أخبار عاجلةمقالات

في رحيل الأستاذ عبد الحكيم مفيد

شريف محمد جابر
من النادر جدّا أن تظلّ عبارة قالها محاضِر عالقة في ذهني لعام أو عامين، ولكني ما زلت أذكر حتى اليوم عباراتٍ قالها الأستاذ الراحل عبد الحكيم مفيد رحمه الله حين كان يحاضر لنا في جامعة حيفا قبل أكثر من ستّة أعوام، في فترة انتخابات لجنة الطلاب، وكان السبب في احتفاظ ذاكرتي بتلك العبارات هو استنادها إلى منطق تحليلي عميق، ينبئ عن عقلية فذّة تختبئ وراء ذلك الرجل الغاضب الذي كان صوته مجلجلا في القاعة.. لم تكن عباراته مجرّد صرخات تعبوية تتلاشى بعد أيام، ولكنها كانت صرخات صدق محمّلة برصيد قيّم من الأفكار المترابطة والرسالة الواضحة. أدركتُ حينها أنني أقف أمام شخصية مختلفة عن معظم من كان يحاضر لنا.. أدركت أنني أقف أمام عبد الحكيم مفيد!
ولقد أحزنني كما أحزن جميع محبي الأستاذ عبد الحكيم خبر وفاته، فهو علامة مهمة في الحراك السياسي والدعوي والإعلامي في الداخل الفلسطيني، وسيترك ولا شكّ فراغًا وراءه.. إلا أنّ النفس سرعان ما تسكن إلى تدبير الله في أمر عباده وحقيقة الموت المكتوب علينا جميعًا، وتوقن بفناء هذه الدنيا ورحيل كل من أحببناهم وتعلّمنا منهم.. فهذه هي سنّة الحياة، وتبقى دروس الاعتبار هي الذخيرة الباقية بعد الموت، يُفيد منها من أراد الاعتبار والإصلاح.
إنّ هذه السطور القليلة التي أنثرها هنا في رحيل الأستاذ ليست ممّا يفي بحقّه وبسيرته الزاخرة، ولكنّي أحببتُ تسليطَ الضوء عليه لأنني أعتبره قدوة فكرية وثقافية وسياسية وتربوية يجدُر بالشباب أن يحذوا حذوها.. فعبدُ الحكيم مفيد هو ذلك الشاب الواعد الذي تفجّرت فيه روح النضال منذ أن كان في شبابه الباكر، وقد ضلّت به طرق الحياة ليبدأ مشواره الفكري والسياسي في صفوف التيه العلماني، ليدخل بعد ذلك سريعًا في أفق أوسع ومداركَ أرحب، هي مدارك الإسلام والدعوة إليه والنضال على هداه.
وحين أستذكر سيرة الرجل أرى فيه مصداق قول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما جاء عنه في مصنّف ابن أبي شيبة أنّه خطب فقال: “قد علمتُ ورب الكعبة متى تهلك العرب. فقام إليه رجلٌ من المسلمين فقال: متى يهلكون يا أمير المؤمنين؟ قال: حين يَسوسُ أمرَهم من لم يُعالج أمرَ الجاهلية ولم يصحب الرسول صلى الله عليه وسلم”. ولقد عالج عبد الحكيم مفيد رحمه الله أمرَ الجاهلية جيّدا، حتى وجدناه يفرّق بدقة بين مذاهبها ويدرك الآفاق الضيّقة التي خرج منها إلى رحاب الإسلام، فكان بهذه المعرفة وبما منّ الله عليه نموذجًا للمسلم الذي يقتدى به. كان يحدّثنا في الجامعات عن “السقف الأعلى” للأحزاب العلمانية، كمْ هو هزيلٌ وبائس، وهو سقف الأسرلة والمساواة.. لينتقل بتفكيرنا إلى السقف العالي للإسلام.
ولقد تمكّن الرجل من الجمع بين الرسوخ الشرعي والدراسة الأكاديمية والنضال الميداني في آنٍ معًا؛ فكان يحضّر الماجستير في الشريعة، في الوقت الذي يُكمل فيه رسالة الدكتوراة في الإعلام، في الوقت الذي يناضل فيه في ميادين القدس والنقب ويافا وحيفا وعكا! وقلّما تجتمع هذه الطاقات في رجل خمسيني، ولكنّها تدلّ على ما يمكن أن يصل إليه الإنسان حين يكون رساليّا جادّا في حياته، مدركًا لقيمة الوقت وشاكرا لموهبة المنعم عزّ وجلّ، ليُسخّر عقله وقلبه وجوارحَه في رسالة واضحة وعملٍ دائب لا يكفّ حتى يكفّ قلبه عن الخفقان.. ولا عَجَبَ أن يتوقّف هذا القلب النابض بالرسالة في قمّة عطائه وفي خضمّ اشتباكه بالواقع للإصلاح. ولا أخفي أن حقيقة وفاة الأستاذ قرب عكا قد هزّتني هزة إضافية؛ فموت من نعرف ونحبّ ونجلّ يوقظ لوحده في قلوبنا ما يوقظ، ولكن الموت هنا كان قريبًا جدّا، وكأنها رسالة تقول لي: “أنت قريبٌ جدّا من الموت، فماذا قدّمت من عمل؟”.
كان من من مقادير الله أن يكون الرجل اسمًا على مسمّى، فقد كان في حياته عبدًا لله، نحسبه كذلك ولا نزكّيه على الله. وكان حكيمًا يسبر أغوار الخطابات والمشاريع ويُرشد إلى خير الأمور. وكان مُفيدًا لأمّته خادمًا لمجتمعه.
وأخيرا، لا يسعنا إلا أن ندعو للأستاذ عبد الحكيم مفيد بالرحمة والمغفرة، وأن نتقدّم بخالص التعازي لأسرته الصابرة المحتسبة، راجين من الله عزّ وجلّ أن يتغمّده برحمته ويُسكنَه جنّته، وأن يُكرم هذه الأمة بنماذج من الشباب الرساليّ الذي يَهَبُ حياته للإصلاح والتغيير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى