أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

رواية طويلة اسمها غزة

حامد اغبارية

 كيف يمكن لبقعة صغيرة جدًّا من جغرافيا الكُرة الأرضية، لا تكاد تُرى على الخارطة، ولا تتجاوز مساحتها 360 كم، بخاصرة ضيّقة أقصرها خمسة كيلومترات وأطولها خمسة عشر كيلومترا، أن تصمد كل هذا الصمود في وجه أعتى قوة عسكرية في المنطقة، وأن تتماسك بكل هذه القوة والأنفة في مواجهة حصار لئيم مستمر منذ اثني عشر سنة من السنين العجاف، وأن تقف بصلابة وعنفوان أمام مؤامرة كونية ممتدة من واشنطن إلى أوروبا، إلى أروقة الأمم المتحدة، إلى تل أبيب، إلى عواصم قطعان العرب من أنظمة العار في القاهرة والرياض وعمّان ومسقط وأبو ظبي والرباط ومعها رام الله العامرة بالفساد والنسيق الأمني والاستخذاء؟ كيف يمكن لغزة أن تحقق هذه المعادلة المحيّرة، بل هذه المعجزة المُسطّرة؟ كيف تخرج من وسط الركام منتصرة مظفرّة؟

لو أن غزة قصة من التراث أو أسطورة من أساطير الخيال، رواها لنا مفوّهٌ سيّالُ القلم، لقلنا: أصابته الحمّى فهذى هذيان المصروع، وشطح به الخيال حتى اخترع حكاية لا يمكن أن يصدقها ذو لبّ، لكنها ليست أسطورة، ولا هي من الخيال، بل هي تفاصيل نعايش لحظاتها، ونرى بأم أعيننا ما لا تصدّقه الأسماع.

هي غزة العرب الكنعانيين، غزة هاشم، غزة قطز، غزة صلاح الدين، غزة عسقلان، التي لا يقف على بواباتها طامعًا فيها إلا مغرورٌ أحمقُ، يقف معتدًّا بقوة بطشه، فما هي إلا لحظة أو لحظات حتى يصاب هو بحمّى الهزيمة وهذيان الخسران المبين.

في القرن السابع الهجري (الثاني عشر الميلادي) لقنت غزةُ حاميةَ التتار درسا، فكانت معركة انتصر فيها المسلمون بقيادة ركن الدين قطز، والظاهر بيبرس، على التتار في أول معركة سبقت معركة عين جالوت الحاسمة القاصمة، وكان التتار يومها قد سيطروا على بلاد المسلمين، وبدا أنهم لا يمكن هزيمتهم، ولا حتى مجرد التفكير بمواجهتهم. وكانت غزة قبل تلك المعركة قد صمدت في وجه حصار التتار ما يزيد على خمسة أشهر، أبلى فيها أهل غزة بلاء حسنا، وسجل لهم التاريخ مواقف مشرفة في التكافل والتعاضد، حتى جاءتها النصرة من مصر أيام المماليك. وكان المسلمون يومئذ في حالة يُرثى لها من المذلة والخضوع والشعور بالهزيمة، تماما كما هم اليوم أمام المشروع الصهيوني ومِن خلفِه تتار العصر من الأمريكان وأوروبا الصليبية. وسجل التاريخ يومها أن معركة غزة كانت فاتحة للنصر في عين جالوت.

وكان الصليبيون قبل ذلك قد احتلوها عام 1100 للميلاد، ولم يهدأ لأهل غزة بالٌ، بل قاوموا الوجود الصليبي وأذاقوه الويلات، حتى حررها منهم صلاح الدين عام 1187 للميلاد. وكانت غزة أول مدينة في فلسطين فتحها المسلمون زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وظلت على العهد والثبات حتى يومنا هذا، ولم تغير ولم تبدل، وستبقى كذلك حتى يأتي أمر الله.

فليس عجيبا، إذًا، أن تصمد غزة في أيامنا كل هذا الصمود الأسطوري، وتلقن أعداءها، وهم كُثرٌ (وأهونُ من فيهم الاحتلال الصهيوني)، درسا في العزة والأنفة والرجولة والبطولات. وليس عجيبا أن يجترح أهل غزة الحياة من وسط الركام، وأن يصنعوا المجد لأنفسهم ولأمّتهم، رغم حصارها برا وبحرا وجوّا، من الاحتلال ومن “الأشقاء”، الذين يساهمون في مؤامرة إذلالها مع أعداء الله وأعداء الإنسانية والظالمين، وأنّى لهم هذا. لم تركع غزة يوما في تاريخها، ولن تركع، بل لمّا سدّت علينا المنافد والمنافس من فوق الأرض، انتزعوا إكسير الحياة والكرامة من تحت الأرض، بأدوات بسيطة بدائية، لكنها حققت ما لم تحققه الطائرة والدبابة والمدفع والمجنزرة، وفشلت أمام إرادتها كلُّ الخطط العسكرية، ما ظهر منها وما بطن.

فما هي قصة غزة؟

إنه الإيمان الصادق بالله، والعزيمة والإرادة، وإنها الثقة بالنصر، واليقين بأن سوء الحال لا يحول دون صنائع الرجال، وأن عنوان المرحلة هو الصبر والعض على النواجذ، والإقبال دون الإدبار، والابتسام للموت، كما يبتسم عريس في يوم زفافه.

نعم، تقدم غزة الشهيد تلو الشهيد، لا لأنها تحب الموت، بل لأنها تريد الحياة، تودع الشهيد بزغرودة أم ثكلى، وهي تنشد:

     ما زال عندي من الرجالِ رصيدٌ       فاحملوهم إلى صروح المعالي

غزة هذه التي يريدون لها الموت، صوّرت لهم كل أشكال الموت حتى أصيبوا بالخبال، فلم يعُد كبيرهم الذي علمهم السحر يدري شماله من يمينه.

غزة هذه التي يريدون خنقها، علِقت شوكةً في حلوقهم حتى اختنقوا.

غزة هذه التي يريدون إذلالها، مرغت أنوفهم في الرمال الصفراء.

غزة هذه التي يريدون إخضاعها، أخضعتهم وألزمتهم حدودهم، وأرسلت لهم تقول: إلى أين المسير؟ إلى أين المصير؟ أحمقى أم أغبياء حتى تقتحموا خدرها دون استئذان، وقد ظننتم أن تجويعكم لها يخضِعُها؟!!

إنها غزة التي لم تقل كلمتها الأخيرة بعدُ.. فلا تقربوها واجتنبوها، فإنها محرّمة عليكم إلى الأبد، وراجعوا حساباتكم التي تخطئون فيها كل مرة، واقرأوا التاريخ واستوعبوا دروسه.. فهنا غزة… هنا البداية والنهاية، هنا الروايةُ بطولها وعرضها، وكل تفاصيل حاكيتها…

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى