أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

الدور الإصلاحي والمفهوم الإنساني… القِيَم والأديان والمدنية الحديثة…..

حامد اغبارية

كيف نستعيد دورنا الإصلاحي؟! سؤالٌ ليس في محلّه، لأننا لم نفقد هذا الدور حتى نستعيده، بل ما زلنا نمارسه منذ أن أنعم الله تعالى علينا بخدمة أهلنا في مجتمعنا، وخدمة شعبنا حيثُما كان، وخدمة أمتنا في كل قضاياها الملتهبة، من خلال فهمنا الإسلامي لمجريات الأمور ومستلزماتها واحتياجاتها فوق هذا الكوكب الذي يعاني من الظلم والظلمات.

وهل للدور الإصلاحي مفهوم إنساني؟ نعم، بكل تأكيد، بل هو موغِلٌ في الإنسانية، ولكن السؤال هو: ما الذي تقصده عندما تتحدث عن “استعادة الدور الإصلاحي بمفهومه الإنساني”؟ وهل هناك مفهوم غير إنساني للدور الإصلاحي؟!

إن كل عملية إصلاح مُجتمعي أو سياسي أو اقتصادي أو تربوي أو فكري لا بدّ أن تحمل في برنامج اهتماماتها البعدَ الإنساني، لأنها أساسا ما جاءت إلا لخدمة الإنسانية، وخدمة الإنسان كإنسان، أيا كان وكيفما كان وأينما. ولكنّ كل عملية إصلاح لا بدّ لها من مرتكزات تنطلق منها، ومفاهيم تنبني عليها، لأن الإصلاح لا يأتي من فراغ، كما أنه لا يصل إلى فراغ. فلا بدّ إذًا من خلفية فكرية لكل عملية إصلاح يؤديها فردٌ أو جماعة. فما هو الفكر، وما هي الخلفية الإيديولوجية التي ينبغي أن ينطلق منهما حاملو راية الإصلاح؟

إن الإسلام بحدّ ذاته، بل إن الإسلام وحدهُ يحمل في ثنايا “مشروعه الإصلاحي” المفهوم الإنساني، دون سواه من “المشاريع” التي تصطبغ بصبغة الإصلاح، لكنها مشاريع مبنية على محاولات ونظريات تجريبية متغيّرة ثبت فشلها الذريع على أرض الواقع، وعلى مرّ العصور، ذلك أن الذين مارسوها لم يقصدوا أبدًا خدمة الإنسانية، ولا الوصول بالإنسان إلى برّ الأمان، بل استغلوا المفاهيم الإنسانية لفرض هيمنتهم واستعباد الشعوب.

خلال فترة لا تتجاوز 23 سنة استطاع الإسلام- ومن اللحظة الأولى- أن يحقق للإنسانية ما لم تحققه مزاعم المُبْطلين طوال قرون. ولا يزال الإسلام هو الرافعة الربانية الأصيلة لإنقاذ البشرية مما هي فيه، ولإصلاح ما أعطبه الفاسدون وما أتلفه المفسدون، الذين يتمسحون بالإنسانية صباح مساء، بل وضعوا لها معايير تلغي كل ما سواها، فسحروا بها أعين الناس؛ أولئك الناس الذين كانوا هم الضحية الوحيدة لنظرية “الإصلاح  بمفهومه الإنساني”!!

ويجوز لك الآن أن تسأل: ما الداعي، إذًا، أن يتحدث أناسٌ عن استعادة الدور الإصلاحي بمفهومه الإنساني، وهو دورٌ لم يغِب عن الساحة أصلا حتى يُستعاد؟ ولماذا بمفهومه الإنساني، وليس بمفهومه الإسلامي؟ وما معنى “المفهوم الإنساني”؟ هل المقصود ضوابط هذا الإصلاح وقواعده وشروطه؟ أم المقصود أن يعمّ هذا الإصلاح بخيره وآثاره وثماره كلّ الإنسانية؟ هذه مسألة تحتاج إلى توضيح، وليس إلى مجرد “بوست” يثير ألف سؤال وسؤال، يُلقى على عُجالة على قارعة الفيسبوك!

ومن أي مفهوم سننطلق في فهم المسألة؟ هل نتبنّى “النظرية” الأممية في شرح “المفهوم الإنساني”؟ أم نتبنّى النظرية الإسلامية، التي جاءت “رحمة للعالمين” (للإنسانية) بقواعد وشروط وضوابط وآليات ومداخل ومخارج ومفاهيم خاصة به، ثبت على أرض الواقع أنها الأفضل والأنجع في خدمة الإنسانية؟

هل نقبل  بتجميعات الأمم المتحدة وما يسمى بالمجتمع الدولي- على سبيل المثال لا الحصر- حتى نستعيد الدور الإصلاحي؟ أم ترانا نحتاج إلى وَهْمِ “حوار الأديان”، الذي هو في الحقيقة حوار “أسياد وعبيد”، حتى نحقق للدور الإصلاحي بعدَهُ الإنساني؟ أم أنها المصلحة الضيقة التي باتت مُقرِّرة لمصير كل النظريات الإصلاحية، وتريد حشرها في ثقوب لا يخرج منها النور أبدا؟ عجيب أمر من يفكرون بهذه الطريقة، التي تنمّ عن قصور واستخذاء!

نفهمُ جيدا وضْعَنا، هنا في الداخل الفلسطيني، وقد أشبعناه تحليلا وشرحا عبر سبعين سنة، ولكن هذا لا يعني أبدا أن نتنازل عن مشروعنا الإسلامي بكل أبعاده، لصالح مشاريع أخرى (مبنية على الشراكة الفكرية، لا الشراكة الميدانية التنفيذية)، تتحدّث عن “ثقافتنا العربية”، دون أن يقدّم لنا أحدٌ، حتى الآن، جوابا على سؤالنا الذي طالما طرحناه عشرات المرات: ما هي الثقافة العربية؟ ما هي تفصيلاتها؟ ما هي عناصرها؟ وكيف نشأت؟ ومن هم رجالها ونساؤها؟ وما تاريخها؟ وما هي مضامينها؟

وهل عرفت البشرية شيئا اسمه “الثقافة العربية” بمعزل عن بُعدها الإسلامي؟

وهل المقصود بـ “الثقافة العربية” ما تعاطاه العرب قبل الإسلام؟ أم ما فرضته الأنظمة العربية الجبرية في زماننا، حين عملت بكل وسيلةِ بطشٍ وقمعٍ على استبْعاد الإسلام من كل مفهوم للثقافة، وكرّست البعد “القومي العربي” وزرعته حشرا، دون أن تكون له ثمرة يستفاد منها؟!!

لماذا يريد البعض – اليوم بالذات- تجنّب الحديث عن الأسس الإسلامية المتغلغلة عميقا في جذور “الثقافة العربية”، وهي الخلفية التي لم يكن للعرب من دونها مكانة في التاريخ الحضاري ولا في الحاضر الإنساني؟

وإذا كان ربُّنا سبحانه وتعالى قد أخبرنا في القرآن الكريم “إن الدين عند الله الإسلام” (بكل أبعاده؛ التعبدية والتوحيدية والعقائدية والثقافية والتربوية والسلوكية والفكرية والحضارية…)، وأن جميع الأنبياء من لدُن آدم عليه السلام، مرورا بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وانتهاء بمحمد صلى الله عليه وسلم، كلهم على دين واحد، هو دين التوحيد الذي هو الإسلام، فهل يبقى هناك حديث عن “تعاليم أدياننا”؟؟؟!! وما هي أدياننا، إذا كنتُ أنا- كمسلم- أعتقد أن الله واحد أحدٌ لا شريك له، وأن الرب الواحد الذي خلق الكون بما فيه، أمر خلقه بالتزام دين واحد، هو الإسلام؟ ولماذا إذًا أتعبّدُ بالإسلام إذا كنت أعتقد أن هناك أديانا أخرى فيها من التعاليم ما ينفعني، وما ينفع الإنسانية، رغم أن القرآن العظيم أنهى هذه المسألة وحسمها، ببطلان ما سوى الإسلام من عقائد سابقة؟

في هذه القضية لا مجال للنقاش، وإلا دخل الخلل في العقيدة، وهنا يلزمك أن تصلح هذا الخلل، وإلا فأنت في خطر كبير.

وحتى نكون واضحين، فإن التنازل عن القناعات شيءٌ، وهو مرفوض البتّة، والتعاون مع الآخر شيء مختلفٌ، وهو محمودٌ في ظروفه ومكانه وضروراته ودوافعه.

ولو كانت المسألة غير هذا، لما بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، كل هذا الجهد، ولما جاهدوا في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله هي الإسلام! ألم يقل عليه الصلاة والسلام “لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي….”؟ لأي شأن عظيم قال هذا عليه الصلاة والسلام؟ أما كان يسعه- بحسب نظرية بوستات الفيسبوك- أن يطأطئ قليلا – حاشاه عليه الصلاة والسلام- حتى تمر عاصفة المشركين؟

يبدو لي أننا أمام حالة استرضاء للآخر، حتى لو كان في ذلك تنازل عن “الدور الإصلاحي للمشروع الإسلامي؟ فلماذا عليّ أن أسترضيِ الآخر بالتنازل عن قناعاتي، وهو الذي لم ينظر إليّ بهيبة واحترام (حتى لو كان هذا الاحترام مصطنعا) إلا لأنني حملت مشروعا وأصررت على كل تفصيلاته، وأثبتُّ أصالته وآثاره الإيجابية على المجتمع؟ ولماذا أفعل أنا ذلك  بينما الآخر يصرّ على قناعاته ويروج لها، ويقول لك بصراحة متناهية: أتعاون معك من منطلقاتي ومفاهيمي وقناعاتي؟ أهو أحقُ بهذا الإصرار مني؟ لماذا نرضى بأسلوب الآخر في التعاطي مع القضايا التي نريد معالجتها، إلى الحد الذي يقبل فيه البعضُ بالذوبان في “مفاهيم الإنسانية” و “ثقافة العرب” و “تعاليم الأديان”، ثم يكون “مسك ختامها” استيعاب مفاهيم المدنية الحديثة!!

وما هي المدنية الحديثة، التي يجب على الخطاب الإصلاحي أن يستوعبها؟ وهل يستوعبها ويُطوّعُها بحيث تنسجم معه، أم يلائم هذا الخطابُ نفسَهُ مع مقتضياتها ومضامينها؟

تُعرّف المدنية الحديثة بأنها الدولة (المجتمع، الإطار الاجتماعي الناظم) التي تحمي جميع أفراد المجتمع، وتحافظ عليهم، بغض النظر عن اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والفكرية. ويعيش الأفراد في هذا المجتمع وفق نظام معيّن من القوانين (هي في حقيقتها قوانين وضعية قاصرة تتغير وتتبدل وفق المصلحة)، بحيث لا يتعرّض أي شخص لانتهاك حقوقه من قبل طرف آخر أو مجموعة أخرى. وهو (أي الشخص المستهدف) يتوجه إلى الدولة (مطالبا بحمايته) حينما تتعرض حقوقه للتهديد والانتهاك. فكيف هو حالنا نحن في هذه البلاد (ذات الطابع المدني الحديث!!)؟ وماذا يفعل الذي تنتهك الدولة ذاتُها حقوقَه، وتستهدف وجودَه، وتسعى إلى اقتلاعه من جذوره؟ إلى من يلجأ؟ أيلجأ إلى الأمم المتحدة مثلا؟!!!

ومن مباديء المدنية الحديثة ألا تعمل الدولة المدنية على مزج الدين بالسياسة، وفي نفس الوقت لا تقف ضد الدين.  هل هذا ما نريده؟ وهل فعلا أن الدولة المدنية لا تقف ضد الدين لدى اختبارها على أرض الواقع؟ نحن – المسلمين- أكثر من ذاقوا “نعيم” هذه المدنية على جلودهم!!. وهل هذا ما يحمله الإسلام، وما يريده المشروع الإسلامي المعاصر؟ أليست مسألة الدين والسياسة واحدة من أشرس المعارك التي نخوض غمارها في مواجهة التيار الإقصائي؟

ومن مباديء المدنية الحديثة المواطنة التي لا يعرَّف المواطنون فيها بناء على دينهم (أو مهنتهم أو إقليمهم) وإنما يعرّفون قانونيا على أنهم مواطنون؟ أحقا؟! أهذا ما يحدث فعلا؟ أيحدث هذا في أميركا، أم في فرنسا، أم في بريطانيا، أم في الصين، أم في روسيا، أم في الهند، أم في بلاد السمن والعسل؟ ولماذا تسعى المدنية الحديثة إلى إلغاء الهوية الدينية من المواطنة؟ ما الذي يقلقها في الهوية الدينية؟ وأية هوية دينية هذه التي يستهدفونها؟ هل هي كل هوية دينية، أم هوية دينية معينة ومحددة؟!

ومن مبادئ المدنية الحديثة أن الدولة تقوم على نظام مدني يتضمن قبول الآخر والتسامح والمساواة في الحقوق والواجبات؟ فهل هذا ما نتفيّأ ظلال نعيمه في دول المدنية الحديثة؟!! أنضحك أم نبكي؟

ومن مبادئها كذلك الديمقراطية؛ ذلك المبدأ الذي يزعمون أنه يمنع احتكار الدولة غصبا من شخص أو مجموعة أو عائلة أو نُخبة؟ فكم من دولة اختُطفت باسم الديمقراطية؛ ذلك “الدين الجديد” الذي به يريدون إلغاء كل ما له علاقة بالسماء ورب الأرض والسماء؟

ومن مبادئها توفير فرص العمل للجميع، وتأمين العيش الكريم، وبناء مجتمع اقتصادي نموذجي، وتوفير الاستقرار الأمني والنفسي للجميع، وضمان حرية التعبير عن الرأي، وتوفير الرعاية الصحية والتعليمية للجميع…

فأين تجدون مثل هذا يتحقق؟ في أية دولة مدنية حديثة؟ وما يهمني أكثر هو: أين نجد هذا في حالتنا نحن، كمسلمين في بلادنا ووطننا، وكمسلمين في كل بقاع الأرض؟!!

إن الخطاب الإصلاحي الراشد الوحيد الذي أثبت جدارته تاريخيا وواقعيا، هو الخطاب الإسلامي، وهو وحده الكفيل بتحقيق المعادلة المرجوة: دولةٌ عادلة فعلا، ومجتمع قوي متماسك منسجم سليم، خال من كل السلبيات، بما في ذلك العنف والجريمة بكل أنواعهما، ومواطنٌ إنسانٌ ينعُم بالعدالة الاجتماعية، وبالحرية الحقيقية البنّاءة، وبالأمان الشخصي والأمن الجماعي، والراحة النفسية واللقمة النظيفة، والرعاية الصحية الكاملة، والتربية الصحيحة التي تبني ولا تهدم.

علينا أن نقول هذا بكل إيمان راسخ، دون تلعثم أو تردد. ولو لم نقلها، ولو لم نؤمن بها لما حملناها إلى الناس، وعانينا من أجل ذلك ما عانينا وما نعاني، حتى حاربتنا جهات الأرض الأربع عليها، واستهدفتنا، بكل قسوة وغلظة، وبكل تجرد من أي بعد إنساني…

  

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى