أخبار رئيسيةأخبار عاجلةعرب ودولي

الدبلوماسية التركية الطبية.. قوة التأثير الناعمة الجديدة

هل بدأت تركيا تقطف ثمار سياستها العمومية الرامية إلى تشجيع قطاع الصحة وتنميته بقطاعيه العام والخاص، منذ سنة 2000؟
كانت جائحة كورونا فرصة للوقوف على مدى نضج قطاع الصحة بتركيا، حتى إن أنقرة صارت تنتهج الدبلوماسية الطبية كقوة تأثير ناعمة جديدة في رسم ملامح علاقاتها الدولية، ولا أدل على ذلك من إرسالها مساعدات طبية وعلاجية من أقنعة والأجهزة المساعدة على التنفس إلى أكثر من 137 دولة عبر العالم سنة 2020 كعربون تضامن ومساهمة على تجاوز آثار فيروس كوفيدـ19.
إن مفهوم الدبلوماسية الطبية ليس جديدًا في قاموس العلاقات الدولية، فقد كانت الكوارث الطبيعية والحروب، على مر التاريخ، فرصة للعديد من الدول لكي تعبئ قطاعها الصحي والإغاثي للتدخل وتقديم المساعدة الإنسانية، أما الجديد في الأمر، فهو ظهور تركيا بقوة على خريطة الدول التي صارت وازنة في مبادرات الدبلوماسية الصحية في مختلف بؤر التوتر والكوارث عبر العالم.
فما العوامل التي جعلت تركيا رائدة في المجال الطبي حتى ارتقى إلى تسخيره لخدمة سياساتها الخارجية؟ وكيف مكن ارتفاع الاستثمارات العمومية والخاصة في المجال الصحي البلادَ من أن تصبح مركزًا دوليًا رائدًا مقصودًا للسياحة العلاجية؟

المدن الطبية: عشر مفتوحة وثمان في طور الإنشاء
سلطت جائحة كورونا الضوء على مدى نضج القطاع الصحي بتركيا، ففي ذروة الحجر الصحي عبر العالم شيد الرئيس التركي طيب رجب أردوغان، في شهر أبريل، أكبر مدينة طبية بأوروبا بمنطقة باشاك شهير بإسطنبول.
ويندرج تدشين هذه المدينة ضمن الإستراتيجية التركية الرامية إلى إنشاء العديد من المدن الطبية ليس فقط لتلبية الطلب الداخلي على التطبيب والعلاج، بل أيضًا لتشجيع قطاع السياحة العلاجية كمصدر جديد من مصادر العملة الصعبة.
مدينة بشاك شهير الطبية هي عاشر مدينة طبية تم افتتاحها بتكلفة بلغت 5 مليارات دولار أمريكي، فضلًا عن ثماني مدن أخرى لا تزال قيد الإنشاء.
وبالإضافة إلى البنى التحتية، تملك تركيا الآن رأس مال بشري مؤهل من الأطر الطبية من أطباء وممرضين وتقنيين ومهنيي الصحة يتجاوز عددهم مليون وأربعمئة شخص، وأسطول سيارات إسعاف يبلغ 5000 عربة و19 مروحية للخدمات الطبية، وحسب إحصاءات منظمة OCDE، ففي تركيا هناك طبيب لكل 1000 مواطن و2.3 ممرض لكل 100 مواطن، وتبلغ مصاريف الإنفاق الصحي لفائدة المواطنين سنويًا ما معدله 1339 دولارًا أمريكيًا.
لا شك أن هذه المؤشرات تضع تركيا في مكانة متقدمة بين الدول الرائدة عالميًا في المجال الصحي، ففي الوقت الذي انهارت فيه الأنظمة الصحية في العديد من الدول، حيث لقي الناس حتفهم في المنازل وبممرات المستشفيات، كانت تركيا تدشن مدنًا طبية ومستشفيات بقدرة استيعابية تصل إلى 16 ألف سرير لاستقبال المرضى وتقديم الرعاية الصحية.
لقد كان لتميز الخدمات الطبية بتركيا الفضل في جعلها، على مدى السنوات الخمسة الأخيرة، قبلة للسياحة العلاجية موجهة للرجال والنساء على حد سواء من بينها على سبيل المثال وليس الحصر زراعة الشعر والأسنان والأعضاء ومعالجة السمنة والتجميل.

السياحة العلاجية.. 20 مليون دولار أمريكي في أفق 2023
قررت تركيا، منذ تسعينيات القرن الماضي، تحرير القطاع الصحي وسن سياسة عمومية تهدف إلى تقوية البنى التحتية الطبية ورفع عدد الجامعات والمراكز المتخصصة في تكوين الأطر الطبية.
20 سنة بعد ذلك، صارت تركيا الوجهة المفضلة قصد السياحة العلاجية بحيث استقبلت سنة 2018 أكثر من 550 ألف من مختلف أنحاء العالم لأغراض علاجية في مختلف التخصصات، وتراهن البلاد، بحلول 2023، على تحقيق رقم معاملات بقيمة 20 مليار دولار في قطاع السياحة العلاجية.
هناك عوامل مساعدة لجلب السياح قصد الاستشفاء تغذي هذا الطموح التركي: أسعار الطيران التنافسية للوصول إلى إسطنبول وباقي المدن التركية وتوفير بنية تحتية قوية من فنادق ومنتجعات لاستقبال زبائن السياحة العلاجية، فضلًا عن الشق اللوجيستيكي الذي يتولى خدمات النقل والتسجيل.

الدبلوماسية الصحية.. تركيا أول متبرع في التعاون الإنساني سنة 2017
تزايد الاستثمارات في البنى التحتية الطبية وتأهيل رأس المال البشري المتخصص شجع الدبلوماسية التركية على تسخير هذه الإمكانات لتصبح أول بلد مقدم لمساعدات طبية وإنسانية في العالم.
فحتى قبل حلول جائحة كورونا، كانت أنقرة تنشط عبر وكالة التنمية والتعاون والتنسيق TIKA والهيئة الخيرية IHH لتقديم الدعم الطبي والمساعدات الإنسانية للمتضررين عبر مختلف بؤر التوتر والأزمات الطبيعية والإنسانية.
ولعل هذه المبادرات ما جعلت تركيا ترقى إلى مكانة أول بلد متبرع في العالم سنة 2017 وذلك عبر تخصيص 0.75% من ناتجها الوطني الإجمالي لتمويل العمليات الإنسانية عبر العالم.
ومن المعلوم أن حضور الدبلوماسية الطبية التركية لا يقتصر على البلدان الإفريقية والدول السائرة في طريق النمو بل تعداه، خلال فترة جائحة كورونا، إلى الدول المتقدمة، فبفضل صناعتها القوية، كانت تركيا قادرة على تصدير المعدات الطبية كالأقنعة وأجهزة المساعدة على التنفس التي شهد الطلب عليها دوليًا ارتفاعًا ملحوظًا.
ومن تجليات القوة الدبلوماسية الناعمة، نجد تجنيد مختلف المستشفيات الخاصة والعامة لاستقبال الجرحى الليبيين ضحايا الصراع الدائر بين حكومة الوفاق والجنرال حفتر بعد انهيار المنظومة الصحية الليبية منذ سقوط القذافي، ولم تتردد أنقرة كذلك في إرسال مساعداتها الطبية والإغاثية إلى لبنان شهر أغسطس الماضي عقب انفجار مرفأ بيروت المباغت.
إن تعدد مواقع التدخل التركي الإنساني والطبي بشرق المتوسط وليبيا والشرق الأوسط وإفريقيا، كلها نقاط محورية تسعى من ورائها إلى تعزيز قوتها الناعمة خدمةً للدبلوماسية السياسية، فتناسق دبلوماسية أنقرة مع طموحات القطاع الخاص الطبي دفع تركيا إلى تبوء مكانة عالية بصفتها مركزًا ووجهةً للسياحة العلاجية وفي نفس الآن قوة ناعمة لها وزنها في العلاقات الدولية.
المصدر: نون بوست

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى