مبكرة من نشوء الدولة.

واستند البحث إلى تحليل محتوى مجموعة متنوعة من وسائل الإعلام، كالصحف الإسرائيلية، ووكالات الأنباء، والخدمات السلكية واللاسلكية، إضافة إلى إجراء مقابلات شخصية مع خبراء في الديمقراطية الإسرائيلية، فضلا عن بيانات استطلاعات للرأي.

وتشير الورقة البحثية إلى مركزية دور الجيش في السياسة الإسرائيلية، “وإحكام قبضته على التفكير الإستراتيجي والنشاط الدبلوماسي لإسرائيل”، بفعل انتصاراته في حروب (1948، 1956، 1967)، وأن الرقابة المدنية على الجيش الإسرائيلي لم تكن قوية على الإطلاق.

وعلى الرغم من تأسيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي عام 1999 كهيئة تنسيقية، على غرار نظيره في الولايات المتحدة، ملحقا برئيس الوزراء والحكومة ومكلفا بإصدار تقييمات وتوصيات بشأن سياسة الأمن القومي، فإنه لم يكن له تأثير يذكر، في حين استمرت هيمنة مديرية التخطيط في الجيش على التخطيط الإستراتيجي.

وفي مسار معاكس وبطيء، أسهمت النكسات التي تعرض لها الجيش، كحرب 1973 إلى اهتزاز الثقة به وتشوه سمعته، وهو الأمر الذي استمر في حروب لاحقة لم يتمكن من تحقيق نتيجة حاسمة فيها، كاجتياح لبنان واحتلال جنوبه الذي تحول إلى “فيتنام الإسرائيلية” وصولا إلى الانسحاب منه عام 2000.

كما عجز عن تحقيق نتيجة حاسمة في حرب لبنان عام 2006، وانسحابه من غزة عام 2005 ثم سيطرة حركة حماس عليها وإطلاقها الصواريخ منها، وعجز الجيش عن تحقيق حسم في حروب الأعوام 2008-2009، 2012، 2014، 2021.

كما كان لتبني الجيش مشروع اتفاق التسوية السلمية، وصولا إلى توقيع اتفاق أوسلو، ثم فشل هذا المسار دورا أيضا في توجيه اللوم الشعبي والنخبوي إليه.

تنافس على السلطة
وفي دافع آخر للاستقطاب المدني-العسكري، يبرز وجود تقليد يدخل بموجبه قادة الجيش معترك السياسة عقب تقاعدهم، وينافسون للوصول إلى رئاسة الوزراء في دولة الاحتلال، فيما يصفه الباحث غاي بـ”هبوط كبار الضباط بالمظلات إلى السياسة بعد التقاعد”.

وفي هذا نجد أن 19 من رؤساء أركان الجيش الـ23 دخلوا معترك السياسة، وكان 3 من رؤساء وزراء دولة الاحتلال الـ13 وهم إسحاق رابين، وإيهود باراك، وأرييل شارون، جنرالات متقاعدين، وكان “رابين وباراك” رئيسي أركان للجيش.

وهذا التقليد يجعل القادة الحاليين والمتقاعدين خصوما محتملين لسواهم من السياسيين غير العسكريين، وخصوصا القوميين الشعبويين، وهو ما يدفع إلى تبادل النقد والتحشيد المبكر للتنافس السياسي المستقبلي، مما يسهم في نزع الشرعية عن قيادات الجيش وتصويرهم كنخبة يسارية منعزلة عن المجتمع واهتماماته كما اعتاد اليمين على وصفهم.

تباين سياسي وديني
وبالفعل يظهر جنرالات الجيش ميلا إلى تشكيل أحزاب الوسط أو يسار الوسط وفقا للباحث، مما يجعلهم منافسين تقليديين لليمين واليمين المتطرف، ولعل ذلك يعود إلى ميل الجيش تاريخيا إلى العلمانية، وسيطرة نهج عملي براغماتي على عمله.

وفي حين كان هذا الأمر مستقرا في الجيش، فقد عمل المتدينون على تغييره عقب هزيمة عام 1973، التي رأوا أنها ناتجة عن عدم استعداد الضباط والجنود غير المتدينين للتضحية.

ولتغيير تركيبة الجيش تم فتح المسار الديني لدخوله عبر الـ”يشيفوت هسدر”، وهي معاهد لاهوتية جمعت بين دراسة التوراة في مدرسة دينية مع الخدمة العسكرية، والـ”ميشينوت”، وهي أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية التي تهدف إلى إعداد المجندين الدينيين قبل خدمتهم.

وفي الوقت الحالي يلتحق قرابة نصف الرجال المتدينين القوميين في سن التجنيد بواحدة من العشرات من “يشيفوت هسدر” أو “مشينوت”، فيما يعد رئيس الأركان الحالي “هرتسي هاليفي” أول رئيس أركان متدين للجيش منذ تأسيسه.

صعود الشعبوية الإسرائيلية
وفي حين يلجأ القادة الشعبويون حول العالم إلى تسييس الجيش لفرض سيطرتهم على المجتمع، فإن الحالة في دولة الاحتلال معكوسة، إذ يلجأ هؤلاء إلى تحجيم نفوذ الجيش للتمكن من فرض أجندتهم السياسية.

ويوضح غاي السمات الأساسية التي تميز اليمين الراديكالي الشعبوي، وهي: مزيج من القومية وكراهية الأجانب مع الاعتقاد أن الدول يجب أن يسكنها حصريا أعضاء الأمة، والتي تعتبر العناصر الغريبة بمثابة تهديد للأمة المتجانسة، إضافة إلى الإيمان بمجتمع منظم بشكل صارم، حيث يتم معاقبة أي انتهاك لأحكام السلطة بشدة.

وبذلك فإن القومية الشعبوية الإسرائيلية تستبعد الأفراد الذين ليسوا من العرق اليهودي، مثل الفلسطينيين، وتمنح الشعب اليهودي الحق الحصري في دولة الاحتلال، بما في ذلك الأراضي المحتلة بعد عام 1967، مع السعي إلى توسيع نطاق القانون اليهودي “الهلاخا”، الذي من شأنه أن يحول الدولة إلى “ثيوقراطية يهودية”.

والشعبوية في السياق الإسرائيلي “تنظر إلى وسائل الإعلام، والمجتمع المدني، والجامعات، وخاصة السلطة القضائية، باعتبارها مؤسسات تسيطر عليها مجموعات نخبوية يسارية قوية تتلاعب ببقية المجتمع وفقا لمصالحها الضيقة”.

نفور بين نتنياهو والجيش
بعد انتخاب نتنياهو رئيسا للوزراء في مايو/أيار 1996، ظهر تقليص تأثير الجنرالات على سياسة الحكومة بشكل حاد، فقد كان ينظر إليهم بعين الريبة ومعتبرا إياهم يساريين يدفعون إسرائيل إلى تقديم تنازلات كاسحة كجزء من عملية السلام التي لم يتبنها هو طوال فترة رئاسته للوزراء.

وأيضا كان نتنياهو كثيرا ما يهمش المؤسسة الأمنية في عملية صنع القرار، مفضلا بدلا من ذلك الاعتماد على الموالين لحزبه.

ويؤرخ غاي لانطلاق الموجة الأشد من هذا الاستقطاب بالخسارة المهينة التي مني بها نتنياهو في انتخابات عام 1999، بتأثير من الانتقادات اللاذعة من قبل حزب الوسط، الذي شارك في قيادته رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق أمنون ليبكين شاحاك، إلى جانب الهجمات التي شنها زعيم حزب العمل إيهود باراك، وهو نفسه رئيس سابق للجيش الإسرائيلي.

فكانت النتيجة التي توصل إليها نتنياهو، بعد ولايته الأولى المضطربة وهزيمة إعادة انتخابه، واضحة لا لبس فيها “الجنرالات يمثلون أكبر عقبة أمام مسيرته السياسية”. وعزز ذلك قناعته بضرورة تحجيم الدور السياسي لمؤسسة الجيش، بل وجميع المؤسسات غير المنتخبة، كالقضاء والإعلام، وهو المسار الذي يسهم في تشكيل السياسة الداخلية الإسرائيلية منذ ما لا يقل عن عقدين من الزمن.

وفي هذا السياق قام نتنياهو بتنسيق تقديم مشروع ما يسمى بقانون “حالوتس”، الذي سمي على اسم رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك دان حالوتس، حيث كان من المتوقع أن يرشح نفسه لرئاسة الوزراء عند التقاعد في عام 2007، إذ زاد القانون الفترة الفاصلة بين تقاعد كبار مسؤولي الدفاع ودخولهم معترك السياسة لتصبح 3 سنوات بدلا من 6 أشهر.

وادعى أنصار القانون أن هناك حاجة إلى فترة فاصلة أطول لمنع تضارب المصالح بين النشاط العسكري للفرد ونشاطه السياسي.

ومن الناحية الظاهرية، يمكن أن يُنظر إلى ذلك على أنه إجراء ينزع تسييس المؤسسة العسكرية، بل يعزز الديمقراطية من خلال تعزيز السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية، لكن الهدف الحقيقي كان تثبيط نزعة ترشح الجنرالات المتقاعدين للمناصب، وفي حال ترشحهم، يكونون قد فقدوا بريقهم، بفعل وجودهم لـ3 سنوات خارج المؤسسة العسكرية.

كما شهد عصر نتنياهو شكلا إقصائيا من الشعبوية، مع نهج “نحن” في مواجهة “هم”، والذي يميز الإسرائيلي العادي عن مجموعات “العرب، والنخبة، واليسار” التي يُنظر إليها على أنها تهدد “نحن” المشتركة، ولجأ نتنياهو إلى إستراتيجية التلاعب بمخاوف الناس وقلقهم وأحكامهم المسبقة لأغراض سياسية.

وخلال سنوات حكم الرئيس دونالد ترامب وما بعدها، تبنّت حرب نتنياهو مع وسائل الإعلام الخطاب الذي استخدمه صديقه في البيت الأبيض، فعلى سبيل المثال، تبنى مصطلحات مثل “أخبار مزيفة” و”مطاردة الساحرات” لوصف عداء وسائل الإعلام تجاهه وتجاه عائلته.

كما برزت وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها ساحة المعركة الأساسية في حرب نتنياهو ضد منتقديه، وهنا أيضا تبنى تكتيكات ترامب، وكان الابن الأكبر لنتنياهو، يائير، مستشارا رئيسيا غير رسمي لوالده ومؤثرا بشكل خاص في إستراتيجية والده على الإنترنت.

مقاومة الجيش ونزيف شرعيته
وفي عام 2019، حدث تطور سياسي غير مسبوق عندما انضم 3 من قادة الجيش الإسرائيلي السابقين (غانتس ويعالون وغابي أشكنازي) إلى حزب سياسي واحد في 3 محاولات للإطاحة بنتنياهو.

وبعد انتخابات رابعة غير حاسمة، أجريت في 23 مارس/آذار 2021، حلّت “حكومة التغيير”، والتي ضمت بيني غانتس وزيرا للدفاع، محل حكومة نتنياهو، والذي أصبح رئيسا للمعارضة قبل أن يعود إلى رئاسة الوزراء بعد انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2022.

وخلال هذه الفترة القصيرة، دخل ما مجموعه 5 رؤساء سابقين للجيش الإسرائيلي (غانتس، وأشكنازي، ويعالون، وباراك) في انتخابات سبتمبر/أيلول 2019، وغادي آيزنكوت في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2022- إلى الساحة السياسية بهدف إرسال نتنياهو إلى التقاعد.

وأسهمت هذه المواجهة السياسية الطويلة، مع ما فيها من هجمات متواصلة من قبل السياسيين الشعبويين القوميين، في تسارع تآكل ثقة الجمهور في مؤسسات الدولة بما فيها الجيش الإسرائيلي.

إذ وجد معهد الديمقراطية الإسرائيلي أنه خلال عقد من الزمن، انخفضت الثقة في جميع مؤسسات الدولة الثماني التي يقوم باستطلاعها سنويا بين الجمهور الإسرائيلي، وهي (الجيش، والرئاسة، والمحكمة العليا، والشرطة، والحكومة، ووسائل الإعلام، والكنيست، والحكومة والأحزاب السياسية)، حيث انخفضت من 61% عام 2012 إلى 33% عام 2022.

وأظهر استطلاع للمعهد في أكتوبر/تشرين الأول 2021 أن نحو 78% من الجمهور يثقون بالجيش الإسرائيلي، وهو أدنى رقم منذ عام 2008. وعلى الرغم من أن الجيش لا يزال مؤسسة الدولة الأكثر ثقة، فإن الهجمات الشعبوية المستمرة على جميع مؤسسات الدولة تهدد بمزيد من تآكل مكانته في المجتمع الإسرائيلي.

وأتى هجوم السابع من أكتوبر 2023 وفشل الجيش في التنبؤ به ومواجهته كضربة غير مسبوقة فاقمت من أزمة ثقة الجمهور الإسرائيلي بجيشه، وعزز من هذا الأمر مستوى النقد والاتهامات التي طالت قادته من قبل وزراء اليمين في حكومة نتنياهو.

ويشير هذه المستوى غير المسبوق من الاستقطاب إلى تباين إستراتيجي وتكتيكي بشأن الحرب في قطاع غزة، على صعيد تقرير التوجه بشأن اليوم التالي للحرب، ومما يغذي هذا الاستقطاب الموقف الأميركي الناقد لامتناع نتنياهو وحكومته عن تقديم تصور لتسوية الحرب بشكل ملائم للسياسة الأميركية في الإقليم.

إضافة إلى ذلك استطلاعات الرأي التي تعطي الجنرالات السابقين كغانتس وغادي آيزنكوت وغالانت أملا بمستقبل سياسي أفضل في حال الإطاحة بنتنياهو وإجراء انتخابات مبكرة، وهو ما يقاومه الأخير بشتى السبل، بما في ذلك إطالة أمد الحرب والاستعداد لتوسيعها إقليميا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى