وقولوا للناس حسنًا
الشيخ كمال خطيب
أنا وأنت أصحاب القمامة
قال الابن لأبيه وقد رأى سيارة جمع القمامة والنفايات عند باب البيت، يا أبت إن صاحب القمامة عند الباب. فردّ عليه الأب بجواب فيه كل معاني الذوق والأدب، ويحمل كل رسائل التربية لابنه قائلا: نحن أصحاب القمامة يا بُني، أما هو فإنه صاحب النظافة. إن القمامة هي منا ولنا ونحن من أوجدها، أما هو فإنه جاء ليزيلها وينظف علينا. إن القمامة هي من مخلفاتنا نحن، ومشكورٌ من جاء ليرفعها من بيتنا وإن مثل هذا يا بني لا يستحق منك إلّا كل الاحترام والتقدير.
حريّ بنا أن نشيع الكلمة الطيبة فيما بيننا، وما يردده الآباء يتردد صداه على ألسن الأبناء. ولقد أمر الله جل جلاله المسلم لهذا لما قال: { وقولوا للناس حسنا } ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبّب إلينا لما قال: ” من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليقل خيرًا أو ليصمت”.
إنه الفارق الكبير بين أن نقول جاء الزبال أو جاء الكنّاس أو جاء صاحب القمامة، وبين أن نقول جاء عامل النظافة. وإن هذه الكلمات لا تعبر عن هوية عامل النظافة وانما تعبر عن هوية قائلها وقد قيل (تحرّ الطيب في كلامك كما تتحرى الجيد في زرعك).
إنها ببغاة كانت في بيت أحد الناس قد اشتراها لأطفاله، وكان كثير الشتم والسبّ والألفاظ النابية يقولها هو وأولاده، فكان ضيوف البيت إذا دخلوا يسمعون الببغاء وهي تردد ما يشبه الكلمات النابية والألفاظ السيئة مثلما تسمع في البيت من أصحابه.
وإنها ببغاء كانت في بيت إنسان آخر قد اشتراها لأطفاله، وقد اعتادت الأم والأب عند سماع الأذان أن تردد خلف المؤذن ثم تقول لابنها قم للصلاة اذهب للمسجد، فكان الضيوف اذا دخلوا البيت وحان وقت الأذان في المسجد المجاور فكانوا يسمعون الببغاء تقول قم للصلاة اذهب الى المسجد. هكذا هي الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، بينما الكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة بل مثل السم الزعاف، وتذكروا أن الألسن مغارف القلوب فنظفوا قلوبكم لتتطهر ألسنتكم وقولوا للناس حسنًا.
المعلم الفظّ والتلميذ المؤدّب
وقف المعلم في بداية الفصل الدراسي أمام تلاميذه يريد أن يتعرف على أسمائهم وعلى أهاليهم وماذا يعمل والد كل واحد منهم.
سأل المعلم أحد التلاميذ ماذا يعمل والدك؟ صمت التلميذ ولم يجب. سأله المعلم ثانية وبصوت أعلى: قلت لك ماذا يعمل والدك يا هذا؟ اكتفى التلميذ بالصمت ولم يجب. صرخ المعلم في وجهه أمام التلاميذ قائلا له: يا غبي ألا تعرف ماذا يعمل والدك؟ رفع التلميذ عينيه بهدوء ونظر في وجه المعلم بينما ترقرقت في عينيه دمعتان وقال: إن أبي نائم في قبره. عندها أدرك المعلم عظيم خطئه وأنه كان هو الغبي وليس التلميذ.
هكذا هي الكلمات إما سوطًا يلهب الظهر أو سكينًا يطعن الصدر، أو أنها النار والجمر. وإما أنها بلسم يداوي الجرح، أو دافع يحفز الهمم بل يجعلها تصل الى القمم، ولذلك قال الله سبحانه (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ).
وإنها الكلمة إما أن تبلغ بك الجنة أو أنها تهوي بصاحبها في النار سبعين خريفًا. وإن الكلمة مثل الرصاصة، ما أن تنطق بها حتى يصبح من المستحيل إعادتها، ولكنها قد تصيب في مقتل أو أنها تكون سببًا في ملامة تظل تلازمك. قال الاستاذ الدكتور حسان شمسي باشا في كتابه الرائع قمم تهوى النجاح: (فلا تتسرع بكلامك، وتذكر أن هناك أربعة أشياء لا يمكن إصلاحها. فلا يمكن استرجاع الحجر بعد إلقائه، ولا يمكن استرجاع الكلمة بعد نطقها، ولا يمكن استرجاع الفرصة بعد ضياعها، ولا يمكن استرجاع الشباب والعمر اذا مضى وانقضى ).
ما أجمل الهدي العمري للفاروق رضي الله عنه، وهو الذي كان يسير ليلًا فرأى نار مشتعلة، فأدرك أن حول وعند النار ناس، فلما اقترب نادى قائلًا: يا أهل الضوء. إنه كره أن ينادي بالقول يا أهل النار بل قال يا أهل الضوء تيمنًا وتفاؤلًا.
لا بل إن العرب في الجاهلية فإنهم حرصوا على انتقاء كلمات تبعث على البشر والتفاؤل. فالعرب تسمي مجموعة الخارجين في سفر “قافلة” تفاؤلًا بأن يسيّر الله لهم ” القفول” أي الرجوع والعودة من سفرهم. وإن العرب تطلق لفظ المفازة على الصحراء القاحلة الموحشة المهلكة لمن ضاع فيها، وذلك أملًا وتفاؤلًا بالنجاة من أهوالها، والفوز بالسلامة بعبورها وتجاوزها. فما أجمل انتقاء الكلمات وما أجمل أن تتذكر بأن الله يجعل لك أذنين اثنتين ولسانا واحدا، فاسمع كثيرًا وأقلل من الكلام، لأن من كثر كلامه كثر سقطه وكثرت أخطاؤه.
الطفل والسلحفاة
يحكى أن والدًا عثر على سلحفاة بين الأشجار قريبًا من البيت، فحملها وأتى بها إلى البيت ليلهو بها ابنه، ولقد ألف الطفل السلحفاة وألفته يلعب معها وتلعب معه ويضع لها الطعام.
وفي إحدى ليالي الشتاء الباردة جاء الطفل إلى سلحفاته يريد أن يلاعبها ويلهو معها، لكنه فوجئ أن السلحفاة قد دخلت في غلافها و قوقعتها على ما يبدو طلبا للدفء، حاول الطفل أن يخرجها فأبت، فراح يقلبها يمينا ويسارا فلم يفلح، راح يناديها بكلمات الدلع والتدليل التي اعتاد أن يناديها فلم ينجح، أخذ عودًا وراح يضربها به وهو يردد عبارات الغضب لكنها ازدادت تمنعًا وإصرارًا على ألّا تخرج رأسها.
وخلال هذا المشهد دخل الوالد على ابنه وهو حانق غاضب على سلحفاته، فسأله عن سبب غضبه فقال وحكى له مشكلته مع السلحفاة، ابتسم الوالد ابتسامة لطيفة وقال الوالد لابنه: دعها وتعال معي.
أشعل الوالد المدفأة وجلس مع طفله يحدثه ويتسامر معه. ومع انبعاث الدفء في الغرفة نسي الطفل السلحفاة وانجذب لحديث والده معه. لكنه سرعان ما شعر السلحفاة قريبة من رجليه طالبة الدفء. ابتسم الأب لطفله وقال له: يا بني إن الناس كالسلحفاة إن أردت أن ينزلوا عند رأيك ويكونوا قريبين منك، فأدفئهم بعطفك ولا تغلظ عليهم بالقول، ولا تكرههم بعصاك لفعل ما تريد.
هكذا يكون الفارق بين الإحسان في القول{وقولوا للناس حسنا} و بين الإكراه وغليظ القول. فبالإحسان أنت تخترق القلوب، وبغليظ القول أنت تغلفها بغلاف يصعب اختراقه، وهذا ما نبّه إليه الإمام الغزالي لما أرشد الوالدين إلى أن التعنيف في التربية لا يجدي نفعا، لا بل إنه يأتي بنتائج عكسية، فقال:(إن العصا وجارح الكلام لا يخرجان طفلًا مؤدبًا، وإنما يخرجان قردًا مدربًا)، أي أن استعمال الضرب والإهانة للطفل وخضوعه ليس معنى ذلك استجابته واقتناعه وأنه أصبح ولدا مؤدبا، وإنما هو مثل القرد الذي يخاف من عصا المدرب، فإذا ذهب المدرب وارتفعت العصا من فوق رأسه عاد قردًا مشاكسًا. وهذا ما اختصر به المرحوم الشيخ علي الطنطاوي الكلام الكثير في جمله جميلة لما قال: (اذا أردتم أن تتذوقوا أجمل لذائذ الدنيا وأحلى أفراح القلوب فجودوا بالحب و بالعواطف كما تجودون بالمال).
فنّ النصيحة
لا أحد منا معصوم وإنما كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون. ولعلّ الإنسان منا يخطئ في حق الله سبحانه ثم يتوب عن خطئه ويستغفر الله فيغفر له، ويموت هذا الشخص ولا يدري ولم يعلم بما فعله أحد لأن الله ستار ويحب الستر.
ولكننا حين نخطئ بحق بعضنا البعض، فإن منا من لا يهدأ له بال حتى يُشّهر ويفضح ويهتك ستر المخطئ مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ومن ستر مسلما ستره الله ” لا بل إن منا من يستمتع برؤية أخطاء الآخرين ليشمت بهم.
إنه يتمنى أن لو كل الناس يخطئون مثله، حتى لا يلومه على خطئه أحد. وإذا حاول أن يؤدي دور الناصح لذلك المخطئ فإن نصيحته تتحول إلى فضيحة، وهذا يتنافى مع الخلق الإسلامي الأصيل والذوق الإنساني الرفيع والسلوك النبيل.
يروى أن الحسن والحسين أبناء علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء وريحانتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مرّا على رجل أعرابيّ يتوضأ للصلاة ولكنه لا يحسن الوضوء، اتفقا على أن ينصحا الرجل ويعلماه كيف يتوضأ الوضوء الصحيح على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. تظاهر الحسن والحسين أن كل منهما يدّعي أن الآخر لا يحسن الوضوء وأنهما اتفقا على أن يكون هو الحكم بينهما. توضأ الحسن وتوضأ الحسين والرجل ينظر إليهما، فابتسم وقال والله إنني أنا الذي لا أحسن الوضوء، وأن كليكما يتوضأ الوضوء الصحيح، وشكر الرجل الحسن والحسين على ما قدّماه من نصح دون تجريح أو تأنيب على أنه كان فيما مضى يتوضأ بشكل غير صحيح.
وما أعظم ما نَظَمه الإمام الشافعي من شعر جميل فيه يلفت الانتباه إلى فن النصيحة وآدابها لأنها إن كانت عكس ذلك فإنها تصبح الفضيحة وليست النصيحة فقال:
تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرض استماعه
وإن خالفتني وعصيت قولي فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
وهو القائل رحمه الله: ” من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانيةً فقد فضحه وشانه “. وأما الفضيل بن عياض رحمه الله قد قال: ” المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويُعيّر” فكونوا الأول ولا تكونوا الثاني وقولوا للناس حسنًا.
رحم الله قارئا دعا لي ولنفسه ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون