أخبار رئيسيةأخبار عاجلةمقالات

عذرا تويـــتر، وألف عذر فيــــسـبوك!

الشيخ كمال الخطيب.

لقد أصبحت العلاقة بين الكثيرين منا وبين هاتفه الخلوي مثل علاقة الإنسان مع ظله الذي يلازمه حيثما كان ولا يفارقه لا في ليله ولا في نهاره ولا عند قومه أو نومه ولا عند طعامه وشرابه ولا وهو جالس في بيته ولا وهو يمشي في الشارع على قدميه. يتفحص ما فيه ولا وهو يقود سيارته مع ما في ذلك من مخاطر لا بل إنه يدخل معنا إلى المسجد، ليس وقد أغلقت وكتمت أنفاسه، وإنما ليظل يذكرنا بحضوره القوي برنّات مكالماته أو رنين رسائله فما أن يسلّم أحدهم للصلاة إلا وهو يتفقده، بل إن بعضهم وخلال انتظار الصلاة أو بعد نهايتها فلا بد من عمل جولة ولو قصيرة بين صفحاته وعناوينه. وأسوأ من ذلك ما أسمعه عمن يدخل هاتفه معه إلى بيت الخلاء ولا يريد أن يضيع ذلك الوقت من غير جولة مشاهدات أو حتى رسائل نصية بل ولعلها مكالمات!!! رغم النهي النبوي الشريف عن الكلام، كل كلام، في بيت الخلاء.

لم يبالغ من وصف هذه الآله بكونها آفة العصر ليس لأنها شر مطلق، بل لأن منافعها وفوائدها لا يحد لها حدود ولكن لأن سوء استعمالها والمبالغة في الإرتباط بها يصل الى حد الإدمان حتى أن من الناس -وما أكثرهم- يمكن أن ينسى أهم حوائجه ولا ينسى هاتفه ويمكن أن يقدم امتلاكه على كثير من كماليات بل من ضرورات حياته.

وإن من أهم ما يشغل الناس في هذا الجهاز الذي لم يعد مجرد هاتف هي تلك الشبكة العنكبوتية وما تسمى مواقع التواصل الإجتماعي العامة منها والخاصة وهي التي تمسي على تقنية منها وتصبح على جديد غيرها، حيث أصبح لكل شخص تقريبًا موقعًا يخصه أو صفحة باسمه، ليس أنه من خلالها يقرأ ما يريد بل أن يكتب ما يشاء في العامّ والخاص. إنه العالم الجديد لأحدنا، إذا غاب عن الناس فإنه لا يغيب هو عن عالمه، وإذا انقطع عن كل الخلق فإنه لا يستطيع أبدًا أن ينقطع عن ذلك المخلوق. أصبح هو وسيلة التواصل، لا بل إن الجفاف قد يسود العلاقة بين خاطبين أو بين زوجين أو بين صديقين، فيظل هو الوسيط الصامت بينهما بل يظل هو حافظ الأسرار وبنك المعلومات والخزنة الإلكترونية التي بها يحتفظ صاحبه بل بكل وأدق خصائص حياته، وما علم ولا درى أنه يمكن يومًا لهذا الجهاز أن يخونه وأن ينقض العهد معه عبر قدرة أحدهم أن يخترقه (أو أن تقوم بذلك شركة فــيسبوك أو تويتر مجانًا كما تم الكشف عن ذلك مؤخرًا) وإذا به يفشي كل أسراره التي ما كان يتمنى أن يطّلع عليها أحد من الخلق أبدًا.
ولأن الحال أصبح كذلك ولأن كلمة تويتر وكلمة فيسبوك أصبحتا على كل لسان وما بقي أحد ليعتبا عليه، فإنني أراها ضرورة وواجبًا أن أجدّف بعكس التيار وأن أجتهد في تدارك ما يمكن تداركه ولأصرخ في وجه تويتر وفيسبوك معلنًا اعتذاري ورفض أن أكون ضمن قائمة الذين يستعبدهم تويتر أو يستخدمهم تويتر بدل أن يستخدموه ويستعبدوه لما هو نافع.

عذرًا تويتر وألف عذر فيسبوك:

فلن أصدق ولن أثق بكل معلومة أو خبر أنت مصدره ولأنني أعلم أنك قد أصبحت مثل السوق الشعبي والبازار الواسع الذي يحتوي كل أنواع البضاعة جيدها ورديئها، ثمينها ورخيصها، الأصلي منها والمزيّف، المحلي والمستورد. إنني لن يغريني بريق ولمعان بضاعتك وأسلوب صاحب المعلومة وبراعة إلقائه، حتى أتقبل معلومته وكأنها خبر السماء والحقيقة المطلقة في هذا الكون، لأن الصدق كله والحقيقة الوحيدة هي التي مصدرها كتاب الله سبحانه (الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد).

عذرًا تويتر وألف عذر فيسبوك، فلن أكون ضمن الكثيرين ممن وثقوا بكل ما فيك ولسان حال أحدهم يتحدث عن خبر أو معلومة فإذا سئل عن مصدرها قال المعلومة صحيحة فقد قرأتها في الفيسبوك، رأيتها على تويتر، سمعتها في اليوتيوب، وما علم أن هذه المعلومة يمكن أن تكون مزيفة مثل تلك البضاعة في ذلك البازار الشعبي الكبير.

عذرًا تويتر وألف عذر فيسبوك: ولن أجاري السفهاء وما أكثرهم في قائمة ضيوفك ومشاركيك وأعضاء ناديك حيث أصبحت يا تويتر ويا فيسبوك لا تبحث إلا عن الكم بعيدًا عن الكيف، وحيث أصبحت أنت عنوان من لا عنوان له، وحزب من لا حزب له. إنهم سفهاء كثيرون ورعاع أكثر ممن لا يرون فيك إلا وسيلة للسب والشتم والقذف وبذاءة اللسان بما لا يقدروا أن يفعلوه في وجوه غيرهم بينما هم أصحاب شهادات عليا في فن البذاءة ومهنة الشتيمة.

إنه ذاك التافه والسخيف الذي يسمح لنفسه بل يتمتع وهو ينال ممن هو أكبر منه سنًا أو أكثر منه علمًا، لا بل إنه يصبح العلّامة الموسوعة الذي يعرف في كل علوم الأرض، في الدين وفي السياسة وفي الفيزياء وفي البورصة وفي الرياضة وفن الطبخ والتحليلات العسكرية، إنه صاحب صولات وجولات ومداخلات وتعقيبات في كل هذه العلوم، والغريب أنه دائمًا على صواب وأن الحقيقة ملك يمينه. ما أكبر جرمك فيسبوك وما أبشع جريمتك يا تويتر وأنت عنوان تطاول الصغار على الكبار والسفهاء على العقلاء والأراذل على الاتقياء والجهلة على العلماء والخونة العملاء على الشرفاء، حيث في سوقك الكبير يمتلك الجميع نفس الإمكانات ونفس الأدوات.

عذرًا تويتر وألف عذر فيسبوك: ولن أكون ممن يتتّبعون العورات وينتهكون ستر الحرمات وما أكثرهم في ناديك وفي قائمة متصفحيك. إنهم الذين يستمتعون بأكل لحوم أعراض الناس عبر نشرا الشائعات والأكاذيب والافتراء. فأنت من سهّل على كل عديم خلق وشرف أن ينشأ صفحة وأن يختفي خلف إسم وهميّ ومن هناك يطلق لسانه المريض ينهش لحم هذا وينتهك عرض تلك.

بل وما أكثرهم في ناديك والذين يلبسون بدايةً ثوب الناصح الأمين وصاحب الخلق القويم ويبدأ بالكتابة والتواصل فيما هو نافع ومع الأيام ومع بعض الألفة التي مع الأسف يسهل خلقها تبدأ بكلمات المجاملات المكتوبة ثم لا تلبث أن تتحول إلى الكلمات المسموعة ثم تصير إلى الصور والمشاهد وإذا بالطريق مشرّعًا وسريعًا نحو الإثم والحرام، وممهدًا للإبتزاز بكافة أشكاله الماليّة أو الأخلاقية أو غير ذلك.

عذرًا تويتر وألف عذر فيسبوك لكما خاصةً ولأمثالكما عامّةً، فقبل مجيئكما فقد كانت للناس أنماط حياة وسلوكيات فيها أشياء نافعة كثيرة لهم، وإذا بها تتلاشى وإذا بك يا فيسبوك تحتلّ مكانها. نعم لقد دخلت على العائلات والأسر من أوسع الأبواب، ولكنك في نفس الوقت قد أغلقت كل الأبواب والنوافذ بين أفراد الأسرة الواحدة، حيث لكل واحد من الآباء والأبناء عالمه الفيسبوكيّ الخاص وأصدقاؤه الجدد الخاصّون به ، ليس أن لكل ابن عالمه الجديد، بل وإن حصل والتقى أفراد الأسرة في مناسبة معينة فإذا كل واحد منهم قد وجّه وجهه صوب قبلته الجديدة حيث هاتفه، وراح يبحر بين أمواجه الفيسبوكّية وعواصفه التويتريّة وينسى ولا ينتبه أن أباه يجلس أمامه على الكرسي المقابل، وينسى أن أمه أو أخته تجلس قريبًا منه ولعلّها هي كذلك تنسى أن ابنها أو أخاها قريبٌ منها، لأنه إذا كان هو قد أبحر في ذلك العالم فإنها هي قد سبقت بالغوص عميقًا في عالمها الخاص ولا ينتبه أحدهم أن حوله أحدًا من البشر إلا بعد شهقة تعجّب من أحدهم أو ضحكة غريبة يضحك بها تكون جزءًا من أحداث ومحادثة العالم الخاص الذي كان يتواصل معه.

عذرًا تويتر وألف عذر يا فيسبوك: فإنها سلوكيات تصل إلى حد التفاهات أن يكون الزوج في غرفة أو في مكان عمله فيكتب منشورة وإذا أول المعلقين والمعقّبين هي زوجته أو العكس واذا به سيلٌ من الإطراء والثناء على تلك المعلّقة الفريدة أو المستورة الصماء. لا بل إنك يا فيسبوك قد اقتحمت علينا صالونات بيوتنا واقتحمت علينا مطابخنا وموائد طعامنا، فكله لابد أن يظهر على صفحاتك وأنكى بل وأخزى من ذلك أنك عند البعض قد اقتحمت غرف نومهم!!!

ولأنك يا فيسبوك كذلك ولأنك يا تويتر أكثر من ذلك ولأنكما أصبحتما مثل القرينين لنا حتى أنكما لا تفارقاننا عند النوم وعند الإستيقاظ، فأصبح ورد الصباح عند الكثيرين منا ليس قراءة جزء من القرآن أو أذكار الصباح (واذكر ربك كثيرًا وسبّح بالعشيّ والإبكار). وإنما أصبح ورد الصباح هو جولة بين صفحاتك مع تفتّح عينيّ أحدنا.

لا وألف لا يا تويتر ويا فيسبوك، عن نفسي أحدّث وأنصح من أحبّ وكل الناس أحبّ ألّا يكون ورد الصباح صفحات الفيسبوك ولا تويتر وإنما صفحات القرآن الكريم وآياته البيّنات، إنه كلام الله الذي كلّ جزء منه وكل صفحة فيه بل وكل كلمة فيه أثمن من كل كلام وأصدق من كل حديث فيك يا فيسبوك ويا تويتر، ولعله فيكما ورد ما قاله الإمام الضحّاك: “يأتي على الناس زمانٌ تكثر فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف عليه الغبار لا ينظر فيه” وهل الأحاديث المسموعة والمقروءة والمرئية إلا فيكما وأمثالكما.
فلن أبدأ صباحي بك تويتر ولن أختم مسائي فيك ومنك يا فيسبوك وإنما سيكون هذا مع خير الكلام، كلام الله تعالى وأذكار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ولأن العقلاء قديمًا قالوا: “وخير جليسٍ في الزمان كتابٌ” فإنك وبخبث يا فيسبوك قد أسميت نفسك بهذا الإسم “كتاب الوجه” لتكون أنت البديل عن الكتاب ومع الاسف فإنك قد نجحت في ذلك، حتى أنك استطعت أن تنحّي الكتاب جانبًا، فأصبح رواد الكتاب قلائل وأصبح من يقرأون الكتب قليلين لا بل إنها القطيعة بين أبنائنا وبين الكتاب أيّ كتاب. نعم لقد كان للكتاب مكانةٌ عند بعض أبنائنا وشبابنا وإذا بك تحتلها، فلا في البيت يقرأون ولا في المكتبة العامة يقرأون ولا في طريق الجامعة يقرأون ولا في القطار في الرحلة الطويلة يقرأون، إنهم لا يقرأون الكتاب وإنما أنت البديل يا كتاب الوجه فيسبوك.

عن نفسي أحدث يا كليكما، لن أسمح أبدًا أن يُهجر الكتاب وأن يتنحّى جانبًا حزينًا مهمومًا على رفوف المكتبات، يجب أن يظل الكتاب حاضرًا ومن معينه ننهل وبين صفحاته.

لا بل إنهم أصبحوا يتندّرون لما يقولون لقد سألت الشيخ جوجل باعتبار أن زميلك، موقع جوجل أصبح مرجعيّتهم بدل الكتاب نفسه. نجد اللآلئ والكنوز، إنه الكتاب له نكهة ورائحة جذابة هي ليست فيك ولن تكون يا فيسبوك ولا أنت يا تويتر.

وإذا كنت فيما تقدّم قد اعتذرت منكما، فيس بوك وتويتر، اعتذارًا مملوءًا بالعتب واللوم، إلا أنني أجد نفسي ملزمًا لأقول لكما شكرًا، نعم شكرًا لأشياء كثيرة نافعة لمن يريد النفع، ولكنه شكر خاص لأنك أيها الفيس (الوجه) قد أزلت الأقنعة عن كثير من الوجوه وظهرت على حقيقتها بلا مكياج ولا ألوان. ولأن كثيرين من الناس كان يصعب علينا قراءة شخصياتهم أو الفراسة فيهم كانت صعبةً جدًا، وإذا بك أنت تجعلهم عبر ما يكتبون والمواقف التي عنها يعبّرون نعرفهم ونعرف مواقفهم ونعرف مشاعرهم بل ونعرف أصالتهم أو نعرف زيفهم. إنك نجحت أيها “الفيس” أن تكشف الوجوه كل الوجوه بل وأن تخترق القلوب، لا لشيء إلا لأن الألسن كما يقال مغارف القلوب. وهنا كانت الوجوه على “الفيس” مغارف القلوب. شكرًا لك لأنك ساعدتنا في كشف زيف بعض الوجوه، وبالمقابل كشفت لنا أصالة وطيب معدن وجوه كثيرةً بل إنها الأكثر!

فيس بوك وتويتر: لن أبوح بسرٍ ولكنني أتساءل كما تساءل غيري بل كما تجرّأ غيري على أنكما المقصودان وأشباهكما بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: “والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلّم السباع الإنس، وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، وتخبره فخذه بما أحدث أهله بعده”. حيث ذهب بعض الشراح والمفسرين أن المقصود بتكلم السوط وشراك النعل والفخذ هو ما اختُرع في عصرنا من وسائل اتصال حديثة من هواتف متنقلة ووسائل اتصال، تنقل أدق الأصوات بل أوضح الصور، وتسير مع الإنسان وتلازمه حيثما كان في الأرض أو في السماء، ويتواصل بواسطتها مع أهل بيته حيثما كانوا.
* فيسبوك وتويتر وأمثالكما: فأنتم نعمة مثل السيارة وكل ما صنعت يد الإنسان، لكنكم بسوء الإستخدام أصبحتم نقمة.
عذرًا تويتر وألف عذر فيسبوك.

رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالديّ بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى