معركة الوعي (14).. بوصلتنا واضحة؛ قبل الانتخابات وبعدها!
حامد اغبارية
لا يعنيني شخصيا إذا كانت ستتشكل حكومة إسرائيلية جديدة أم تشهد الساحة انتخابات رابعة أو خامسة أو عاشرة، وليس يهمني عدد أعضاء الكنيست العرب، سواء كان 15 عضوا أو عشرين أو ثلاثين. فالنتائج في نظري ستكون وستبقى صفرا كما كانت حتى الآن. وما قلناه قبل الانتخابات نقوله الآن، وسوف نواصل قوله، لأن الموقف هو الموقف، والطريق هو الطريق والبوصلة هي البوصلة. وإذا كان هناك من يظن بأن انتهاء الانتخابات يعني انتهاء النقاش حول جدوى المشاركة في الكنيست فهو مخطئ. فالقضية ليست مجرد قضية انتخابات، بقدر ما هي قضية مستقبل مجتمعنا الفلسطيني في الداخل. وهذا المستقبل يتعرض لأخطار حقيقية، في ظل الانحراف الحاد عن جادّة الطريق، بالصورة التي أفرزتها انتخابات الكنيست الصهيوني الأخيرة.
لم يكن موقف مقاطعة الانتخابات مزاجيا، ولا مماحكة سياسية، ولا محاولة لقياس مدى التأثير على الجمهور، مع أهمية التأثير، بل هو موقف مبدئي لا تغيّره ظروف ومستجدات، مهما كانت عاصفة عاتية. وقد سجّلنا ونسجل هذا الموقف لله تعالى، ثم للتاريخ، ثم لكي تعلم الأجيالُ أن ما تراه على طافيا السطح ليس هو الحقيقة، وليس هو الذي سيوصلها إلى شاطئ الأمان.
كذلك فإن هذا الموقف لم يكن في مواجهة الأحزاب التي تشكل اليوم القائمة المشتركة، كما حاول البعض أن يصور المسألة لغرض أو أغراض كثيرة في نفسه. وإنما كان في مواجهة مشروع يسعى إلى جر شعبنا نحو هاوية يصعب العودة منها، هاوية الأسرلة التي تشكل انتخابات الكنيست إحدى وسائلها، من خلال تسويق أوهام وحصر القضية كلها في خانة المطالب والحقوق اليومية. وإذا كان هناك من خدع الجمهور وأوهمه أن المشاركة في الكنيست تندرج تحت العمل الوطني- وهذا ما سمعناه خلال الحملات الانتخابية الثلاث من أقطاب المشتركة- فهذا لا يعني أن اللعب على عواطف الناس يمكن أن يستمر طوال الوقت ويبقى دون محاسبة، بل ستأتي اللحظة التي يَكتشف فيها هذا الجزء المخدوع من أبناء شعبنا أنه كان ضحية أوهام. وأنا شخصيا أرى هذه اللحظة قريبة جدا، عندما تسقط أقنعة، وتُكشف أوراق، ويتصدر المشهد الإعلامي الحديث عن تفاهمات واتفاقيات من وراء الكواليس. ويمكن لكل مراقب أن يتابع التصريحات الجارية الآن، والتي تمهد لمشهد سياسي قادم ستكون القائمة المشتركة جزءا منه بشكل أو بآخر. فنحن نعيش في بقعة جغرافية إذا عطس فيها شخص في الجنوب شمّتهُ (أي قال له: يرحمك الله) مَن في الشَّمال. نحن في مكان لا يمكن إخفاء الأسرار فيه إلى الأبد.
نعم، وجّهنا انتقادات شديدة للمشتركة، وناقشناها بحدّة، وحذرنا من طريقها، ولكن ليس لذات المشتركة ولا لذات مكوّناتها ولا لذات شخوص قياداتها، وإنما للطريق الذي اختارته، والذي ما زلنا نؤمن بيقين أنه طريق ليس فقط لا يقود إلى شيء، بل هو طريق يقود مجتمعنا إلى المربع الذي أرادته المؤسسة الإسرائيلية تماما. وكان هذا هو صلب موضوع الخلاف مع هذا الخيار الذي سارت فيه تلك الأحزاب.
ناقشنا المشتركة ومشروعها، ورغم حدة هذا النقاش إلا أننا لم نخرج عن حدود أدب النقاش، بل قدمنا حجتنا وقلنا ما نؤمن أنه الصواب، ودافعنا عنه بكل قوة، وعرضنا بضاعتنا للناس، فمنهم من اشترى ومنهم من أعرض. وهذه هي طبيعة البشر. لكننا – وهذا للتاريخ، ويستطيع من يشاء أن يراجع ويفحص بنفسه- لم نجد لدى الذين يؤمنون بضرورة المشاركة في الكنيست، الذي بات بالنسبة لهم هدفا وليس وسيلة، سوى الإقصاء، يرافقه سيل من السّباب والشتائم، بدلا من مناقشة الحجة بالحجة، وبدلا من احترام حق الناس في التعبير عن مواقفهم. فكان الأذى الذي سجلته تلك الأيام المشحونة أثناء حملة الانتخابات يفوق كل تصور. وهو سلوك يحمل دلالات ومؤشرات خطيرة جدا، تحتاج إلى بحث ودراسة وتقييم.
عندما قلنا “لا” للكنيست، فقد كان ذلك عن قناعة تامة بأن هذا المشروع ليس فقط أنه لن يحقق شيئا مما جرى تسويقه من أوهام بين الناس، بل هو مشروع خطير نهاياته ومآلاته خطيرة، أقلها حرف البوصلة، وتشويش الهوية وإرباك الانتماء. وأخطر ما فيه عزل أبناء هذا الجزء من شعبنا عن دائرته الفلسطينية وعن دائرته العربية وعن دائرته الأوسع، وهي دائرة الأمة الإسلامية. وهذا بالضبط ما تريده المؤسسة الإسرائيلية، وهو ما يسعى إليه المشروع الصهيوني منذ غرز أوتاده وأنشب أظفاره في جسد هذا الوطن الجريح.
لقد أدركنا منذ اللحظة الأولى، وقدمنا الأدلة التي نعتقد أنها يجب أن توقظ النائمين وتنبّه الغافلين وتقرع بقوة على جدار الوعي، أن مشروع الكنيست لا يمكن أن يلتقي في أي مرحلة من المراحل، مع الهموم الحقيقية والقضايا الحقيقية التي يُفترض بشعب حيّ أن تشكل بالنسبة له البوصلة الحقيقية التي ستوصله إلى شاطئ الحرية. بل إن المشاركة في الكنيست تشكل عائقا أمام ما يريده شعبنا حقيقة.
إن بوصلتنا واضحة، قبل الانتخابات وبعد الانتخابات، بل هي اليوم أشد وضوحا. هي بوصلة تشير مباشرة إلى المسجد الأقصى المبارك، وإلى مدينة القدس. هي بوصلة تشير إلى قضية شعب وقع عليه ظلم تاريخي، شاركت فيه أمم الأرض قاطبة، بما فيها أنظمة عربية، أوهمتنا في اللحظات الحرجة أنها في ذات الخندق معنا، وإذا بها اليوم تزحف باتجاه المشروع الصهيوني على أربع، تحت عباءة محور الإجرام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. بوصلة تشير إلى شعب سُلبت حقوقه التاريخية والدينية والجغرافية. بوصلة تشير إلى شعب نهبت أرضه، وسفكت دماء أبنائه. بوصلة تشير إلى أن الهوية والانتماء لا يمكن أن يصيغهما إلا ذلك الرابط الأصيل مع تلك الدوائر الثلاث؛ الفلسطينية والعربية والإسلامية، وما سواها فهو باطل زائف مشكوك فيه وفي نواياه. وهذا كله لا يمكن أن يتحقق من خلال سراب اسمه الكنيست، ولا من خلال اللعب في تلك المساحة الصغيرة الضيقة التي رُسمت لشعبنا داخل ملعب السياسة الإسرائيلية.
الآن الوقت المناسب لإعادة البناء
قلنا فيما مضى إن من أهداف المؤسسة الإسرائيلية خلقُ بدائل للأطر الجامعة التي لا تروق لها، والتي يُفترض أنها هي التي تمثلنا، مع ما فيها من مثالب وعناصر ضعف. ولعل بوادر هذه البدائل قد رأيناها في انتخابات الكنيست التي أجريت في أيلول الماضي، والتي نشهد لها الآن تصعيدا إعلاميا غير مسبوق. فقد كتبتُ في مقال سابق أن القائمة المشتركة باتت تطرح نفسها بديلا للجنة المتابعة. وقرأنا هذا التوجه في بيانها الذي كانت قد أصدرته غداة انتخابات أيلول الماضي. وبتنا نرى ذلك في سلوكها السياسي وفي خطابها. ورأينا يومها كيف أن الإعلام، وفي مقدمته الإعلام العبري، راح يتحدث عن المشتركة وكأنها هي الجسم الوحيد التي يتصدر المشهد السياسي في الداخل الفلسطيني، يرافق ذلك تهميش واضح للجنة المتابعة ولدورها وأهميته. وها نحن نرى اليوم ونتابع كل هذا التركيز الإعلامي الملفت على القائمة المشتركة، وكأنها هي الممثل “الشرعي” الوحيد لأهلنا في الداخل الفلسطيني، وأنها هي العنوان، حتى بالنسبة للسلطة الإسرائيلية. وهذا مقلق جدا، خاصة وأن نغمة الأسرلة المبطنة يلمسها كل ذي لب في خفايا خطاب بعض قيادات المشتركة، والذي تروج له وسائل الإعلام وتركز عليه بصورة تثير التساؤلات.
وإن مما أخشاه أن نجد أنفسنا ذات صباح وقد اكتملت الحبكة، وأصبح مشروع الأسرلة الذي يقود إليه خطاب المشتركة في مركز الحدث والاهتمام، وما سواه على الهامش، خاصة بعد حظر الحركة الإسلامية، التي كان من أهداف حظرها إخلاء الساحة من ذلك الصوت القوي الذي يغرّد خارج السرب، والتمكين لصوت واحد فقط، هو الصوت الذي نسمعه الآن.
إزاء هذا المشهد أرى أنه قد حان الوقت لإعادة ترتيب الأوراق، التي خلطتها انتخابات الكنيست، خاصة في الجولات الانتخابية الثلاث الأخيرة، والخروج اليوم قبل الغد بمشروع مفصل واضح لإعادة بناء لجنة المتابعة على الصورة التي تليق بشعب ومجتمع يسعى إلى الانعتاق من قيوده التي كبّلته بها مشاريع هي أقرب إلى تضييع الحقوق من تحصيلها.
وأظن أنه لم يعد يكفي الحديث الإنشائي عن إعادة البناء وعن الانتخاب المباشر للمتابعة، لأن مجرد الحديث لم يعد ناجعا وكافيا لرد هذه الهجمة الشرسة على كينونتنا بفلسطينيتها وعروبيتها وإسلاميتها. لا بد من إعداد برنامج عمل مقرون بسقف زمني، تدعمه خطة مفصلة تطرح البديل وتسعى إلى تحقيقه على أرض الواقع.
أعلم أن هذا قد يبدو صعب المنال في هذه المرحلة بالذات. ولا أشك أنه تعترضه عقبات، وستقف في وجهه قوى كثيرة، حتى من القوى التي يفترض أنها جزء من السقف الجامع الذي يسمى لجنة المتابعة العليا، ولكن إذا توفرت الإرادة مع حسن التخطيط، وإزالة المعوقات، فإن تحقيق هذا لن يكون مستحيلا. نعم يحتاج إلى جهود متراكمة ومتواصلة، وإلى طاقات هائلة؛ بشرية ومادية ومعنوية، لكن هذا كله يهون أمام الإرادة، خاصة إذا رأى الناظر النتائج بعين بصيرته قبل أن يراها على أرض الواقع.
دقت ساعة العمل الحقيقي. فإما إلى هنا وإما إلى هناك. فالتيار الجارف الآن، والذي يجد من يصفق له ويرقص على أنغامه، لا ينتظر ولن ينتظر، فإذا وجد الميدان خاليا تمكّن وضرب جذوره في أعماق شارعنا، وعندها ستكون مهمة اقتلاعه أصعب بكثير.