أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

أوراق في زمن الكورونا…واقعنا المخصوص … رؤية مستقبلية في ظل واقع متكدر (6)

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
ابتداء…
تعتبر السلطة المحلية في العصر الحديث أحد أدوات العلاقة بين السلطة المركزية والمواطنين وهذه الأداة (في حالتنا السلطة المحلية) وسيط بين الدولة ممثلة بالحكومة والشعب ممثلا بهذه السلطة. في سياقات الديموقراطية الاسرائيلية كلتا السلطتين منتخبتين من طرف نفس المجموعة “السكان” والسلطة المحلية بوصفها وسيط منتخب فهي تقوم بعدة وظائف بينية ومن أهم هذه الوظائف أن هذه السلطة هي في حقيقتها جسم سلطوي يقوم بشكل مباشر أو غير مباشر بتمثيل السلطة المركزية في إجراءاتها وعلاقاتها مع السكان، مستمدة أفعالها من القوانين والاجراءات التي تسنها السلطة التشريعية وتنفذها السلطة التنفيذية وبما تنفذه من إجراءات قانونية تصدرها الحكومة ممثلة بالوزارات ذات الصلة (وزارة الداخلية في إسرائيل ووزارات الحكم المحلي في بلدان أخرى)، وهي تمارس هذه السلطة تحت عين وبصر ورقابة السلطة المركزية، في الحالة الاسرائيلية وزارة الداخلية.
ما يميز السلطة المحلية أنها تملك قوة بناء شبكة من العلاقات مع مختلف الوزارات أو الاجسام التي يمكن أن تخدم مصالحها التي بطبيعة الحال تصب في مصلحة السكان، ولذلك تعززت مكانة السلطة المحلية في سياق تناقضات العلاقة البين مؤسساتية داخل الكيانات ذاتها أو مع ما هو خارج منها وعنها في عصر العولمة، وما يظهر من تناقضات بين السلطة المركزية والسلطة المحلية ضمن ما يطلق عليه جدل ثنائيات الهويات والحيز داخل الدولة الواحدة (لبنان العراق إسرائيل تمثل عينات ممتازة لما أشير إليه).
تنامي قوة المدينة
في عصر العولمة وسيولة الأسواق والمعلومات وسيولة تكنولوجيا المعلومات تطورت مكانة السلطات المحلية لتصبح أكثر تعقيدا وشريكا في الأسواق، سواء كانت أسواقا محلية مخصوصة أو مناطقية أو حتى عالمية ويتبع ذلك حجم مثلث العلاقة القائم داخل المدينة بين بناها التحتية ممثلا بقوتها البشرية العلمية والتقنية وامتدادها الجغرافي بسعته البشرية ومناطقها الصناعية المُغذية لقوة هذه المدينة.
تصبح المدينة أحد اهم معالم ما بعد الحداثة بوصفها منتجة للمعلومات والثورة المعلوماتية متجاوزة الانتاج الصناعي لتتحول إنتاجية المعلومة إلى محور أساس في السوق وحقل تكنولوجيا المعلومات، ويرافق هذه التحولات تحولات في البنى الاجتماعية والثقافية والتربوية، وهو ما يخلق طبقة من الخبراء والمشتغلين في حقول تكنولوجيا المعلومات، وقد عُرِضت في السنوات الاخيرة عروض على عدد من السلطات المحلية لتهيئة البنى التحتية لجذب مثل هذا النوع من الاعمال إلا أن سياسات المؤسسة الاسرائيلية حالت دون جلب هذه المشاريع ذات الطابع الانتاجي بسبب فقر بلداننا إلى البنى التحتية لمثل هذه الانواع من الاعمال والصناعات. وفي تصوري أن المسؤولين في سلطاتنا المحلية لم يتفاعلوا مع هذه العروض بالطريقة المناسبة الضامنة لبقاء هذه المشاريع ضمن حيزنا المحلي.
في سياقاتنا المحلية على مستوى فلسطين التاريخية (أي اسرائيل ومناطق سلطة رام الله وقطاع غزة ومدينة القدس) فإنَّ البلديات عموما لم تصل بعدُ الى العالمية رغم مكانتها على الخارطة الدولية كمدينة تل أبيب الاسرائيلية بفعل انها العاصمة الحقيقية لإسرائيل، والقدس برسم تاريخها ومجدها التليد.
ولذلك فالسلطات المحلية في هذه البلاد مرتبطة بالسلطة المركزية الا قليل من هذه السلطات برسم وجود مناطق صناعية تدخل عليها مداخيل هائلة تغنيها عن عوز السلطة المركزية، وفي حالتنا، السلطات المحلية في الداخل الفلسطيني فهي سلطات عارية من كل شيء مادي برسم سياسات السلطات الاسرائيلية التي تتعمد سياسات التعرية الدائمة لإبقائها تحت رحمتها وتنفيذها لإملاءاتها وسياساتها الرامية في العشريتين الأخيرتين لتعزيز الهوية اليهودية للدولة وتفكيك الانسان الفلسطيني في الداخل.
العنصرية زمن كورونا
العنصرية داء متأصل في نهج المؤسسة الاسرائيلية معنا كفلسطينيين في الداخل الفلسطيني وهذه العنصرية في بعض الاحايين تكون فجة ومباشرة ووقحة، وفي أحايين اخرى تكون مغلفة بفلسفات سلطوية وغير سلطوية وبأدوات مخملية. البيان الذي أصدره الدكتور يوسف عواودة رئيس السلطة المحلية في كفر كنا يشير إلى ما ذكرت سابقا، ويحمل وجعا يحمله كل رئيس سلطة محلية عربية في الداخل الفلسطيني جاء يخدم بلده ويتقدم بها وعنوان البيان: (السلطات المحلية العربية ليست شركات توصيل وجبات)، يكشف عن حجم الأزمة القائمة بين عقلية المؤسسة الرسمية التي عشش بها منطق الصلف والعلو، الممزوج بغباء سياسي وإداري وعقلية العمل والسعي للخروج من عنق الزجاجة التي ما تزال سلطاتنا عالقة فيه التي تحكم رؤساء السلطات المحلية، فالمؤسسة لا تريد من سلطاتنا المحلية إلا أن تكون وظيفية ذات مستوى متدني. في ظل وباء كوفيد وضمن سياسات الحكومة الاسرائيلية لمساعدة السلطات المحلية اتخذت مجموعة من الإجراءات المساعدة لهذه السلطات، كان منها على سبيل المثال لا الحصر تغطية الضرائب التي خسرتها تلكم السلطات بسبب إغلاق المحال في المناطق الصناعية وغير الصناعية، ووصلت المبالغ التي ستصرف على هذه السلطات 2.8 مليار شيكل كانت حصة السلطات المحلية العربية 2% فقط من هذا المبلغ (نسبة السكان العرب 18%) وبمنطق بسيط تتحصل السلطات المحلية العربية في البلاد وفقا لنسبتها السكانية على 504 مليون شيكل فيما ستحصل وفقا لمعادلات المؤسسة الاسرائيلية على 56 مليون شيقل فقط .
تعود خلفية هذه الاجراءات إلى عدم وجود مناطق صناعية في داخلنا الفلسطيني وإلى عدم وجود مبان استثمارية أو/ و مبان يمكن أن تدخل على هذه السلطات بسبب ضرائب المسطحات (الارنونا) مداخيل تدفع عجلة الإعمار في سلطاتنا المحلية، وسبب هذا التخلف، السياسات المتعمدة من طرف هذه المؤسسة لحجزنا والتضييق علينا في أضيق حيز ممكن، فالفقر هو ملمح واقعنا المُعاش وهو ما ينعكس على كافة تصاريف شأن الحياة ومنها أن ينعكس ماديا من خلال ضريبة المسطحات ومداخيلها المتدنية على السلطات المحلية ليس لأن الناس لا يريدون ان يدفعوا بل لانهم لا يملكون، والملفت للنظر أن عددا من مدننا في الداخل الفلسطيني تمر في عملية مدننة سريعة فقد تحولت بعض البلدات في أعقاب هذه التحولات الى مدينة متوسطة ما زالت تجمع بين واجهتها الريفية والمدننة الداخلة عليها وهذا التحول يدخل ضمن ما أسميه سيولة الحركة البين محلية والكونية التي دفعتها التقانة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات حالة من التداخل الكوني بين مدن عملاقة وأخرى كمدننا تجمع الريف والمدننة، وهذه العملية بحد ذاتها تحمل بشارات وجبَّ على رؤساء سلطاتنا المحلية التفكير العميق لاستثمارها لتعزيز مكانتها الاقتصادية بما يعود نفعا على مجتمعاتنا المحلية في ظل إصرار السلطات الاسرائيلية على سياسات التمييز والحصار والعنصرية.
المثال الذي طرحه الدكتور عواودة في مقارنته بين واقع السلطات المحلية العربية والاسرائيلية يؤكد حجم الظلم والعنصرية المتفشية في سياسات هذه الحكومات فقد جاء في البيان: “عندما تعوّض حكومة نتنياهو بلدية تل أبيب عن أرنونا المجمع التجاري “عزرائيلي” بمبلغ يفوق ما مُنح للبلدات العربية مجتمعة، ضمن تعويض الحكومة للسلطات المحلية اليهودية والعربية في ظل أزمة الكورونا، فاعلم أن ماكينة التمييز والاجحاف ما زالت تعمل بكل قوة في زمن الكورونا أيضا”… من قال إننا ننتظر من هذه المؤسسة أن تكون معنا عادلة فالعدل مناليته ضرب من الخيال يدغدغ خيال بعض المثاليين من مثقفين وسياسيين يؤمنون بالنضال والعمل والتخطيط الذي سيحرج المؤسسة الاسرائيلية امام محاكمها وامام المجتمع الدولي. فالتخطيط مثلا كان ولا يزال في كل دول العالم أداة من ادوات تجويد الحياة ومراكمة الخبرات لتحقيق اقصى درجات العدالة المجتمعية الا في الحالة الاسرائيلية فالتخطيط في حالة سلطاتنا المحلية رحلة عذاب تستمر عدد سنيين تتغير فيها معالم الجغرافيا والديموغرافيا فالمؤسسة تستخدم التخطيط كأداة مركزيه من أدوات السيطرة على الأرض، وبالتالي تضبط من خلاله معادلات الوجود وبذلك تضبط الانسان العربي في الداخل الفلسطيني وتحاصر تطوره المديني والمجتمعي ولن يجديه نفعا أنه إن كان قد خدم المؤسسة بغض النظر عن نوعية هذه الخدمة فالتعامل يكون فردي وهي سياسة روجَّ لها نتنياهو ولكن عملت بها كافة الحكومات منذ عام 1948 وإلى هذه اللحظات.
تفكير ما بعد كولونيالي
لن نخرج من أزماتنا التي نعيش في جدل العلاقة القائم مع الأغلبية المتغلبة ونحن نتخوف من اقتحام عقبات وضعها ورسم خطوطها زمرُّ من المفكرين والسياسيين المؤمنين، أن سقف وجودنا لا يمكنه أن يتجاوز السلطة المركزية والكنيست متغافلين عمدا عن سبل تثوير وتفعيل المجتمع الاهلي برسم فطريته وتعاضديته وانتشاره الافقي واستلهام تجارب شعوب وامم ماثلت زمنا حالنا الذي نحن فيه، وحتى نتخلص من الإرث الإسرائيلي الرافض منحنا الحقوق الكاملة والاعتراف بنا كمواطنين على درجة متساوية مع الآخر الاسرائيلي والرافض ان يعترف بنا كأصحاب لهذه الارض ويتعاطى معنا عمليا كرعايا وفقا للعقلية الصهيونية الكولونيالية، وينظر إلينا كمجموعات من الغزاة والمحتلين يخضعهم منذ سبعة عقود لعمليات متتالية لا تتوقف من الضبط والتأطير والتشفير، فقد آن الأوان أن نخرج عن هذا السقف لنتقدم خطوات نحو تخليق حالات من التعاضد المجتمعي والثقافي والسياسي العابر الى الكل الفلسطيني والعربي والاسلامي والانساني لنحقق كرامة وجودنا على أرضنا ولسنا هنا بحالة فريدة من الامم والشعوب والأقليات، بل لنا في تجربة الحركة الصهيونية ذاتها والاقليات اليهودية في أصقاع الأرض المثال والعبرة والدرس.
ولأننا في عصر سيولة الازمنة والحياة والعمل والثقافة الذي لا يمكن حصر مجموعة بشرية “أي كانت” تحت سقفِ سلطة تتعاطى معه بعدائية وتمكر له مكر الليل والنهار دون افتضاح أمرها، فعلينا في سياقنا المخصوص التفكير الجدي، تفكير ما بعد كولونيالي ذلكم أن المؤسسة الاسرائيلية تشيخ بسرعة كبيرة تفاجئ كل مراقب وتتقدم نحو شيخوخة مبكرة بخطى ثابتة، وكشفت معالجاتها لكوفيد 19 أنها تخضع لديانة السوق وما سياساتها للخروج من فكه إلا بيان لما أقول وهي إذ تفعل ذلك فإنَّ آخر ما تفكر به مصلحة الداخل الفلسطيني، لذلك فإنّ فلسفتها في التعامل معنا كمؤسسة تكاد تكون بالمطلق على أساس من فكر كولونيالي حداثي وما بعد حداثي (مثال: تفوقها في تكنولوجيا المعلومات وتداخل مستويات السلطة وتسخير هذا التفوق لدوام سيطرتها على الداخل الفلسطيني) وهي تستثمر كافة الوسائل لدوام السيطرة بتكاليف زهيدة، وهو ما يجعلنا أكثر تأكيدا على ضرورة التحلل من هذا الطوق بما نمتلكه من أدوات وطاقات وكوادر، وكل بداية صادقة وإن كانت مُحرقة تبدأ بالاعتراف بأخطائها وزلاتها ومكامن ضعفها وقوتها ومن ثم تأسيس مجموعة تفكير استراتيجية تفكر خارج سُقف الكولونيالية الاسرائيلية وما بعد هذه الكولونيالية مسلحة بثقافة ووعي وإدراك.
ولأنّ السلطة المحلية في سياقاتنا الراهنة كانت ولا تزال أداة من ادوات المؤسسة تًنَظِمُّ شأننا الحياتي، المعيشي والسياسي فقد صار ملحا بعد بيان جائحة كوفيد لمعادلات العلاقة بين المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني والسلطة المركزية اجتراح تفكير ما بعد كولونيالي.
أختم هذه المقالة بكلمات خالدة كتبها عالم الاجتماع المغربي عبد الكريم الخطيبي (1938-2009) وأنا موجوع ومتألم مما آلت إليه أحوالنا وكشفتها وعورتها وبؤسها جائحة لما تتبدى بعد، ليست شيئا امام جائحات سبقتها فإذا هي تعرينا لنتأكد اننا ما زلنا في سوق العبودية المختارة نتذاكى على انفسنا لا على واقعنا المؤلم، كلمات كتبها هذا العبقري في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، وما زالت تصلح الى يومنا هذا رغم ان بعضا منها قد لا يتنزل على راهننا للوهلة الأولى: “بعضنا انهار واستسلم لعبودية وقتنا، وآخرون أصروا على المحافظة على المهمة السياسية مهما كان الثمن، بشكل ضروري ضمن إطار حزب ما أو اتحاد نقابة العمال أو منظمة سرية نوعاً ما، وآخرون ماتوا جراء التعذيب الذي فُرِضَ عليهم، أو نجوا منه لغاية اليوم. لكن من منّا، سواء كنا مجموعات أم أفراد، تولى العمل الفعال المتحرر من الاستعمار في بعده العالمي والتفكيكي لصورة الهيمنة الخارجية والداخلية لدينا؟ … لكننا لا نزال في فجر التفكير العالمي، وكبرنا في ظل المعاناة التي تدعونا لاستخدام قوة الكلمة وإشعال نيران الثورة. إذا قلت لكم، مهما كنتم، إن هذا العمل قد بدأ وإنكم لا تستمعون إليَّ باعتباري ناجياً فحسب، عندها ربما ستستمعون الى المسيرة البطيئة والمستمرة التي قام بها كل الناس المُذلَّين وكل الناجين).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى