أخبار رئيسيةمقالات

اغتيال العاروري بداية المرحلة الثالثة

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

ابتداء

كانت لبنان ولا تزال الخاصرة الأضعف في تاريخ الاغتيالات السياسية لأسباب تتعلق بالبنية الطائفية والسياسية والاجتماعية، فضلًا عن السياسية والاقتصادية وعلاقاتها مع المنظومتين العربية والأورو-أمريكية، وخلّف احتلال سوريا لها عدة عقود ندبة لا تزال تعاني منها ولا أتخيل أن تبرأ منها قريبًا.

استهداف الشيخ صالح العاروري في لبنان وفي الضاحية الجنوبية تحديدًا وعلى مقربة من المطار، تلكم المنطقة الخاضعة بالمطلق لحماية حزب الله، يحمل في طياته أسئلة كبيرة جدًا، وستكشف الأيام عن كثير من أسراره، لكن المهم أن هذا الاغتيال تمّ في ظل حرب تشنها إسرائيل بحماية أمريكية على غزة وأحدثت فيها خرابًا هائلًا دفع دولًا عديدة لاتهامها بارتكاب جرائم حرب، بل وتقدمت أفريقيا الجنوبية بشكوى ضد إسرائيل بتهمة ارتكابها جرائم حرب ستُطرح على محكمة الجنايات الدولية الخميس القادم. ثمّة حقائق تؤسس لهذه المقالة، حرب الظلال الدائرة بين الاحتلال وحركة المقاومة منذ سنين وتدور رحاها على مستوى العالم أجمع، وقد شهدنا العديد من الاغتيالات لشخصيات منسوبة للمقاومة والعكس صحيح، ويشارك في هذه الحرب دول عديدة شرق أوسطية وآسيوية وأوروبية وطبعًا دول عظمى، وشكلت شخصية العاروري قلقًا إسرائيليًا وأوروبيًا استدعى في لحظة من اللحظات إخراجه/خروجه من تركيا ضمن توافقات إقليمية وذات صلة بالحركة والاحتلال.

الأسئلة الحرجة

لا يمكن تجاوز اغتيال العاروري في ظل الأحداث السائلة الجارية على أرض غزة وعموم المقاومة على التراب الفلسطيني في أراضي عام 1967، حيث اعتبر الاحتلال العاروري المعروف بأنه نائب رئيس المكتب السياسي الممثل ولو ظاهرًا للضفة الغربية في الحركة سياسيًا وعسكريًا، ورأس الحربة الساعي لمواجهة الاحتلال في الضفة والقدس والمسجد الأقصى والمرشح لرئاسة الحركة وفقًا لبعض المقولات والتحليلات، والاحتلال يدرك تمامًا عواقب انتقال المواجهات إلى الضفة الغربية والقدس وما سيترتب عليه من تداعيات في الداخل الإسرائيلي والعالمي، ومن ثم فسؤال الاغتيال الذي كان حاضرًا باستمرار ازدادت احتمالياته آلاف المرات بعد هذه الحرب التي أرهقت إسرائيل الدولة والاحتلال وأظهرتها أنها ضعيفة لا تقدر على شيء بدون الولايات المتحدة المعنية جدًا باغتيال العاروري وكافة قادة الحركة لتليين الموقف السياسي القادم، أي بعد الاغتيال، بناءً على تجربة فتح ونتائجها الإيجابية إسرائيليًا وأجنبيًا، فهل تعلق الاغتيال في هذه الرؤية الاستراتيجية في التعاطي مع الحركة وقادتها سيرًا نحو تدجينها؟

زعمت وسائل إعلام إسرائيلية ليلة مقتله، أن العاروري كان شخصية صلبة مثلت جبهة الرفض الحاسمة للطلبات الإسرائيلية في المفاوضات التي جرت في قطر لوقف العدوان، وأصرَّ على مواقف المقاومة ومطالبها، ورفض سرًا وعلنًا الطروحات المصرية-القطرية التي تمَّ تقديمها في تلكم المفاوضات والتي أفضت إلى فشلها الذريع، إذ رفض الجناح العسكري الطلبات المذكورة الساعية لفرض واقع سياسي جديد تحت وصاية قطرية-مصرية في ظل وجود الاحتلال ونزع سلاح المقاومة والعمل على إيجاد بديل فلسطيني يقود غزة لاحقًا يفضي لانسحاب قوات الاحتلال، وقد انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي تفاصيل هذا الطرح الذي رافقته طروحات سياسية إسرائيلية كان آخرها اشتراطات نتنياهو خضوع محور فيلادلفيا للسيطرة الأمنية-العسكرية الإسرائيلية، ومنح إسرائيل الحرية المطلقة في دخول غزة على غرار تجربتها القائمة حاليًا في الضفة الغربية، وقد رفضتها المقاومة جملة وتفصيلًا واعتبرت أنها لا تلبي الحد الأدنى من الطلبات على أرض غزة، بل وتجهض المكتسبات العسكرية وحجم التضحيات المادية والبشرية في القطاع وإعادة للاحتلال. ثمة مقولة تزعم أن العاروري غادر لبنان غاضبًا قبل شهر ونيف وجاء بعد خطاب نصر الله، واعتبرت عودته للبنان لافتة عند عديد المراقبين للشأن الداخلي الحمساوي وعلاقاته الجدلية مع محور إيران في المنطقة، معلوم أن الرجل من الذين آمنوا وبقوة فيما سمي وحدة الساحات، وتحدث في أكثر من منبر إعلامي عن هذه الوحدة وتداعياتها المستقبلية على الاحتلال وعموم المنطقة، فهل ثمة علاقة بين العودة والاغتيال له ولثلة من القساميين تستهدفهم إسرائيل جهارًا نهارًا؟

ويبقى سؤال الاختراق ماثلًا وبقوة في هذه المرحلة، وهذا السؤال بحد ذاته سيشكل هاجسًا ليس للمقاومة الفلسطينية على أرض غزة بل ولحزب الله، وسيترك تداعيات كبيرة على السياقات الأمنية واللوجستية في دولة كلبنان ودول أخرى تعاني من مثل ضعفها، ذلكم أن هذا الاغتيال ما كان للاحتلال أن يقوم به إلا بعد تعاون أمني واسع النطاق واستخباراتي عملياتي يضع الحزب المسيطر على الضاحية الجنوبية ومطار بيروت تحت طائلة المساءلة؟

هل جاء التخلص من العاروري مقدمة تطبيقية لما قالته القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية ورددته ثانية هذه القيادات أو بعضها ليلة مقتله رغم طلب نتنياهو من مختلف الأطراف السياسية المشاركة في الحكومة عدم الإدلاء بأي تصريح أو بيان تواصلي على منصاتهم الخاصة وترك الأمر للمحللين السياسيين والعسكريين، خاصة وأن الاحتلال يدرك تمامًا أنه فتح حربًا مع المقاومة خارجيًا لن تنتهي مع انتهاء الحرب على أرض غزة إلا باشتراطات وتعهدات تلزمه إقليميًا وعالميًا؟ ومن اللافت أنَّ اغتيال العاروري ترافق وحملة اعتقالات واسعة قامت بها المخابرات التركية على أراضيها نهار اغتيال الرجل، فهل ثمة علاقة بين الاغتيال وهذه المجموعة التي كانت تعمل مع الموساد وفقًا للمعلومات المنسوبة لأطراف تركية؟

اغتيال العاروري ومعه ثلة من القساميين لن تمر مرور الكرام لا على المستوى العسكري ولا على المستوى السياسي والأمني، فالحرب التي بدأت في السابع من أكتوبر الفائت، حيث اعتبر هذا اليوم يومًا فاصلًا ولحظة فارقة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، له ما له من تداعيات استراتيجية تتعلق بأصل الصراع في المنطقة وجدل العلاقة القائم بين الاحتلال ودول عربية وازنة آثرت التطبيع ضمن قناعاتها السياسية المتماهية مع المشروع الأمريكي الذي في جوهره متماهٍ مع المشروع الصهيوني، وقد كشفت هذه الحرب عمق هذا التماهي.

في السياق ذاته، فإنَّ اغتيال العاروري سيكون اللحظة الثانية برسم مراكمات الاحتلال في ظل الحرب لأفعاله الإجرامية في غزة والضفة الغربية، وقد شهدنا ليلة اغتياله حملات مكثفة من الاحتلال على عدد من المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية سعيًا لإجهاض أي رد فعل أيًا كان نوعه، ومن ثم فهل سنشهد انتقالًا إسرائيليًا إلى مرحلة متقدمة تزاوج بين الاغتيالات في المناطق الرخوة في منطقتنا وغيرها من البلدان واستمرار الحرب ضمن معركة تتضافر فيها الجهود المخابراتية الدولية والفعل العسكري على أرض الواقع لإجبار المقاومة على الاستسلام على غرار ما حدث مع حركة فتح عام 1982 ومغادرتها لبنان إلى تونس حيث تمَّ الاختراق المطلق تمهيدًا لهذه المرحلة البائسة التي تعيشها القضية الفلسطينية.

إسرائيليًا، لطالما اتهمت العاروري بأنه السبب المباشر في الحرب الراهنة على غزة وأن بينها والعاروري ثأرًا قديمًا يتعلق بقتل ثلاثة من الشباب اليهود في الخليل، ولعلَّ تصريحاته الدائمة بأن إسرائيل دولة قاربت على الانتهاء والأفول أقلق الإسرائيليين خاصة وأن الرجل يتمتع بعلاقات متشعبة تجعل كل كلمة يقولها تدخل في ثنائيات الحرب النفسية والعملياتية على إسرائيل.

يذهب بعض المحللين إلى أنَّ اغتيال العاروري عنوان للمرحلة الثالثة التي طالب الجيش المجلس الحربي والسياسي المصغرين للبت فيها، خاصة وأن المشاهد التي تنقلها وسائل الإعلام العربية والأجنبية من على أرض غزة تكشف حجم العنت والشقاء الذي دخلته القوات الإسرائيلية بغض النظر عن نخبويتها وقدراتها القتالية، فقد كشفت أرض غزة عوار الجندي الإسرائيلي كما الجيش الذي يبدو أنه ضاق ذرعًا بالمكون السياسي الحاكم لإسرائيل والذي يبدو أنه يتخذ من الحرب توطئة لتحسين ظروفه الانتخابية والسياسية. وخلاصة هذه المرحلة كما أشرت إلى المزاوجة بين الاغتيال والبقاء على أرض غزة، فيما ستكون تساؤلات عن مدى قدرة الاحتلال على تحمل هذه التبعات ماثلة أمام صانع القرار الإسرائيلي من جهة، ومدى تحمله لتكلفة هذه المزاوجة خاصة وأن الاحتلال مدرك تمامًا أنه أمام مقاتل أيديولوجي مؤمن بمشروع يسعى لتحقيقه، وأن المكتسبات السياسية المرحلية هي من ضمن مراحل هذا المشروع. هذا إلى جانب أن التجربة تقول إنّ ورثة المقاومين الأيديولوجيين ليس كالسياسيين، ومسائل التدجين والتطبيع على غرار بعض التجارب العلمية ومنها الفلسطينية ليس بالضرورة دقيقًا وصحيحًا، كما يدرك الاحتلال ومن يقف خلفه أن اغتيال العاروري ليس نهاية الطريق إذ التجربة الفلسطينية الحمساوية تحديدًا، تشير أنها سرعان ما تستوعب الحدث وتراكمه جهدًا وعملًا.

العاروري قُتل على الأراضي اللبنانية أي أنه اعتداءٌ على سيادته، والاحتلال اخترق باغتياله القرار الأممي 1701، وهو عمليًا إعلان حرب على لبنان، ولكن في الظروف الراهنة وبناء على تجارب سالفة تمت على الأرض اللبنانية فلن يتجاوز الفعل الرسمي اللبناني مجلس الأمن، ومن ثم يبقى السؤال متعلقًا بمحور وحدة الساحات وتحديدًا حزب الله وتصريحات زعيمه التي نبهت الاحتلال إلى الأثمان التي ستُدفع في حالة اغتيال سياسي على أرض لبنان. وقد أصدرت إسرائيل بيانًا رسميًا تستدرك فيه هذه المسألة، أي النص/الكلام المتعلق بالاغتيال على أرض لبنان، إذ أكد البيان أن الاغتيال ليس موجهًا إلى حزب الله أو إلى إيران، فهل ستشكل هذه درجة للحزب وإيران لتجاوز الاغتيال؟ الوقت كاف لتحديد الإجابة على هذه المسألة التي مست عمليًا كبرياء الحزب.

إسرائيل إذ ترمم صورتها

هذا الاغتيال حقق إسرائيليًا ثلاثة منجزات يمكن أن ترمم الصورة النمطية التي طالما بناها بأنه الجيش الأقوى والأعظم أمنيًا وعسكريًا والتي تهدمت في السابع من أكتوبر، والحقيقة، أنّ تدمير صورتهم الأمنية والعسكرية دفع دولًا مثل كوريا الجنوبية لمحاكاة عملية السابع من أكتوبر تحسبًا من غزو من كوريا الشمالية، مما يعني أنّ العملية أضحت درسًا عسكريًا تقرأه دول وازنة عالميًا وهو ما يعمق حالة القناعة العسكرية لدول عديدة من أن إسرائيل ليست الدولة التي طالما صورها الغرب أنها الأعز والأقوى، ومن ثم كان هذا الاغتيال لشخصية وازنة وبالصورة التي تمت في مسعى لترميم الصورة التي تهشمت عالميًا.

هذه الثلاثية تمثلت في إعادة المعنويات لعموم الإسرائيليين وكل من تابع الفضائيات الإسرائيلية ومختلف المنصات الاجتماعية أدرك ذلك بوضوح، ورممت شيئًا متواضعًا من الحصانة القومية التي تبلورت أثناء الحرب وتضعضعت مع مسيرتها المؤلمة إسرائيليًا على أرض غزة وباتت تشكل ثِقلًا يبدو أن المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية لن تتحمله على المدى البعيد، أي عدة شهور، كما يصرح عديد القيادات السياسية والعسكرية، والاغتيال نوعٌ من القتل النظيف الذي لا تعترض عليه الدول الغربية ومنظمات حقوق الإنسان وبالتالي يرمم الاحتلال صورته العالمية أمام المنظمات الدولية خاصة وأنه مُقبل على محاججات الخميس القادم فيما يسمى محكمة الجنايات الدولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى