أخبار عاجلةمقالاتومضات

صلاح دينك منبعُ أمنِك

سوسن محمد مصاروه
كان أهل سبأ يعيشون في خيرات كثيرة ورزقٍ وافر، البساتين والأنهار والثمار، وكانت قُراهم متقاربة، فإن سافروا لا يشعرون بصعوبة السفر، فالظل والماء والثمر من حولهم على طول الطريق، عاشوا بأمنٍ وأمانٍ لكنهم لم يعُوا هذه النعمة ولم يشكروا الله عليها، كذبوا الرسل ودعوا الله أن يُباعد بين قراهم: “فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ..” فكان العقاب: “فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ” (سبأ 19). ولو رجعنا إلى السبب لوجدنا أنّ طاعتهم للشيطان أبعدتهم عن الأمن والأمان، قال تعالى: “وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ” (سبأ 20)، فعاشوا في أنحاء الجزيرة مفرَّقين متباعدين.
لقد تعرض المجتمع المسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموجةٍ عاتيةٍ من الحرب النَّفسية كادت تعصف بأمنهِ وأمانهِ وتفُتُّ في عضده، ولم تكن هذه إلا حرب الإشاعة التي كانت تُدار هادئة وقت السِّلم وتشَنُّ عاتية وقت الحرب. كانت تتناول القيادة المسلمة حينًا بتَوهين أمرها وتقليل خطرها، فقالوا هو شاعر ومرةً كاهن، مجنون، وكانت تتناول منهجهُ حينًا آخر، وتدخل حرب السخرية لتلتقي مع السابقة في هدفها من قتل الثقة في نفوس المسلمين وإلقاء اليأس في قلوبهم، وهي سلاح فتَّاك كسابقتها، تلك الحرب النَّفسية وأشباهها كانت تُدار وقت السلم يُنفِّس فيها الباطل عن حقدِه محاولًا بثّ الضعف في النفوس.
والعجب أنّ القوم قد عرفوا أثر هذا النوع من الحرب فاهتموا بشأنه بحيث عمدوا إلى تنسيقها لتُحدث التشكيك والبلبلة في نفوس المسلمين. وكان الوليد بن المغيرة بارعًا في هذا اللون من الحرب النفسية، كان يتولى بنفسه تفريغ الإشاعة وصبِّها في قالب منطقي ويناقش القوم فيها ويتخير المناخ المناسب لإطلاقها ويتحرى التجمعات العامة.
آفة كبيرة ابتلي بها مجتمعنا، مدننا وقرانا، شوارعنا مدارسنا نوادينا حتى أنفسنا التي تسكن صدورنا بتنا نعنِّفها ونقسو عليها، ونخوّفها.
العنف بكل معانيه ومصطلحاته المتحضِّرة هو العنف، أشاعوا هذا المصطلح حتى صار مكرسًا في واقع حياتنا وأصبحنا نتساءل أهو حالة اجتماعية سيئة وصعبة تؤثر على شتّى مجالات الحياة أم سلوك مكتسب عن طريق التربية ينتقل من جيل إلى جيل عن طريق التقليد؟!
هذا المصطلح أضحى حديث الصغار قبل الكبار والشباب قبل الرجال والنساء والفتيات، نتصفّح مواقع الانترنت وكل مواقع التواصل والجرائد الأسبوعية والأخبار المتلفزة، فنسمع ونقرأ الكلمات النابية والشتائم، حوادث القتل، الضرب، الحرق، الاغتصاب، الصراعات الحادة بين الزوجين، بين الآباء والأبناء، بين الأخوة في البيت الواحد، بين الأصدقاء، بين الزملاء في العمل، بين الجماعات والأحزاب، بين الطلاب ومعلميهم … أين سنصل؟
يبدأ العنف باللسان والقلم ليتحول إلى استعمال أدوات حادة ثم يتطور الأمر فيُستعمل السلاح، فماذا تكون النتيجة؟ القتل، السجن، الطلاق، الرقود في المستشفى، الإعاقات، قطع العلاقات، انتهاك الحرمات، تشرد أفراد العائلة… ومادا بعد؟ ولماذا كل ذلك؟
أليسَ من المفروض أن تُبنى بيوتنا على المودة والرحمة؟
أليسَ من المفروض أن نربي أبناءنا وبناتنا على الحب والعفو والتسامح والحوار وسعة الصدر؟
ما أحوجنا اليوم لهذه الدروس لنقفَ صفًّا واحدًا أمام مخططات العدو وأساليبه الخبيثة، لنثبُتَ في ميدان الحرب النفسية ونواجهها بخطط محكمة مدروسة ومواقف ثابتة.
أعداؤنا؟ ومن هم؟؟
ما أكثر أعداءنا المتربصين بنا على مر العصور وما زالوا يكيدون للإسلام، وما أكثر ما يستخدمون ضدنا من أسلحة في حرب نفسية قاتلة، إنهم الأقوى اقتصاديًا وعلمًا، القوة التي لا تُغلب. ونحنُ! الضعفاء الجبناء الأقلية الرجعيون.
العصمة من ذلك تكمن في قوله تعالى: “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ” (آل عمران173).
اقتضت الرؤية الإسلامية أن يكون الأمن اجتماعيًا لا تقف طمأنينته عند الفرد، وجعلت اجتماعيته السبيل لتحقيقه في الإطار الفردي، هذا الأمن جعله الله فريضة وواجبًا شرعيًا وضرورةً من ضرورات استقامة العمران الإنساني كما جعلت هذه الرؤية الأساس لإقامة الدين، فرتبت على صلاح الدنيا بالأمن صلاح الدين.
وتأتي شرعية الأمن في الإسلام من قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ” (البقرة208)، وفي قول رسول الله صلى الله غليه وسلم: (لا يدخل الجنة مَن لا يأمنُ جارُهُ بوائقَه) رواه مسلم.
إنّ ما نراه اليوم من مظاهر العنف والفساد في مجتمعنا لهو دليل على بُعدنا عن دين الله وبُعدنا عن المنهج الرباني في تربية الأبناء والبنات وفي تربية النفوس على الالتزام بشرع الله تعالى.
نحنُ نسعى لبناء مجتمع صالح آمن، ولكن كيف؟ وبأيّ الطرق؟
المجتمع الأمن الذي يشعر فيه الناس بحرمة الأنفس والأعراض والأموال فيما بينهم ويؤدون فيه شعائر الدين بحريّة، هو المجتمع القابل للنمو والارتقاء والذي تتحقق فيه خيرية الأمّة كما قال تعالى: “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..”، هو المجتمع الذي ينطبق على أولي الأمر فيه قول الله: “الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ”، هو المجتمع الذي يعيش كل أفراده بأمانٍ كلٌ منهم عرف حقوقه وواجباته، عرف من أين تبدأ حدوده وأين تنتهي.
الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع، هيَ الأساس الاجتماعي في تشكيل وبناء شخصيات أفرادها حيث تُضفي على أبنائها خصائصها ووظيفتها، ولا حياة للأسرة إلا باستتباب الأمن ولا يمكن للأمن أن يتحقق إلا في بيئة أسرية مترابطة وجَو اجتماعي نظيف يسودُه التعاطف والتآلف والعمل على حبّ الخَير بين أفراده، كل ذلك ضمنَ عقيدةٍ إيمانيةٍ راسخة واتّباع منهج نبوي سديد، في ظل أسرة واعية تحقق في أبنائها الأمن العقدي والنّفسي والجسدي والغذائي والاقتصادي والصحي بما يُشبع حاجاتهم النّفسية، والتي ستنعكس بالرغبة الأكيدة في بث الطمأنينة في كيان المجتمع كله وهذا ما سيعود على الجميع بالخير الوفير.
فدوركم كمصلحين ودورنا كدعاة يلزمنا أن نعمل لإصلاح الأسرة ليصلح المجتمع لنعيش بأمان، علينا الانتباه لما يسمى (البطالة الفكرية والخواء الروحي) فهما سراج ووقود الخلل والفوضى في الشبهات والشهوات. فالأمن الفكري أصلٌ تقوم عليه مرتكزات حياة المجتمع ومسيرته فإذا كان الأمن الفكري مبرمجًا محسوبًا وملاحظًا بدقة فإنه يصل إلى الهدف المنشود، إلى حفظ العقول من الوقوع في الشبهات والانحراف والشذوذ ومزالق الشهوات.
الأمن والأمان عماد كل جهدٍ تنمويّ وهدف مرتقب لكل المجتمعات على اختلاف مشاربها، وقد صحّ عن النبيَ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَن أصبح آمنًا في سربه معافًى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى