أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةعرب ودولي

«الإندبندنت»: هكذا يستخدم النظام في الجزائر كورونا لسحق الثورة

هذا موجز ما يحدث في الجزائر الآن، كما يرويه مراسل صحيفة «الإندبندنت» البريطانية للشؤون الدولية، بورزو دراجاي، في تقريرٍ استهله بالإشارة إلى أن خطر فيروس كورونا المستجد يثني الجزائريين بالفعل عن الخروج إلى الشوارع للاحتجاج ضد النظام القويِّ الجاثم على صدورهم منذ حوالي ستة عقود.

كورونا ليس كافيًا.. وسائل الحكومة لقمع الحراك
وكأن الفيروس لم يكن كافيًا، فرأت الحكومة ضرورة التأكد من أن المواطن فاروق القادري ليس بمقدوره مغادرة منزله للانضمام إلى الاحتجاجات الأسبوعية المناهضة للحكومة. والحل الذي توصلت إليه السلطات في مدينته كان بسيطًا: زرع ضابطي شرطة أمام منزله بعد ظهر كل يوم جمعة.
«يأتون في حوالي الساعة الثانية بعد الظهر ولا يغادرون حتى تغرب الشمس. أي يرابطون أمام المنزل طيلة الوقت الذي تخرج فيه الاحتجاجات»، بحسب ما قاله القادري لصحيفة «الإندبندنت»، وهو محاسب يبلغ من العمر 32 سنة، ويعيش في مدينة الوادي جنوب الجزائر.
لم يكتفِ رجال الأجهزة العسكرية والأمنية الجزائرية الموجودون في كل مكان بذلك، بل اتخذوا تدابير أخرى للتأكد من إفقاده توازنه؛ فطردوه من وظيفته، وأمروا أصحاب العمل المحتملين في مدينته بألا يوظفوه، بل حبسوه في السجن لعدة أشهر بتهم زائفة، ثم يطلبون منه حضور جلسات الاستجواب أسبوعيًّا.

والقادري ليس بِدْعًا من قادة الحراك في جميع أنحاء البلاد الذين استهدفتهم السلطات بمثل ما استهدفت به رفيق ثورتهم، مستغلةً الجائحة القاتلة التي ضربت العالم لإعادة إحكام قبضتها على المجتمع، وضرب حركة الاحتجاج التي أطاحت العام الماضي الرئيس الذي ظل يحكم البلاد لفترة طويلة، وكانت حتى قبل أشهرٍ قليلة تشكل تهديدًا على النفوذ الراسخ الذي لطالما تمتع به الجنرالات والعشائر، التي تدير البلاد الغنية بالنفط من وراء الظلال.

هكذا أصبحت جائحة كوفيد-19 شريان حياة للنظام
«كانت هذه الجائحة شريان حياة للنظام»؛ كما يقول أريزكي داوود، ناشر ومحرر مجلة شمال أفريقيا، التي تغطي الأحداث الجارية المتعلقة بالمسائل الأمنية في جميع أنحاء المنطقة.
يضيف داوود لصحيفة «الإندبندنت»: «كيف بمقدورك أن تمنع ملايين الناس من الخروج إلى الشوارع؟ إحدى الطرق هي استخدام القوة، لكن ذلك يمكن أن يأتي بنتائج عكسية. ثم يهبط عليك هذا الشيء القادم من السماء. يا لها من طريقة رائعة لتقول للناس: (عليكم العودة إلى منازلكم)».
يشير التقرير إلى أن انتفاضة الجزائر التي انطلقت العام الماضي، وانضوت في تجمعٍ فضفاض تحت راية «الحراك»، بدأت أول مرة في شهر فبراير (شباط) 2019، وظلت جذوتها تتوهج لأشهر، يغذيها خروج مئات الآلاف إلى الشوارع في العاصمة والمدن الكبرى والبلدات الصغيرة كل يوم جمعة.
اجتذبت الانتفاضة المحامين، والعمال، وربات البيوت، وعمال الفنادق، والإسلاميين، والليبراليين، واليساريين. كانت تلقائية، يقودها الطلاب والشباب لكنها لم تقتصر عليهم، بل انضم إليهم الآباء، الذين جلبوا أطفالهم الصغار معهم للمشاركة في الاحتجاجات. تنوعت المشارب واختلفت الوجوه، لكنهم جميعًا احتشدوا تحت سقفٍ واحد: ضاق ذرعهم بالفساد وانعدام الكفاءة اللذين تغلغلا في أوصال النظام الجزائري المتحجِّر الجاثم على صدر 42 مليون نسمة، هي تعداد البلد الأكبر في أفريقيا من حيث المساحة، وثاني أكبر دولة في العالم العربي من حيث عدد السكان.
في المقابل، يتألف هذا النظام من أصدقاء وعائلات وموالين للأشخاص أنفسهم الذين قادوا حرب الاستقلال ضد فرنسا قبل ستة عقود، ولاحقتهم الاتهامات بسرقة ثروة البلاد من المواد الهيدروكربونية (النفط والغاز) وسوء إدارة البلاد، بدءًا من الرعاية الصحية، مرورًا بالتعليم وحتى النقل.

بموازاة ذلك، اندلعت احتجاجات سلمية في السودان والعراق ولبنان، وهي البلدان التي بقيت إلى حد كبير خارج فلك انتفاضات الربيع العربي التي انطلقت في عام 2011، وما تزال عواقبها ملموسة في جميع أنحاء المنطقة.
فوجئت الزمرة الجزائرية الحاكمة بالحراك، فحاولت أولًا منع الاحتجاجات الأسبوعية، لكنها فشلت، فما كان منها إلا أن انتقلت لاستيعاب أهداف الانتفاضة. وبعد إخراج الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من المشهد، أعلنت النخبة الحاكمة من وراء الظلال عن إجراءات غامضة لمكافحة الفساد وإجراء انتخابات جديدة.
لكن المعارضة الغاضبة قاطعت الانتخابات، التي فاز بها رئيس الوزراء السابق عبد المجيد تبون. وأدرك الكثير من الجزائريين أن السلطة الحقيقية بقيت في قبضة رئيس أركان الجيش، أحمد قايد صالح. لكن بعد أيام من أداء تبون اليمين، توفي الجنرال واسع الحيلة، وهو التطوُّر المفاجئ الذي منح الحركة الاحتجاجية قُبلة حياةٍ جديدة مع شروق شمس عام 2020. واستمرت الاحتجاجات المنتظمة حتى سددت الجائحة ضربتها.
وبحلول شهر مارس (آذار)، قرر المحتجون أنفسهم – الذين اعتادوا على إظهار مسؤوليتهم المدنية بتنظيف الشوارع بعد المظاهرات – أن صحة الناس أكثر أهمية من السياسة.

«دولة داخل الدولة».. لا أحد بعيد عن ذراع أجهزة المخابرات الجزائرية
يلفت مراسل «الإندبندنت» إلى استمرار نشاط قوات الأمن الجزائرية الغامضة؛ ذلك أن أسوأ الفروع الأمنية، وهي دائرة الاستعلام والأمن (المخابرات الجزائرية المعروفة بالمختصر الفرنسي DSS)، ما تزال متجذرة بعمق في البلاد، بفضل انتشار عملائها في كل مؤسسة وطنية وإقليمية ومحلية.
في ظل هذا التغلغل المخابراتيِّ، استغلت السلطات تفشي فيروس كورونا المستجد وفرضت حظرًا على كافة التجمعات العامة بدءًا من يوم 17 مارس، وشنت دائرة الاستعلام والأمن حملاتها للقضاء على المعارضين الحكوميين الذين سبق وأن رصدتهم بالفعل أثناء الموجة الأولى من الاحتجاجات.
يعود مراسل «الإندبندنت» إلى الناشر داوود الذي يصف هذه الأجهزة بأنها «دولة داخل الدولة»، ويضيف: «لا توجد مؤسسة جزائرية لم تتسلل إليها دائرة الاستعلام والأمن، سواء كانت المطارات أو إدارات الدولة أو المؤسسات العامة أو الشركات الخاصة. يحصل هؤلاء الرجال على مقابل مُغْرٍ للغاية، ولذلك لديهم ولاء قوي لمنظمتهم».
في شهر يونيو (حزيران) فقط، اعتقل 31 ناشطًا على الأقل، معظمهم بسبب نشرهم محتوى مناهضًا للحكومة على مواقع التواصل الاجتماعي، بحسب مجموعة شعاع التي تراقب الاحتجاجات الجزائرية وتتخذ من لندن مقرًّا لها. حتى الصحافيين الذين ينتقدون حكومة تبون، لا ينجون من الاعتقال أو الترهيب.
وقالت منظمة «مراسلون بلا حدود» في بيان: «إن جائحة الفيروس التاجي كانت كالريح المفاجئة التي أتت بما تشتهيه الحكومة الجزائرية؛ لأنها قوَّضت حركة الاحتجاج، واستغلت السلطات هذا الوضع لتضييق الخناق بشدة على تدفق الأخبار والمعلومات».
يُطارِد رجال الأمن الذين يرتدون ملابس مدنية النشطاء في الشوارع، أو يقبضون عليهم من منازلهم ويخفونهم لأيام. ونشر مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي هذا الأسبوع خبرًا عن الناشط السياسي المعتقل عبد الله بنعوم، وهو يعاني من مشكلة صحية في القلب قد تودي بحياته داخل السجن.
تنقل الصحيفة البريطانية عن رشيد عوين، مدير مجموعة شعاع: «للأسف، يحاول النظام إيقاف كل الثوريين والصحافيين والناشطين في مجال حقوق الإنسان. يحاول النظام إبعاد كل النشطاء وجميع الأشخاص الذين يتظاهرون من المشهد».

فنُّ تحويل الجائحة القاتلة إلى مطرقة لسحق المعارضة
من بين كل الدول التي شهدت اضطرابات سياسية في الشرق الأوسط، أثبتت الجزائر أنها الأكثر مهارة في تحويل الجائحة إلى مطرقة لسحق المعارضة.
يقول إيريك جولدشتاين، الباحث في شؤون شمال أفريقيا في «هيومن رايتس ووتش» عن ذلك: «إنها الدولة الأكثر استغلالًا لفيروس كورونا المستجد في الشرق الأوسط بهدف كبح جماح حركة الاحتجاج السلمية التي كانت نابضة بالحياة». يضيف جولدشتاين: «لقد كانوا يعتقلون قادة الاحتجاجات على الأرض، ويعتقلون الأشخاص الذين انتقلوا باحتجاجاتهم إلى شبكة الإنترنت عن طريق مراقبة صفحاتهم على فيسبوك».
يعود مراسل «الإندبندنت» إلى قادري الذي أعلن معارضته للنظام على شاشات التلفاز و«فيسبوك»، ليكون مصيره السجن أربعة أشهر، قبل أن يُسمَح له أخيرًا بالخروج في شهر فبراير. هو أب لولدين، واحتُجزَ في زنزانة قذرة، وبينما نجا من التحرش الجسدي، وُجِّهَت إليه حزمة اتهامات شملت التحريض على تجمع غير قانوني، والتحدث علانية ضد الجيش، الذي ما يزال العديد من الجزائريين ينظرون إليه بصفته مؤسسة نزيهة وتحظى بتقدير.
ينقل مراسل «الإندبندنت» عن قادري قوله: «عاملوني كما لو كنتُ إرهابيًّا. بينما لم أكن في الحقيقة سوى مدافع عن حقوقي، ولا أنطق إلا بالحقيقة».
ينتقل التقرير إلى نور الهدى أوجادي، وهي طالبة جامعية تبلغ من العمر 25 سنة تعيش في مدينة تلمسان شمال غرب الجزائر، اعتقلت في يناير (كانون الثاني) وقضت حوالي سبعة أسابيع في السجن. كانت التهم الموجهة إلى نور الهدى لا تختلف كثيرًا عن التهم المعتادة التي تكيلها الأنظمة العربية للمعارضين: إهانة النظام، والتحريض على التجمعات غير القانونية، وإضعاف معنويات القوات المسلحة.
أما ما لم يكن معتادًا، فهو السجن الذي كان قاسيًا على الفتاة العشرينية. أخبرت «الإندبندنت» بمعاناتها في مقابلة عبر الهاتف قائلة: «كان الوضع عصيبًا حقًّا؛ لأننا كنا في فصل الشتاء، ولم تكن هناك تدفئة ولا طعام صحي». لكن بمجرد خروجها في فبراير، عاودت الانضمام إلى صفوف الاحتجاجات، حتى توقف الحراك.

هل كانت جذوة الاحتجاجات تذبل حقًّا حتى قبل ظهور الجائحة؟
يقول بعض النشطاء إن جذوة الاحتجاجات كانت تذبُل بالفعل حتى قبل ظهور فيروس كورونا؛ نتيجة الإرهاق الذي بدأ يغزو صفوف المحتجين بعد عامٍ مُجهِد من التنظيم والفعاليات السياسية التي أداروها بلا كلل.
تنقل الصحيفة البريطانية عن ناشط في الجزائر العاصمة، طلب عدم ذكر اسمه، قوله: «لا يمكننا أن ننكر أن الجائحة أبطأت عجلة الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد. الناس لا يحبون أن يعترفوا بذلك، لكن الحركة كانت في خطر حتى قبل أن تحلَّ الجائحة. على سبيل المثال، لم تكن احتجاجات ديسمبر «كانون الأول» تحظى بالزخم الذي كانت تحظى به احتجاجات يونيو (حزيران) ».
في المقابل، يلفت مراسل «الإندبندنت» إلى أن النظام الجزائري لديه أيضًا مؤيدوه، الذين أصر بعضهم على المشاركة في انتخابات ديسمبر، التي تؤكد الحكومة أن 40% من الناخبين شاركوا فيها، وإن سجلت بعض المحافظات نسبة مشاركة أقل من 1%، بينما لم يُسمح للمراقبين المستقلين بمراقبة سير العملية الانتخابية.
يتهم مؤيدو الحكومة المتظاهرين بأنهم مخدوعون بالأفكار التي زرعها الأجانب في عقولهم، ويعربون عن خشيتهم من انزلاق البلاد إلى مستنقع الفوضى كما حدث في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، عندما أشعلت موجة قوية من المعارضة السياسية نيران حرب أهلية شرسة.

لكن التقرير يرصد ما يعده مؤشرًا على ضعف النظام، وتحديدًا المزاعم بأن الحكومة تجهض محاولات المتظاهرين حشد الدعم للاحتجاجات من خلال تجنيد جيوش التصيد الإلكتروني. يقول داوود: «كان هذا النظام معتادًا على استخدام أدوات قديمة، وقد بدأ للتو في إدراك أن الطريقة التي يحتاجها الآن لكبح جماح المعارضة تختلف عن الطريقة التي قمعها بها في السبعينيات. ليس لدى النظام آلة علاقات عامة، أو متحدثون أذكياء، ولا يفهم المعارضة».

كثير من المشاركين في الحراك يقولون إن الاحتجاجات ستستعيد عافيتها مرة أخرى بمجرد انحسار المخاوف من فيروس كورونا المستجد، خاصة وأن النظام فشل في التصدي للجائحة، ونتيجة لذلك مات ما لا يقل عن ألف شخص من جراء الإصابة بمرض كوفيد-19، وأصيب ما يقرب من 20 ألف شخص، مما يجعل الجزائر الدولة الأكثر تضررًا في شمال أفريقيا.

شرخٌ في جدار النظام.. هل يمنح قبلة الحياة للحراك؟
يعود مراسل «الإندبندنت» إلى الطالبة الناشطة نور الهدى التي تقول: «يتطلع الناس إلى العودة للشوارع. لا شيء تغيَّر. لا تستطيع الحكومة التصدي للجائحة، ولا يمكنها أن تلبي احتياجات الناس». ويقول داوود إن جدار النظام ما يزال يعاني من شرخٍ هائل، إذ تستخدم الطغمة الحاكمة والجنرالات ذوو النفوذ القوي وسائل قانونية وخارجة عن القانون لملاحقة بعضهم بعضًا مثلما يفعلون بالمتظاهرين.
نتيجة لهذا التنافس الداخلي، يسقط مسؤولون رفيعو المستوى بانتظام على مذبح محاكمات الفساد، مما يثير الرغبة في الانتقام لدى الموالين في الفصائل الأخرى. ويقول داوود إن تبون ما يزال يتبنى نهجًا إصلاحيًّا، ويسعى إلى عقد مصالحة، بينما يعارضه المتشددون، الذين يحاولون تقويض محاولاته المتواضعة لإحداث تغييرات.
الخبر الجيد أن كل هذه الصراعات تخلق فرصة لعودة الحراك. ويتوقع داوود أن تنبض الشوارع من جديد بالاحتجاجات بمجرد انتهاء أزمة الفيروس. صحيحٌ أنه يعترف بأن العودة ستستغرق بعض الوقت، ولكنه على يقين بأن الحراك سيستعيد عافيته؛ لأنه «انطلق في البداية كهبَّة عفوية، وانتشر على نطاق واسع»، وحين يخرج المارد من قمقمه لا يمكن بعدها السيطرة عليه، أو هكذا يأمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى