نحو ميثاق اجتماعي (2).. تفكيك أزمـــة العنف وتأسيس الميثاق الاجتماعي
صالح لطفي-باحث ومحلل سياسي
لا نختلف كثيرا عندما نتناول العنف المجتمعي في الداخل الفلسطيني حول مسألتي التوصيف والتحليل، فكلنا مجمعون على أن العنف بات يهدد السلم المجتمعي والامن البدني والنفسي للجماعات والأفراد والمجتمع.
في هذه المقالة الساعية لتفكيك العنف أزعم فيها أن هذا العنف الداخل الينا هو أزمة تضرب بمجتمعنا تستوجب فهمها وتفكيكها، ومن ثم معالجتها مرتبطة جذريا بجملة التحولات والمتغيرات الجارية في مجتمعنا بفعل عوامل مختلفة تستوجب النظر والدراسة، وهذه الازمة فيما يبدو لي تضرب كذلك المجتمع الاسرائيلي مع فارق بسيط أن ثمة من يعمل على التقليل من حجمها في الشارع الاسرائيلي ويعمل على حلها سلطويا، على خلاف واقعنا في الداخل الفلسطيني حيث تتفاقم ولا حل للوهلة الأولى في الافق المنظور.
من واجب المسؤولين عن مجتمعاتنا محليا وقطريا التعاطي مع العنف أنه نازلة تستوجب النظر الشرعي والسياسي والمجتمعي وتنزيلها على أنها أزمة تضرب مجتمعنا تستوجب التعاطي معها وعدم إدارة الظهر لها، خاصة من طرف ارباب المسؤولية المجتمعية والسياسية والشرعية، وفي الوقت ذاته صار من واجب كل فرد في المجتمع أخذ دوره مهما كان متواضعا في قطع دابر هذه الآفة.
عندما نتعاطى مع العنف على أنه أزمة سيكون بالقطع أمامنا معطيات نستوثق منها لتحديد سبل التعامل مع الازمة، ومن ثم حلها إذ ننطلق من قاعدة أن لكل أزمة مفاتيح تعيننا على فهمها وتفكيكها وحلها نهائيا.
عمليا أزمة العنف في مجتمعنا الفلسطيني مرت في عدة مراحل، فقد ولدت ولما نتنبه الى لحظات ميلادها الأولى، ثم نمت بين ظهرانينا ونحن ننظر إليها من طرف خفي، ثمَّ نضجت واشتد عودها وها هي تضرب بنا ميمنة وميسرة، ولأن لكل شرةِ فِترة فستصل حتما الى لحظات الذروة ثم بدايات الانحسار، وأخيرا التلاشي، ولكن ونحن نغالبها وندافعها بما تيسر من أدوات معنا من واجبنا الأخلاقي النظر إلى أسبابها ومعالجة هذه الأسباب، ففقدان التربية وكثرة وكلاء التربية وفقدان القدوة وتعمق الفقر والفاقة وتفك الآلاف من الأسر بسبب الطلاق، والتراجع المستمر في الوعيين الديني والوطني وعدم وجود المرافق الحية التي يمكن للشباب والناشئة أن يمضوا أوقاتهم فيها وعدم وجود الاطر اللازمة لهم، الى جانب التحولات الاقليمية والمحلية الجارية سياسيا واجتماعيا ودينيا، يوافق ذلك كله الدور السلطوي في تعاطيه مع العنف ودوره الاساس في نشر السلاح وانتشار الفساد في مفاصل عديدة من مؤسسات الدولة، خاصة الشرطة ذات الصلة بمشاكل العنف والجريمة في داخلنا الفلسطيني، كل ما ذكرت وغيره كثير يستوجب الوقوف عليه ووضع العلاج اللازم له الى جانب دور السلطة المباشر في قطع دابر الجريمة المنظمة.
العنف الذي يضربنا اليوم له سمات ومواصفات وخصائص كما أن له عمرا زمنيا واجل وميقات، لذلك العنف من حيث هو أزمة، وفي جوهره حالة تحدي للمجتمع من جهة وحالة فحص دائم لقدراته في كيفية تطوير أدوات المدافعة والتحدي من جهة أخرى.
عمليا لا يستوي العنف المجتمعي على عوده ويتقوى إلا من خلال مجموعة من المجتمع، القطاع الشبابي، وهو إذ يعمل معوله مع هذا القطاع فإنه يستغل مركبين يعتبران مركبا مساعدا بل وأساسيا في تعزيز العنف: الجهل والفقر، فحيثما اجتمعا فثمة أنواع من العنف ولا يوجد مجتمع على الارض خَلُصَ من هذين المرضين إلا وكان معافى من العنف، خاصة عنف الجريمة المنظمة ويُلحظُ في هذا السياق أن الجريمة المنظمة تستوطن عالميا مواطن الفقراء وتسعى لفرض سيطرتها على مواقع الميسورين والمبسوطين وأهل الثراء إمّا عبر نشر المخدرات أو فرض الاتاوات، وهل مجتمعنا اليوم بعيدُّ عما ذكرت؟
تفكيك أزمة العنف وتأسيس الميثاق الاجتماعي
الأزمة في سياقنا المخصوص كما أراها هي ظهور خلل في المجتمع بنظاميه المجتمعي والقيمي فالنظام الاجتماعي عندنا مؤسس على قيم العلاقات الاجتماعية الجمعية والجماعية وليس على أسس القيم (الفردانية) (الوافدة) والقيمي المؤسس على منظومات أخلاقية مستمدة من ديننا الحنيف وأعراف توافق الناس عليها لها جذر في السياق الاخلاقي.
بسبب ظهور قيم ومعايير غريبة تسربت الى المجتمع في غفلة عنه وعن المسؤولين فيه خاصة ما تعلق بالقيم الفردية والمادية، وبرسم هويتنا الاسلامية وثقافتنا المنبثقة عنها أرى أن القيم ذات الصلة بسياقنا المخصوص هي المعتقدات والأحكام و المبادئ التي مصدرها ديننا الحنيف ونتمثلها ونلتزم بها من خلال تفاعلاتنا الحياتية اليومية وتتجلى في سلوكياتنا العملية واللفظية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر وهي من هذه الحيثية هي اخلاقنا التي نعتمدها ومن هذه القيم: تقديس الحُرمات، الرحمة، التراحم، التعاضد، المسؤولية، التواضع، احترام الكبير وهي اخلاق يمكننا مشاهدة حجم المتغيرات النازل عليها واللاحق بها، والمعيار تلكم القيم الثابتة التي نقيس عليها المتغيرات الداخلة علينا فتوقير المسن والرجل والمرأة الكبيرين من قيمنا وأخلاقنا، وهي معيار لسلامة المجتمع ويوم تتناقص هذه القيمة وتتراجع مجتمعيا تشكل معيارا لقياس حجم التحولات في هذا المجتمع، وكذلك مثلا بر الوالدين فهو قيمة ومعيار كذلك وعليه فعدم احترام الوالدين وإهمالهما، يشكل بارومتر لتحول المجتمع ومثال آخر مناقض احترام الناس لأرباب الجريمة بعدئذ كانوا منبوذين يعتبر انحراف مجتمعي وتردي أخلاقي وقياس على مدى الردة التي يعيش إذ الاحترام يكون لأرباب الدين والعلماء والساسة المخلصون وللكبير ولكل من يقدم فائدة لمجتمعه، وحدوث مثل هذا الأمر دليل على تغير القيم والمفاهيم وتغلغل منظومة وافدة تُغَلِبُ المادة وسطوتها.
الميثاق الاجتماعي
العنف في الداخل الفلسطيني اليوم يبدو لي أنه في ذروته ونشوته خاصة وأن الجريمة على كل أنواعها توافقت مع انحسار منظومات قيمية راسخة في مجتمعنا أدى الى نجاح الجريمة المنظمة بتجنيد المئات من الفتيان والشباب الى صفوفها، وترافق ذلك مع تحولات جوهرية في انماط العلاقات البينية والأساسية داخل مجتمعنا على مستوى الاسرة الواحدة والحمولة والمجتمع، وصار اجتماعهم فقط لمصالح تخص بعضهم خاصة ما تعلق بانتخابات المجالس المحلية، يُضاف إلى هذا كله سكوت العائلات عن أبنائها المتورطين في الجريمة بسبب المصلحة المادية المتجلية من ذلك، بل واعتزاز بعضهم أن ابنهم مرتبط بتلكم المنظمات الاجرامية.
في ظل هذه الظروف تأتي أهمية طرح الميثاق الاجتماعي المُؤَسس على عقد اجتماعي قطري، وكانت صحيفة المدينة في عددها السابق قد نشرت في عددها الصادر الاسبوع الماضي الموافق 18/10/2019، على صفحتها الثانية مقالا تحت عنوان: رسالة مستعجلة الى لجان إفشاء السلام في الداخل الفلسطيني وهي لجان منبثقة عن لجنة المتابعة ومنتشرة في عموم الداخل الفلسطيني، وواضح أن الرسالة تعول كثيرا على هذه اللجان لأخذ دورها الطليعي في تحقيق وتوكيد هذا الميثاق.
تقترح المدينة، نص ميثاق اجتماعي مستوحى من حلف لفضول كما ورد في البند السادس عشر من الميثاق ذاته تلتزم به كافة مكونات المجتمع الحية من قوى سياسية ومجتمعية وعلمائية وحمائلية ويكون هذا الميثاق ملزما للمجتمع كافة، وهذا الميثاق على مستواه المحلي قابل للزيادة والنقصان كما ذكرت الصحيفة في متن المقالة.
وأنا اقترح على القائمين على صحيفة “المدينة” إفراد هذا الميثاق بصفحة منفردة لأهميته، وحتى لا يذهب ادراج الرياح، والعمل على نشره عبر صفحات التواصل والادوات الاعلامية المتاحة بين أيديهم، وهو يحتاج من بعدُ الى عقد اجتماعي تعمل على إعداده القوى السياسية والعلمائية والمجتمعية.
وكنت قد أشرت في مقالتي السابقة إلى انني سأعتمد في بناء العقد الاجتماعي على اساس من نظريات العقد الاجتماعي ونظرية الاستعداد في المواجهة الحضارية للاستعمار ونظريات التقريب والتغليب المأخوذة ما الاصول والسياسات الشرعية، ومقاربات في السياسة والاجتماع من خلال مقاربات ما ذكرت لواقعنا المخصوص وقد سهلت علينا صحيفة المدينة في المقالة التي أشرت إليها مؤونة طرح تصور لميثاق اجتماعي جامع لمجتمعنا بغض النظر عمّن عنده الاستعداد لحمله والمضي فيه قدما، إذ يحتاج الامر الى همام يحمله وثقات يدعمونه جموع تمضي به وتؤسس لقوة اجتماعية أخلاقية تحميه وتنزله عملا لا مجرد اقوال.
دعوة المجلس البلدي والتقاط اللحظة الراهنة
غدا ستعقد بلدية أم الفحم برعاية مجلسها البلدي ورئيسها مؤتمرا يمكن ان اسميه تأسيسيا لمناقشة أزمة العنف والخروج بمخرجات عملية تحد من هذه الأزمة. وواضح أن الميثاق المطروح في جريدة المدينة يمكن أن يكون قاعدة تأسيسية ننطلق منها لمواجهة هذه الأزمة.
في هذا السياق لا بدَّ من الإشارة الى ثلاث قضايا ذات صلة تتعلق بالموضوع، أننا وبعيدا عن “الشوشرة” والحديث والمغالبات والمناكفات، بحاجة إلى من يقوم بتفكيك الجريمة المنظمة والعنف عموما، كل في مجتمعه، تفكيكا مؤسسا على قواعد علم الجرح والتعديل وطبقات الرجال، ومن ثم تحليله اجتماعيا وثقافيا وأخيرا وضع النقاط على الحروف في كيفية دفع الازمة الى مرحلتي الضعف والتلاشي، ونحن كمجتمع نملك الادوات والامكانيات لتحقيق ما أشرت اليه، والقضية الثانية المباشرة من طرف الجهات العلمائية الى الانطلاق بمشروع سنوي معالمه طرق بيوت الناس وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ودعوتهم بالحسنى، وبيان معالم الخير الكامن فيهم وتنبيههم إلى الشرور التي تتربص بهم، والقضية الثالثة قيام مجموعة من أهل الخير المتمتعين بالسمعة الطيبة والمتسمين بالصلاح بالاجتماع مع من هم محسوبون على الجريمة المنظمة والالتقاء مع أرباب العنف من “الطخيخة” وتجار المخدرات ومن يُمالئهم وتذكيرهم بأيام الله ويرافق ذلك كله قوة مجتمعية ترافقهم وتحميهم وتدافع وتنافح عنهم فنحن اليوم بين لحظات التماثل مع أذا ذكر الله خنس واذا غفل وسوس، وما نقوم به هو اليوم على مستوى الداخل الفلسطيني في مواجهة هذه الأزمة نوع من أنواع الذكر.