أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

خالد وماهان .. ترامب والصبيان

الشيخ كمال خطيب

# همة عالية ونفس طموحة

إنه الفارق الكبير بين أن تكون تطلعات الإنسان أرضية دونية، هي من جنس التراب الذي خلق منه جسد ابن آدم، وبين أن تكون تطلعاته سماوية علوية هي من جنس الروح التي هي نفحة من روح الخالق سبحانه وتعالى.

إنه الفارق الكبير بين من يشغله بطنه وفرجه وجيبه، وبين من يشغله دينه وشعبه وأمته.

إنه الفارق الكبير بين من لا يرضى إلا أن تكون يده هي العليا، وبين من لا تطيب نفسه إلا أن تكون يده هي السفلي ويقتات على فتات موائد الآخرين.

إنه الفارق الكبير بين من أحلامه كبيرة وآفاقه حدودها السماء وهمته عالية، وبين من يزحف على بطنه أثقلته الدنيا، فاثّاقل إلى الأرض. إنه كمن يفرح لمتاع فانٍ له بريق وزخرف، وبين من لا يرضيه إلا الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر.

إن همة المسلم لا تخفت ولا تضعف ولا تتراجع مع تقدم جيله، وإنما هي التي تقوى وتزداد مع زيادة إيمانه وقوة يقينه وصفاء روحه فهكذا هو المسلم، وفي هذا قال الشاعر:

سني بروحي لا بِعَدّ سنيني.   فلأسخرنّ غدًا من التسعين

عمري إلى الستين يركض مسرعًا   والروح ثابتة على العشرين

إن همة المسلم العالية ونفسه الطموحة هي ثمرة من ثمار الإيمان الصادق واليقين الذي لا يتزعزع. إنه ليس كمن يجري خلف سراب يحسبه الظمآن ماءً، وإنما هو الذي يتقدم واثق الخطى لأنه يرى بنور الله وينطق بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم {الله نور السماوات والارض} آية 35 سورة النور. {وما ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى} آية 3-4 سورة النجم.

إن همة المسلم العالية ونفسه الطموحة لا تتوقف عند حدود انتصار الإسلام وإقامة دولته، بل إنه يعتبر ذلك مرحلة ووسيلة توصله إلى الهدف الأسمى، إنها ليست إلا الجنة.

قد يكون ابن العشرين ولكنه تلفع بعباءة اليأس فلا يرى من الدنيا إلا سوادًا، وقد يكون ابن ستين وأكثر يملأه البشر والأمل والعزيمة، كمن دخل في سباق وبات في الشوط الأخير يكاد يصل إلى هدفه فيستجمع كل قواه، ويستخرج كل طاقاته لأنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى مبتغاه. ولقد قال ابن عقيل البغدادي، وقد جاوز الثمانين في وصف صاحب الهمة العالية يتحدث عن نفسه:

ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خُلقي      ولا ولائي ولا ديني ولا كرمي

وإنما أعتاظ شعري غير صبغته            والشيب في الشعر غير الشيب في الهمم.

# لن نرضي العيش في الحفر

يقول الأستاذ خليل صقر في كتابه جند المعالي صفحة 12: “إن من يرى المسلمين اليوم يجد أن كثيرًا منهم رضي بأن يكون مسودًا لا سيدًا، مقودًا لا قائدًا، تابعًا لا متبوعًا. وشهادة الواقع أبين شهادة وأوضح استدلال لما حدث من انقلاب في مفاهيم اتباع خير البشر وسيد الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، حتى ساد أعداؤنا، وسرنا ندخل في جحر الضب إذا دخلوه، ونرضى بسكنى النار إذا هم ارتضوه”.

إن هذا تفكير أصحاب الهمم الهابطة الذين لا يسعون من أجل التغيير، بل إنهم الذين لا يسعون لبلوغ القمم لأن في ذلك حاجة لبذل الجهد ودفع الثمن، ولأنهم لا يطيقون ذلك فإنهم يبدأون بشرح محامد وحسنات العيش بين الحفر وعند السفوح كما قال الشاعر:

ومن لا يحب صعود الجبال      يعش أبد الدهر بين الحفر

إن من عينيه إلى الأرض فإنه لا يرى إلا التراب وأوساخ الأرض والفضلات، وأما من عينيه إلى السماء فإنه يرى اتساعها ويرى أنوار الكواكب وجمال القمر، بل يرى شروق الشمس بل توهجها.

إن من تطيب نفسه للعيش في الحفر وعند السفوح، ولا يسعى لبلوغ القمم ويظن في ذلك السلامة، فإنه يجهل ولا يعلم أن عيش السفوح له ضريبة سيدفعها أكثر من الثمن والضريبة التي يدفعها من يسعى لبلوغ القمة الشماء.

إن عيش السفوح وفي الحفر سيضطره لدفع ضريبة كثرة من سينالون من كرامته وعرضه، لأن من يتنافسون عند السفوح في الحفر كثرٌ. وإن عيش السفوح هو عيش النفوس الهابطة التي سيجد أصحابها يستقوون بأنفسهم على بعضهم البعض، وليس بالسعي للوصول إلى القمم.

وإن المسلم الذي تذوق حلاوة الإيمان، ومن تنسم من عبق المجد، ومن تذوق حلاوة الكرامة فإنه لن يرضى أبدًا استمرار السير في قافلة العبيد، وإنه لن يقبل باستمرار أن يكون ذيلًا تابعًا، ولا مسودًا ولا مقودًا، إنه لا يقبل إلا أن يكون في مقدمة المواكب، وأن يكون سيدًا وقائدا.

إنه المسلم الذي كره عيش الحفر وضجر بالإقامة عند السفوح، فإنه قد عزم على تغيير هذا الواقع. إنه قد أخذ العهد على نفسه ومع الله سبحانه ألا يدخل جحر الضب بعد اليوم خلف أحد أيًا كان، ولن يقبل عيش الحفر فيسهل على كل مارق ومتطاول أن يهيل عليه التراب ويطوي صفحة وجوده، بل إنه الذي أقسم على عيش القمم، وعلى أن تكون يده هي العليا، وعلى أن يعود بل ويعيد الدنيا كلها لتعرف صفات وأخلاق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. نعم إن المسلم الذي رضع حليب الإيمان الصادق والاقتداء الحقيقي بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا ما خُيّر بين حفرتين، فإنه يختار حفرة القبر على ألّا يعيش بين الحفر وعند السفوح بينما غيره في القمم.

ونحن أناس لا توسط عندنا      لنا الصدر دون العالمين أو القبر

تهون علينا في المعالي نفوسنا      ومن يخطب الحسناء لم يُغله المهر

# من لاح له الفجر هانت عليه التكاليف

إن صادق الإيمان يعلم أن إيمانه بالجنة ونعيمها ركن من أركان إيمانه وإلّا فإنه الإيمان المثلوم الناقص، فالجنة في فهم وعقيدة المسلم هي يقين وهي عقيدة لكأنه يراها رأي العين. إنها ليست أوهامًا ولا سرابًا ولا وعدًا يُمنّي بها الإنسان نفسه.

ولأنها هي مبتغى المسلم ومطلبه ولأجلها، فإنه يعبد ربه ويتقرب إليه، ولأنها غالية فإن مهرها غالٍ، ولأنها كذلك فإن المسلم تهون عليه مشقات كثيرة من أجل الوصول إليها، فلأنه يعلم أن الله سبحانه قد جعل الجنة هي الأجر والثواب لمن أطاعه في الدنيا، ولأنها مثل الجزيرة التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر قنطرة السهر والبذل، فإنه يعمل جاهدًا لعبور القنطرة للوصول إلى جزيرة الأمان والطمأنينة.  لأجل الجنة فإنه يقوم من دفء الفراش لأجل صلاة الليل أو الذهاب للمسجد لصلاه الفجر. ولأجلها فإنه يتحمل حرّ الصيف ولهيب الشمس، فيصوم رمضان أو النوافل طمعًا في أن يكون جزاؤه الظلال والنعيم ولأجل الجنة فإنه يخرج زكاة ماله الذي تعب للحصول إليه ويعطيه لعباد الله الذين لهم فيه حق.

نعم إن من لاحت له الجنة أجرًا وثوابًا لمن أطاع الله في الدنيا ولمن عبده حق العبادة، ولمن نهى نفسه عن الهوى والمحرمات، إن من لاحت له الجنة فكأنما يراها رأي العين ويعلم أنها حق، بل إنه يشم رائحتها، هانت عليه التكاليف وهانت عليه المتاعب، وهان عليها دفع الثمن بل المهر مهما غلا.

ومن لاحت له بيارق النصر وساعة انتصار الإسلام، هانت عليه ما يلاقيه من أعداء الإسلام وظلمهم، وهانت عليه سهام الغدر يُطعن بها في الظهر من ذوي القربى، وهانت عليه أراجيف المثبطين واليائسين والمتشائمين، فلم يلتفت إليها أبدًا. إن بصره لا يرى به إلا الرايات الخضراء ترفرف، وإن سمعه لا يسمع به إلا دوي تكبيرات جحافل الخير تزحف نحو القبلة الأولى.

مثلما أننا نؤمن بالجنة وأنها حق، ولكأننا نراها رأي العين، فمثلها نحن نرى النصر والفرج وعز الإسلام القريب القادم بإذن الله تعالى. ولأجل ذلك فإن كل التكاليف وكل ثمن وإن غلا فإنه يهون، وصدق الشاعر إذ يقول:

بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها      تنال إلا على جسر من التعب

# خالد وماهان، ترامب والغلمان

ليس لأن أعدائنا شجعان، وليس لأنهم أصحاب عقيدة راسخة، ولكن لأن الجبن والذل أصبحا يلازماننا، ولأننا ابتعدنا عن عقيدتنا وديننا تغير الحال، فتسلطوا علينا، واحتلوا أرضنا، وهتكوا عرضنا، ودنسوا مقدساتنا وسفكوا دماءنا.

تذكر كتب التاريخ عن حوار جرى بين ماهان قائد الروم، وبين خالد بن الوليد قائد جيش المسلمين قبيل معركة اليرموك، فقال ماهان لخالد بن الوليد رضي الله عنه: “لقد علمت أنه لم يخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع، فإذا شئتم أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير وكسوة وطعامًا وترجعون إلى بلادكم، وفي العام القادم أبعث لكم بمثلها”. فردّ عليه خالد بن الوليد رضي الله عنه: “نعم إنه لم يخرجنا من بلادنا إلا الجوع والعطش كما ذكرت، ولكننا قوم نشرب الدماء، وقد علمنا أنه لا أشهى ولا أطيب من دم الروم فجئنا لأجل ذلك”.

هكذا تكون النفوس العزيزة المؤمنة، هكذا تردّ الصاع صاعين ولا تعطي الدنية في دينها، ولا تحني الهامات إلا لله الذي خلقها. إنها تطلب الموت فتوهب لها الحياة. هكذا كان نموذجها الصادق أبا سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه، فمع كل معاركه وإقدامه وفتوحاته لكنه مات على فراشه ولم يمت في معركة. وصدق حافظ إبراهيم في وصفه لما قال:

سل قاهر الفرس والرومان هل شفعت      له الفتوح وهل أغنى تواليها

غزا فأبلى وخيل الله قد عقدت              باليمن والنصر والبشر نواصيها

ولم يجُز بلدة إلا سمعت بها           الله أكبر تدوي في نواحيها

هكذا تعامل خالد مع ماهان قائد الروم يومها، فكيف يتعامل اليوم ترامب قائد الروم الجديد مع الغلمان والصبيان من حكام المسلمين؟

ليس أنه الذي يعطيهم ليرد عنه زحوفهم، ولكنه الذي يبتزهم ويفرض عليهم الإتاوة من أجل حمايتهم من شعوبهم. إنهم الصعاليك الذين يسلبون مقدرات شعوبهم ليضعوها فى جيب زعيم، عصابة الشر في هذا الزمان.

عزة المسلم نراها في خطاب خالد لهم، وذلة المسلم نراها ونسمعها في خطاب ترامب مع الغلمان ابن سلمان وابن زيد وأمثالهم من أشباه الرجال في هذا الزمان الأصفر الأغرب.

ولكنني على يقين أنها حالة عابرة وظرف غير عادي، وسنتجاوزه بإذن الله تعالى، وستعود الموازين إلى مسارها الصحيح فيه تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى. وإنني أراها والله كما أرى الشمس بعين الرأس، وكما أرى الجنة بعين القلب.

نحن إلى الفرج أقرب، فأبشروا.

رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى