الإسرائيليون ولعبة الثلاث ورقات
الشيخ كمال خطيب
ليس عن حقيقة شغف الإسرائيليين بلعب القمار سأكتب، حتى إن هذه باتت واحدة من أنواع السياحة الرائجة في أوساط الإسرائيليين حيث يسافرون إلى الدول التي تشتهر بكازينوهات القمار، كما كانت وجهتهم يومًا لاس فيغاس في أمريكا وما تزال، وكما كانت يومًا سياحتهم إلى شرم الشيخ في سيناء، ومثلها عندما تم افتتاح كازينو أريحا بعد اتفاقية أوسلو المشؤومة، وتنشط اليوم وفق وسائل الإعلام سياحة القمار إلى كازينوهات جورجيا وإن كانت كل هذه السياحات لا تكاد تذكر أمام شغف وهوس الإسرائيليين بسياحة القمار والرذيلة إلى الواجهة الجديدة دبي وأبو ظبي.
ومن يظن أن الإسرائيليين ليسوا بارعين في لعب القمار وأنهم يخسرون أموالهم فإنه مخطئ، فهم من أشهر المقامرين حيث تدرّ عليهم ألعاب القمار والرهانات بأنواعها أموالًا طائلة، لكن الأهم هي مبادرتهم لإقامة مراكز القمار في العالم حيث إلى مراكزهم تلك يأتي أثرياء العالم ليمارسوا هواية خسارة أموالهم وتضييع ثروات بلادهم في ألعاب القمار. إنه الملياردير “شلدون اديلسون” كنموذج بين عشرات بل مئات من أمثاله وهو اليهودي الأمريكي وحامل الجنسية الإسرائيلية ومالك أكبر كازينوهات لاس فيغاس، والذي أقام أكبر مركز قمار في جنوب شرق آسيا في دولة سنغافورة والذي بلغت ثروته 40 مليار دولار، وهو من أشد الداعمين والمتبرعين لنتنياهو ومثله لترامب، وهو الذي توفي قبل شهرين وأوصى أن يدفن في جبل الزيتون في مدينة القدس الشريف بعد أن يحقق أمنيته بإقناع ترامب بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وقد أعلن عن استعداده لتحمّل تكاليف بنائها.
وإذا كانت أحد أشهر ألعاب القمار والمراهنات تلك التي تسمى “لعبة الثلاث ورقات”، فمثل المقامرة في لعبة الثلاث ورقات فإنه الشعب الإسرائيلي يمارس لعبة الثلاث ورقات ليس رهانًا ومقامرة مالية بل إنها مقامرة مصيرية ووجودية، وأجزم أنه رهان خاسر ومقامرة ستعود بالويل على أصحابها.
ورقة الرهان على نتنياهو
لم يستمر أي رئيس وزراء إسرائيلي في الحكم مثلما قضى نتنياهو، وحتى رؤساء الوزراء التاريخيين الطلائعيين أمثال بن جوريون وجولدا مائير وبيغين وشامير فإنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه نتنياهو الذي يبدو أنه يريد أن يكون هو الشخص الثاني في الذاكرة الصهيونية بعد هرتزل أو حتى أن يكون الشخص الثالث في التاريخ اليهودي بعد سليمان وهرتزل.
رغم ملفات الفساد التي تلاحق نتنياهو بتهم الرشاوى واستخدام المال العام، ورغم الفضائح في سلوكيات اجتماعية من زوجته وأولاده وعلاقاتهم مع مؤسسات الحكم، ورغم الانقسام غير المسبوق الذي يشهده المجتمع الإسرائيلي والذي وصل إلى درجة أن رئيس جهاز الشاباك السابق يوفال ديسكين قد كتب مقالة في صحيفة يديعوت أحرونوت يوم الجمعة 19/2/2021 تحت عنوان “هكذا لن تبقى لنا دولة” في إشارة إلى أمراض ومظاهر تمزّق وانقسام يعيشها المجتمع الإسرائيلي، سرد نموذجًا منها لمّا قال: “الانقسام آخذ بالاتساع والتجذر، والفجوة بين اليمين واليسار أصبحت أكثر بكثير من الفجوة بين اليهود والعرب”. يوفال ديسكين هو نفسه الذي سبق وحذّر في مقال له يوم 30/10/2017 من مظاهر التردي والفساد في المجتمع الإسرائيلي حيث قال يومها: “نحن لم نعد مجتمعًا فاسدًا، نحن مجتمع معفن”.
لقد راهن بل قامر الإسرائيليون بورقة نتنياهو وكأنه” ملك إسرائيل”، وما علموا أن نتنياهو أصبح فيه من الصفات والسلوكيات مما لا تقل سوءًا عن أسفل الحكام العرب الذين باتت تربطهم بنتنياهو علاقات مميزة وقواسم مشتركة كثيرة.
واضح جدًا كما يشير كثير من الكتاب والمراقبين أن استمرار نتنياهو بالحكم كل هذه الفترة مردها إلى قدرة نتنياهو على المناورة والمراوغة، وقدرته على استخدام المصطلحات والسياسات التي تجمع حوله الشارع الإسرائيلي الذي وصفه الكاتب الصحفي في صحيفة هآرتس “يوسي فارنز” بأنه “مجتمع مصاب بالحول نحو اليمين”، أي أنه منحرف سياسيًا وأيديولوجيًا، وأن سببًا آخر من أسباب استمرار نتنياهو في الحكم لهذه الفترة الطويلة فإنه يعود إلى افتقار المجتمع الإسرائيلي إلى قيادات نموذجية وصاحبة جاذبية “كاريزما”، وقد ظهر ذلك عبر فشل كثيرين منهم في المنافسة أمام نتنياهو بل ظهر أكثر عبر تساقط الجنرالات ورؤساء الأركان الذين هم الأكثر شعبية بين الإسرائيليين أمثال جانيتس ويعلون وأشكنازي، ومع ذلك فإنهم جميعًا تساقطوا تحت أقدام نتنياهو وخرجوا من الحياة العسكرية والسياسية يجرّون أذيال الخيبة. ولأنها تطورات كثيرة داخل المجتمع الإسرائيلي وفي المنطقة وفي العالم وخاصة بعد رحيل ترامب، فإن استمرار رهان المجتمع الإسرائيلي على ورقة نتنياهو فإنما هي مراهنة فاشلة بل مقامرة قاتلة قريبًا سيدرك الإسرائيليون حقيقة هذا الرهان.
ورقة الرهان على الحكام العرب
لقد راهنت السياسة الإسرائيلية والمشروع الصهيوني ليس فقط على قوة المشروع الصهيوني اقتصاديًا وعسكريًا نوويًا مدعومًا من القوى العالمية الشرقية والغربية الأمريكية والسوفيتية سابقًا والروسية حاليًا، وإنما كان رهانهم دائمًا عن الورقة الرابحة وهي وجود حكام وزعماء عرب من أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو والمعالي، يمارسون الدكتاتورية ضد شعوبهم ولا يتعاملون مع الشعوب إلا بمنطق العصا والرصاصة. هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن هؤلاء الزعماء كانوا بالنسبة لإسرائيل ليسوا أقل من كلاب حراسة يحمون حدودها ويحولون دون أي مساس بها. هكذا كانت سياسة حافظ الأسد طوال 30 سنة، وأكمل ذلك ابنه بشار منذ عشرين سنة تقريبًا في حماية حدود إسرائيل من جهة الجولان، وهكذا كان حكام مصر بدءًا من عبد الناصر ومرورًا بالسادات وحسني مبارك وآخرهم السيسي الذي خدم إسرائيل أكثر مما كانوا يتوقعونه. وهكذا هي الأدوار التي يلعبها الحكام العرب الآخرون حتى من لا حدود جغرافية تربطهم بالدولة العبرية ولكنها حبال السرة والاتصالات الوثيقة بينهم كما هو حال العلاقة مع ملك المغرب والأردن والسعودية والإمارات وغيرها.
لقد شاهدنا حالة الفزع والقلق والإرباك التي خيّمت على الإسرائيليين خلال انطلاق ثورات الربيع العربي وخلال سعي الشعوب لخلع بعض أولئك الزعماء من عملائهم وعكاكيزهم الذين كانوا يراهنون عليهم، وكم كانت فرحتهم غامرة وعامرة وهم يرون الثورات المضادة تنجح إما بانقلابات كما حصل في مصر وإما بالزج بتلك الدول في حروب أهلية مدمرة كما هو الحال في سوريا وليبيا واليمن.
إننا نعلم أن قادة إسرائيل وكبار مفكريهم وأجهزة مخابراتهم يعلمون أنهم يلعبون بالوقت الضائع، وأن هؤلاء الحكام وهذه الأنظمة إلى زوال، وأنه ليس بعد الربيع العربي إلا الشتاء الإسلامي كما تخوّف من ذلك “فؤاد بن العيزر” صديق حسني مبارك ووزير حرب إسرائيل. إنه كما كان يقول المؤرخ الإسرائيلي “سامي سموحة” قبل الربيع العربي بعشر سنوات: “إنني أنام وأفتح المذياع صباحًا وأنا على يقين أنني سأسمع خبر انقلاب على حسني مبارك لأنني أعلم حجم الغضب في الشارع المصري، وهذا ما كان وإن كان قد تأخر عقدًا من الزمان”. وإنهم كتاب إسرائيليون يتحدثون أن الواقع الاجتماعي والسياسي في السعودية يغلي مثل المرجل وحتمًا ستأتي لحظة الانفجار.
إن مراهنة ومقامرة الإسرائيليين على هؤلاء الحكام هو رهان ومقامرة خاسرة ولن يفيدهم عندها عض الأصابع ولا أكثر من ذلك.
ورقة الرهان على هوية الصراع
لقد راهن الاسرائيليون ومنذ بداية إعلان دولتهم بعد أن أنزلوا النكبة بشعبنا وشرّدوه في المنافي والمخيمات على أن الصراع سيظل صراعًا بهوية وطنية وقومية، وفي هذا تحييد للهوية الإسلامية ولحرمان الصراع من بعده الحضاري والعقائد.
لقد قالها شمعون بيرس الثعلب المكّار حين كان يسمع بعض السياسيين الإسرائيليين يتحدثون عن الصراع بين الإسرائيليين وبين الفلسطينيين بأنه صراع عقائدي، فكان يرد عليهم بغضب محذرًا من مخالفة نهج القادة التاريخيين للمشروع الصهيوني بالحفاظ على الصراع في بعده الوطني، وأنه مع الفلسطينيين فقط وأنه قومي مع العرب فقط وليس مع كل المسلمين، لأن ذلك معناه استقواء 1700 مليون مسلم، بل إن ذلك معناه استخراج عفريت الحرب الدينية من القمقم وتململ المارد الإسلامي كما كان يقول موسى ديان “إننا لا نخاف من الوطنيين ولو اجتمعوا، ولا نخاف من القوميين ولو اجتمعوا ولكننا نخاف من ذلك المارد الذي ينام طويلًا وبدأ يتململ”.
إنه لم يعد خاف على حكام إسرائيل أن الصراع قد بدأ يعود إلى حقيقته وهويته التي سعوا لسلخه منها وكان في ذلك فائدة وأي فائدة لهم، وإن تحولات سريعة تعيشها المنطقة وأن الشعوب لم تعد تقبل الهوية إلا الهوية الإسلامية. إنه رغم كل وسائل الحرب العسكرية والفكرية والاقتصادية والأخلاقية والإعلامية التي يستخدمها أعداء الإسلام فإنهم إن حققوا بعض نجاحات إلا أنها مؤقتة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ، لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} آية 36 37 سورة الأنفال.
أيها المقامرون من الإسرائيليين، اعلموا أن مقامراتكم خاسرة، وإن رهانكم فاشل، وأنكم قريبًا ستستيقظون على كابوس مرعب يفسد عليكم كل أحلامكم بالرهان على هوية الصراع أو بالرهان على أشباه الرجال من الحكام العملاء، أو بالرهان على نتنياهو الذي لن يكون ملك إسرائيل وإنما سيكون شقي قومه الذي كان سببًا في هلاكهم مثل شقي قوم صالح الذي نحر الناقة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا، إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا، وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} آية 11 15 سورة الشمس، وإنما سيكون كما قال المثل “ما ظلّ في الخم غير ممصوع الذنب”. وإذا كنتم من أمهر المقامرين في العالم إلا أن مقامراتكم ورهانكم في الواقع السياسي والحضاري سيثبت للدنيا كلها أنكم كنتم الأكثر فشلا والأكثر خيبة وغباء.
وإن غدًا لناظره قريب. نحن إلى الفرج أقرب فابشروا
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون


