أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

دور الصوفية في نصرة القدس والمسجد الأقصى

د. أنس سليمان أحمد
لقد كان لأتباع الحقيقة الصوفية الذين ساروا على خُطى الإمام الجنيد وإبراهيم بن الأدهم والحارث المحاسبي والشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ إبن عطاء السكندري الدور البارز في نصرة القدس والمسجد الأقصى، وقد كان هذا الدور متألقا على عهد السلطان نور الدين زنكي ثم على عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، لذلك فإن صلاح الدين اهتم بجذب العلماء إلى مصر، وقد إهتم كذلك بجذب الصوفية، فأنشأ لهم (خانقاه) للصوفية في مصر، ووقف عليهم أوقافاً جليلة، وولّى عليهم شيخاً يُدبّر أمورهم عُرف بشيخ الشيوخ، ويذكر المقريزي “أن سكانها من الصوفية كانوا معروفين بالعلم والصلاح، وأن عدد من كان بها بلغ الثلاثمائة، وقد رتّب لهم السلطان الخبز واللحم والحلوى في كل يوم، وأربعين درهماً في العام ثمن كسوة، وبنى لهم حماما بجوارهم، ومن أراد منهم السفر أعطي نفقة تعينه على بلوغ غايته”.
وهذه العناية الزائدة بأمور الصوفية كانت تستهدف مسح آثار الفاطميين الباطنية على عاطفة الناس في مصر وإشباعها بأخلاق الصوفية السهلة السمحة، وزهدهم في متاع الدنيا، وقدرتهم على مخاطبة عواطف الناس عن طريق مجالس الوعظ والذكر.
وفعلاً نجح الصوفية في العصر الأيوبي في لفت أنظار الناس إليهم، فيحكي المقريزي: “أن الناس كانوا يأتون من مصر إلى القاهرة ليشاهدوا صوفية خانقاه (سعيد السعداء) وهم متوجهون إلى جامع الحاكم لأداء صلاة الجمعة، حتى تحصل لهم البركة، والخير بمشاهدتهم”.
وهكذا كان للصوفية دور بارز في إعداد أهل مصر إعداداً تربوياً روحياً عاطفياً ليوم الصدام مع الصليبيين وتحرير القدس والمسجد الأقصى.
وما كان ذاك ليكتمل إلا بأمرين: الأول تطهير الناس في مصر من لوثة التربية الباطنية الفاطمية، والثاني تعبئة الناس في مصر بالتربية السنية القائمة على الحقيقة الصوفية، وهو الدرس الذي استفاد منه الإمام حسن البنا فيما بعد من سيرة صلاح الدين الأيوبي، فعكف الإمام البنا على تربية الناس في مصر على الحقيقة الصوفية، وبنى منهم كتائب من المجاهدين نجحت أن تخترق صفوف العدو وأن تصل إلى صور باهر إحدى ضواحي القدس، وكادت أن تحبط كل المؤامرة على فلسطين وأن تبعد عنها شبح النكبة لولا أن المؤامرة التي شارك فيها بعض صعاليك العرب إلتفّت على تلك الكتائب كما إلتفّت على فلسطين.
وإلى جانب الدور الإصلاحي الذي كان لأتباع الصوفية في مصر فقد كان لهم دورهم الإصلاحي في الشام، لذلك فقد جعل صلاح الدين داره في دمشق عندما انتقل إلى مصر (خانقاه للصوفية) وبنى إبن شداد في حلب دارا للصوفية، وكانت غاية الاهتمام بالصوفية في الشام كما كانت نفس الغاية في مصر، وهي تنشيط حركة إصلاح تربوي روحي عاطفي لإعداد أهل الشام ليوم الصدام مع الصليبيين وتحرير القدس والمسجد الأقصى. وقد يسأل سائل: ما هي (الخانقاه)؟ وجوابا على ذلك أقول: لفظ خانقاه هو لفظ فارسي، معناه في الأصل: المائدة، أو المكان الذي يأكل فيه الملك، ثم أطلق بعد ذلك على الدور التي قام على إنشائها الملوك والأمراء الراغبون في عمل القرب والمبرات لإيواء الغرباء من المسلمين الوافدين إلى ديارهم، والقيام بمعيشتهم وتثقيفهم، والخانقاه الصوفية كانت أشبه ما تكون بالمدرسة، لأنها كانت فعلاً مدرسة العامة ممن نذروا أنفسهم لحياة الزهد، والتقشف، سواء كانوا من أبناء الشعب أو من أرباب الحرف والصناعات، الذين عملوا على حمل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الطرق والأسواق. وقد سار صلاح الدين على نهج أستاذه نور الدين زنكي، فاهتم برواد الخانقات الصوفية، وأحسن إليهم، واستشارهم في كثير من الأمور، ووقّر علماءهم، وجلس إليهم، واستمع إلى نصحهم، ووقفوا معه في حروبه ضد الصليبيين في مواقع كثيرة. وقد نشأ صلاح الدين وترعرع مع أبيه نجم الدين أيوب الذي كان محسنا، حسن السيرة، كثير الإحسان إلى الفقراء والصوفية والمجالسة إليهم، وقد رأى إبن خلكان في بعلبك خانقاه للصوفية يُقال لها: النجمية، منسوبة إلى نجم الدين أيوب. وكان صلاح الدين على يقين لا ريب فيه أنه حتى يخلص البلاد من الصليبيين، وحتى يحرر القدس والمسجد الأقصى من براثنهم لا بد من تحقيق وحدة المسلمين وإعداد قوة الإسلام المادية والروحية، فدفعه ذلك إلى الإكثار من بناء الخانقات الصوفية حتى تكون له عوناً بعد تواكله على الله تعالى على تحقيق هذه الغايات التي ستلتقي كلها في الجهد الجاد الراشد المطلوب لنصرة القدس والمسجد الأقصى. ولذلك كان -رحمه الله- أينما حلّ ونزل يبني المدارس الشرعية والخانقاوات الصوفية جنباً إلى جنب، حتى بعد أن فتح القدس وحرر المسجد الأقصى، حيث أمر المسلمين بالمحافظة على كنيسة القيامة، وبنى بالقرب منها مدرسة للفقهاء الشافعية، ورباطا للصلحاء الصوفية، ووقف عليها وقوفا.
وفي فتحه لعكا وقف نصف دار “الاستبار” رباطاً للصوفية، ونصفها مدرسة للفقهاء. وقد كان صلاح الدين يصحب معه علماء الصوفية لأنه كان على دراية يقينية أن وجودهم يُعتبر حافزاً قوياً للمريدين على القتال ببسالة وشجاعة نادرة. ولذلك كانت شخصيته محببة لأهل التصوف، فقد سلك طريق الزهد، لدرجة أنه لم يحفظ ما تجب عليه الزكاة، ولم يخلّف في خزانته إلا سبعاً وأربعين درهماً ناصرية وجرما واحدا ذهبا، ولم يخلّف مُلكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستاناً ولا شيئا من أنواع الأملاك. ومما يؤكده المؤرخون أن المتطوعين في جيش صلاح الدين كانوا ينتمون إلى مختلف الفئات الاجتماعية من المسلمين من أبناء القبائل والقرويين، وأهل المدن، من الفقراء والأغنياء لا سيما العلماء والصوفية. وأن هؤلاء المتطوعين قاموا بعمل مجيد يوم حطين، وأسهموا في إحراز النصر بسرعة على الصليبيين، حيث اندفعوا وأضرموا النار في الحشيش اليابس المحيط بالصليبيين، فتأجج عليهم استعارها، وهكذا اجتمع على الصلبيين العطش، وحر الزمان، وحر النار، والدخان، وحر القتال، ثم حر مرارة الهزيمة، وفي إثر انتصار حطين طلب صلاح الدين من المتطوعين الذين كان من ضمنهم المتصوفة أن يقتل كل واحد منهم أحد الأسرى المنتمين إلى الفرقتين الصليبيتين: الداوية، والاسبتارية، رغم ما عُرف عن صلاح الدين من تسامح لأن جنود هاتين الفرقتين كانوا من الغدّارين الناكثين للعهود الذين أفسدوا وذبحوا وأحرقوا ولم يرقبوا في امرأة ورجل وطفل إلاً ولا ذمة. فطبّق عليهم صلاح الدين القاعدة التي تقول: الجزاء من جنس العمل. وهكذا طبّق الملك العادل هذه القاعدة على أسرى الأسطول البحري الصليبي الذي اخترق البحر الأحمر، ونهب سفن الميرة التي كانت متجهة لتموين مكة المكرمة والمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأغرقوا السفن التي كانت تُقل حجاج بيت الله الحرام، ثم توجهوا نحو المدينة المنورة لنبش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا هزّمهم القائد البحري الأيوبي حسام الدين لؤلؤ أخذ أسراهم إلى الملك العادل في مصر، فأمر الصوفية والعلماء بقتلهم جزاء وفاقا لبشاعة جرائمهم. وهكذا كان هذا الدور البارز المتألق للصوفية في نصرة القدس والمسجد الأقصى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى